بعد طول تفكير، وافقتُ على طلب جلالة الإمبراطور.
بالطبع، لم يكن السبب وراء قبولي هو الشروط التي عرضها عليّ جلالته.
بل لأنّني حين أمعنتُ النظر، وجدتُ أنّ وضع الأميرة يشبه كثيرًا وضعي حين كنت صغيرة.
فما إن وُلدت الأميرة كلوي، حتى انفصل جلالة الإمبراطور عن الإمبراطورة.
ولهذا، نشأت الأميرة دون اب.
و ابوها الوحيدة كانت صارمة معها على الدوام، لذا لا عجب أن تكون جدّتي بالنسبة لها أشبه بجدّة حقيقيّة.
لذا، فقد كنتُ أفهم تمامًا مشاعر الحزن التي اعتصرتها بعد وفاة جدّتي.
ولهذا أخبرتُ جلالة الإمبراطور مسبقًا.
“لا خبرة لي في رعاية الأطفال، لذا لا أضمن شيئًا… لكنني سأحاول.”
وحينها، شكرني جلالته قائلًا إنّ ذلك وحده يكفيه.
وقد وعدني بالمكافأة، لكن بالحقيقة… مجرّد لعبي مع الأميرة الصغيرة كان مكافأة بحد ذاته.
بل إنّني شعرتُ أنّ مواصلة علاقات الودّ بين عائلتنا والعائلة الإمبراطوريّة، والتي بدأت في عهد جدّتي، أمرٌ يبعث على الرّضى.
وهكذا، وبعد بضعة أيّام، دخلتُ القصر الإمبراطوريّ مجدّدًا لأقابل الأميرة كلوي.
“مرحبًا، سموّ الأميرة. دعيني أقدّم نفسي رسميًّا. أنا لوسي سويينت، الماركيزة الحالية لملكية سويينت. ناديني بلوسي بكلّ اريحية!”
انحنيتُ أمام الأميرة وقدّمتُ نفسي.
لكن، حتى بعد مرور وقتٍ طويل، لم يأتِني أيّ ردّ.
كانت الأميرة تنظر إليّ بوجهٍ متجهّم، شفتيها مزمومتان في دلال طفوليّ.
ولأنّ ملامحها كانت لطيفة إلى هذه الدرجة… لم أستطع حبس ابتسامتي التي فلتت رغماً عنّي.
“أأنتِ حفيدة الماركيزة سويينت؟”
سألتني الأميرة بصوت متضجّر، بنطقٍ غير سليم، بالكاد استطعتُ فهمه.
لكن كان هناك أمرٌ واحد واضحٌ تمامًا: الأميرة كانت تقلّد طريقة حديث جلالة الإمبراطور الجادّة والرّزينة.
حبستُ ضحكتي، ثمّ أومأتُ برأسي بحماس بعد أن أدركتُ ما قالت.
“نعم!”
“مظهركِ… غبيٌّ أكثر ممّا توقّعت.”
كان ذلك تعليقها البارد.
هذه المرّة، كان نُطقها واضحًا تمامًا.
‘غبيّ؟ مظهري يبدو غبيًّا؟’
لم أكن أتوقّع أن أسمع هذا من فتاة في الخامسة!
فتحتُ فمي لا إراديًّا تحت تأثير الصدمة.
“بل تبدين حمقاء فعلًا الآن.”
‘هل تكرهني سموّ الأميرة؟’
رغم أنّنا التقينا بضع مرّات فقط، لكن قد يكره المرء شخصًا ما من النظرة الأولى.
إن كانت حقًّا تكرهني، فعليّ أن أرفع مستوى انطباعها عنّي أولًا.
“لحظة من فضلكِ، سموّ الأميرة. قد أبدو هكذا، لكن حين أعبّر عن جديتي، أبدو رسميّة جدًّا، صدّقيني!”
قال لي لايل إنّ الأمر كذلك، فلا بدّ أنّه صحيح.
غطّيتُ وجهي بكلتا يديّ، وعدّلتُ ملامحي، ثمّ أنزلتُ يديّ ببطء وأنا أتّخذُ مظهرًا صارمًا وجادًّا، وحدّقتُ في الأميرة.
“…….”
“…….”
“أتسخرين منّي لأنّني في الخامسة فقط؟! أعرف ما معنى الجديّة!”
لكن الأميرة غضبت فجأة، وضربت الأرض بقدميها.
‘مستحيل…!’
وفجأة، خطرت لي فكرة:
‘هل لايل… كذب عليّ؟’
***
في تلك الأثناء، كان لايل قد دخل القصر الإمبراطوريّ برفقة لوسي،
لكنه ذهب مباشرة إلى ساحة التدرّب الإمبراطوريّة لتمضية الوقت.
فبعد أن أحرز إنجازًا كبيرًا في حملة الإبادة الأخيرة، أُعجب به الإمبراطور ومنحه الإذن بالدخول إلى تلك الساحة بنفسه.
وفوق ذلك، كان لايل على معرفة وثيقة بقائد فرقة الفرسان الأولى في الحرس الإمبراطوري، بفضل هاميل.
لذا لم يجد لايل صعوبة في الاختلاط بفرسان القصر.
حتى وإن لم يظهروا نيّاتهم، لم يُبدِس احدهم أيّ اعتراض على زيارته.
وما إن دخل ساحة التدرّب، حتى بادرته القائدة كاميّل بالترحيب:
“هل عادت سيّدتك إلى القصر مجدّدًا؟”
كاميّل، شقيقة هاميل الكبرى، تكبره بعشر سنوات، وكانت تستعدّ للتقاعد.
وبناءً على طلبه، كانت تشرف على تدريب لايل من وقتٍ لآخر.
“ليست سيّدتي، بل الماركيزة، يا سيدة كاميّل.”
قال لايل وهو يخلع قفّازيه، بنبرة لطيفة.
أومأت كاميّل بهدوء، وهي تهزّ كتفيها.
“ما أحرصك على خدمتها، أيّها التابع الوفيّ.”
لكن في نظر كاميّل، التي تكبره بعقود، كانت تلك الملاحظة محض طرافة لطيفة.
“يبدو أنّ لديك أخيرًا شخصًا تأخذ مشاعره بالحسبان.”
في وجه هذه الملاحظة المباغتة، لم يُنكر لايل شيئًا، بل اكتفى بابتسامةٍ خفيفة.
كاميّل كانت كثيرًا ما تصفه بأنّه شخصٌ غامض لا تُدرَك بواطنه،
وأنّ شخصيّته لا تليق بروح الفروسيّة مهما بلغت مهارته.
‘لا عجب… فالتجربة لا تُستهان بها.’
لكن، ما دامت أهمّ أسراره لم تُكشف، فلا ضير في الباقي.
لكنّ الحياة لا تترك المرء في راحة، فالمحن تظهر دون سابق إنذار.
فجأة، تدحرجت حصاة صغيرة بفعل الريح، وارتطمت بمقدّمة حذاء لايل.
التفت ليرى منبع الضجّة، فراحت عيناه تتأمّل ساحة التدرّب حيث كان القتال على أشدّه.
وهناك… رأى وجهًا مألوفًا.
“…….”
إنّه نفس الفارس الذي صادفه في السّوق قبل مدّة، من فرقة فرسان فيليا، بشعره الوردي المجدول بعناية.
لكنّ ما لفت انتباهه لم يكن شكله، بل سيفه.
كانت حركاته انسيابيّة، سلسة كتيّار ماء، مرسومة بمنتهى الليونة والنعومة.
أسلوبه مختلف كليًّا عمّا تعلّمه لايل من فنون القتال.
أثارت تلك المهارة اهتمامه دون وعي،
فشدّ قبضته… شعر وكأنّه يستطيع تقليدها لو أراد.
“توقّف!”
صاح الحكم حين ارتدّ سيف الفارس الوردي حتى بلغ أنف خصمه، قبل أن يغرز في الأرض.
توقّف الرجل عن الحركة لاهثًا.
“اللع*ين، هو قائد فرقة، ومع ذلك كاد يقتل أحد فرساننا الجدد!”
تمتمت كاميّل بغيظ، ولسانها يلهج باللوم.
كما قالت، الفارس الذي تدّرب معه قد انهارت كتفاه تمامًا.
لكن، إن كان خصمه قائدًا من فيليا، فالهزيمة لا تُعدّ عارًا.
بل إنّ الهزيمة كانت متوقّعة من البداية.
وما إن انتهى القتال، حتى انطفأت لمعة الفضول في عيني لايل،
وعاد بصره إلى حياده المعتاد.
“شكرًا على السماح لي لاستخدام ساحة التدرّب، كاميّل. ساحة القصر فعلًا ذات جودة.”
قالها ذلك الفارس الوردي وهو يقترب فجأة بخطًى واثقة.
“كلّها أماكن تدريب، ما الفرق؟”
ردّت كاميّل ببرود، رافضةً مجاملته.
لكنها كانت أكثر تهذيبًا ممّا كانت عليه قبل قليل.
“أه… الم نلتقي من قبل؟”
وجّه الفارس حديثه إلى لايل، الذي فكّر لحظة ثمّ أجاب متعمّدًا التصرّف وكأنّه لا يعرفه:
“هل فعلنا؟”
ارتسمت الخيبة فورًا على وجه الرجل.
“لقد رأيتك في السوق منذ شهر تقريبًا.”
“آه…”
‘ظننتُ أنّه سيتجاهل الأمر إن تظاهرت بالنسيان…’
منذ لقائه به، كان يشكّ في أنّه من النوع اللحوح.
ويبدو أنّ حدسه كان صائبًا.
“لقد تصرّفتُ بوقاحة في ذلك الوقت، ولا زلتُ أذكر ذلك.”
“تذكّرتُ الآن.”
لم يكن لايل يرغب في إطالة الحديث، فبادر بالاعتراف كي يُنهيه.
حتى ابتسم له مجاملةً، كي يُنهي المسألة.
وقد انفرجت أسارير الرجل فورًا.
كاميّل نظرت إليهما بالتناوب وسألت:
“هل كنتما تعرفان بعضكما؟”
“تقابلنا مرّة واحدة فقط. لا نعرف حتى أسماء بعض.”
أجاب الفارس بسرعة، ثمّ التفت إلى لايل قائلاً بعينين لامعتين:
“أنا دايلور، لا أملك اسم عائلة، إذ إنني من عامّة الشعب.”
ارتعشت حاجبا لايل من تلقاء نفسيهما.
فقد قدّم نفسه دون إذن، فلم يجد لايل خيارًا سوى الردّ:
“أنا لايل مارسين.”
“آه، ابن دوق مارسين الثاني. لقد سمعت عنك كثيرًا!
يُقال إنّ مهارتك بالسيف لا تقلّ عن السيد دييغو في شبابه!”
“هذا لطفٌ منك.”
كان لايل بالكاد يتكلّم، بينما كان دايلور يتحدّث كأنّه في سباق.
يبدو أنّه من النوع الثرثار بطبعه.
وكان ينظر إلى لايل بنظرة مفعمة بالحماس،
بينما لايل كان يختنق من فرط الاهتمام غير المرغوب فيه.
“آه! لقد التقينا مرتين، أليس كذلك؟ ما رأيك بمنافسة وديّة؟”
كان هذا أول عرضٍ يثير فضول لايل بعد حديثٍ طويلٍ مملّ.
لكنّ كاميّل التي كانت تصغي بصمت، تدخّلت فورًا:
“حان وقت تنظيف ساحة التدرّيب. أيّ منافسة؟”
بدأت التجاعيد ترتسم في جبينها.
“هيه، لا بأس، لو تسمحين بالقليل فقط…”
“ممنوع. ثمّ إنّه لا يجوز للمتمرّنين أن يتقاتلوا لأغراض غير التدريب. هذا مخالف لقواعدنا.”
“يا سيدة كاميّل، كلامكِ يوحي بأنّني أطمع في شيء آخر!”
“…….”
ضاقت عينا كاميّل عليه، فغابت ابتسامته وهو يضع سيفه في غمده بتذمّر.
“حسنًا، حسنًا. أنتِ لم تتغيّري أبدًا.”
“أنتَ فقط من لا يعرف الانضباط.”
“هاه… كما تشائين. ليست هذه آخر فرصة.
أيّها السيّد مارسين، هل تزور القصر كثيرًا؟
أنا آتي دومًا لأنّني أتدرّب مع فرسان القصر بانتظام.”
كان يُلمّح إلى رغبته في لقائه مجدّدًا.
أغمض لايل عينيه ببطء، ثمّ ارتسمت على شفتيه ابتسامة طفيفة.
“أتيتُ هذه المرّة لغرض الحماية، لذا لا أعلم. الأمر لا يعود لي.”
والحقيقة أنّه كان يأتي أحيانًا حتى لو لم تُدعَى لوسي، من أجل التدرّب.
لكنّه لم يصادفه من قبل، وهذا محض صدفة.
رغم ذلك، قرّر في داخله أن يقلّل زياراته كثيرًا.
ما لم تأتِي لوسي إلى القصر، فلن
يأتي هو أيضًا.
“أفهم. إن التقينا يومًا، لنُلقِ التحيّة، وإن سمحت الظروف… فلنخض مبارزة معًا.”
قال دايلور وهو يربّت على مقبض سيفه.
لم يُبدِي أيّ تردّد أو خجل من دعوة مجرّد متدرّب للمبارزة.
لكن لايل لم يكن يتفهّم طبيعته الاجتماعيّة.
لقد أزعجه تمامًا اهتمامه المفرط به.
ترجمة:لونا
واتباد:luna_58223
التعليقات لهذا الفصل " 58"