“آنستي، أرجوكِ خذي الأمر بجدّية. حين يُظهِر المرء الجديّة، فإنه يُضفي على حضوره ثقلًا وهيبة!”
كان هذا ما قالته سارة، بينما كانت تُلبسني، قلقةً من دخولي إلى القصر.
ترجّلتُ من العربة، وبحسب نصيحتها، أظهرتُ الجديّة على وجهي، وسِرتُ ببصرٍ هادئٍ عبر الحديقة الإمبراطوريّة التي بدت أوسع من منزلنا بأربعة أضعاف على الأقلّ.
‘هذا سيء… أشعر وكأنني سأنهزم منذ البداية.’
“هل أنتِ غاضبة؟”
سألني لايل، اليي كان يسير خلفي، وهو يطرف بعينيه.
“لا. فقط… سارة قالت إنّ من يبدو جادًّة يُشعِر الآخرين بأنني مهيبة. فهل أبدو مهيبة قليلًا؟”
“…نعم.”
رغم أنّ جوابه جاء متأخرًا قليلًا، إلا أنّه كان إيجابيًّا، لذا قررتُ أن أُصدّقه.
سرنا سويًّا بإرشاد إحدى الخادمات، مرورًا بالحديقة، ثم اجتزنا ممرّات القصر الإمبراطوريّ حتى بلغنا أخيرًا قاعة المثول أمام العرش.
“ادخلي وحدك. لم أتلقَّى بعد وسام الفروسيّة، لذا لا يُسمح لي بحضور اللقاء بذريعة الحراسة.”
توقّف لايل أمام القاعة، يلمح إلى الحارس الواقف عند الباب.
“قلتُ لك أن أذهب وحدي، لكنك أصريت…”
في الحقيقة، قبل انطلاقنا حصلت مشادّة صغيرة بيني وبينه حين أراد مرافقتي.
لكنها هذه المرّة لم يتراجع عن موقفها، وأصرّ بعنادٍ نادرٍ لديه.
كنتُ قد سمعت من دوقة مارسين أنّ عدد الوحوش السفلية المتسلّلة إلى الإمبراطوريّة يزداد يومًا بعد يوم.
ربّما لهذا السبب كان لايل تتصرّف بهذه الحذر الشديد.
“لديّ معارف في الفيلق الإمبراطوري، سأتدرّب معهم قليلاً. انتظريني حين تنتهين.”
قال ذلك، ثم رتّب ربطة عنقي التي كنتُ قد فككتها قليلًا لشعورٍ بالضيق.
كدتُ أنسى أمرها، ولو لا لايل، لكنتُ قد مثُلتُ أمام جلالة الإمبراطور بمظهرٍ غير مرتّب.
عائلة ماركيزة سوينيت كانت دومًا محايدة بين العرش والنبلاء.
لم تسعَى يومًا إلى مصلحةٍ شخصيّة، بل كانت تُعلي شأن الحقّ والباطل.
ولهذا السبب، قيل إنّها كثيرًا ما كانت تصطدم مع الإمبراطور السابق، لكن مع الإمبراطور الحالي نشأت علاقةٌ طيبةٌ في عهد جدّتي.
ولعلّ السبب في استدعائي اليوم هو الحديث عن تلك الجدّة.
***
كم بدت مخاوفي قبل الدخول إلى القصر عبثيّة، فقد لم ألبث أن خطوتُ إلى قاعة العرش حتى طُلِب مني التوجّه إلى قاعة استقبالٍ صغيرةٍ ملحقة بها.
وهناك، كان هناك طاولة طويلة وسط الغرفة، وعليها وليمة فاخرة جعلتني أرتبك من شدّة فخامتها، حتى ظننتُ أنّني دخلت المكان الخطأ.
جميع الأطباق كانت من تلك التي أعشقها… كأنّ أحدهم سبقني بالتحقيق في ذوقي بدقّة.
وبينما كنت أحدّق مأخوذةً بكل تلك الأصناف، دخلت جلالة الإمبراطور “ليكسيون روتانيا” الغرفة دون أن أشعر، وخاطبني بصوته الهادئ:
“ماركيزة سويينت، ألَم تُعجبكِ الأطعمة؟”
انتفضتُ واقفةً على الفور، ورفعتُ يديّ نافيةً بتوتر.
“ها؟ لا، كلّها أطعمة أحبّها كثيرًا!”
“أحقًّا؟ ذلك حسن. دعوتكِ لتناول الطعام، فلا تتكلّفي، تفضّلي.”
قال ذلك مبتسمًا، وكم كانت ابتسامته فاتنةً، تفوق كلّ ما في هذه الغرفة فخامةً وجمالًا.
رغم أنّها أوّل مرّة ألتقي فيها بهذا الوجه الإمبراطوري، إلّا أنّني وجدتُ نفسي عاجزةً عن صرف بصري عنه.
وفي تلك اللحظة، أدركتُ ضيق أفق عالمي.
فبالنسبة لي، كانت جدّتي أعظم شخصٍ في هذا العالم، و لايل أجمل من فيه.
لكن… لا، لن أسمح بتغيير معاييري بهذه السهولة. في ذلك شيءٌ من عزة النفس.
ولأنّ رفض الطعام المُقدّم يُعدّ قِلّة ادب، انحنيتُ باختصارٍ لتحيّته، وبدأتُ بتذوّق الأطباق بحذر.
وكان الطّعم مذهلًا كما الشكل، حتى لم أتمالك نفسي عن التعبير بإعجاب، فما كان من جلالته إلّا أن ابتسم بارتياح.
“يبدو أنّ حسن اختيار الأطعمة أثمر. لقد أحسنتُ الاستماع إلى حديث الماركيزة، تلك التي لا تنفكّ عن التغنّي بحفيدتها متى التقينا.”
يبدو أنّ العلاقة بينه وبين جدّتي كانت وطيدة بالفعل.
وقد أنهى طعامه من قبل، فراح يراقبني مستندًا إلى كفّه، وأنا، وقد شعرتُ بالإحراج، بدأت أبطئ من حركتي وأفكّر في التوقّف.
“آه، لا تُبالِي بي. كُلي ما شئتِ، لم ادعوك لتشعري بالحرج.”
‘إذًا… فلمَ دعوتني أصلًا؟’
أنا ما زلت ماركيزة مبتدئة مقارنةً بجدّتي، ولا أملك تلك الجرأة لمجالسة أصحاب السلط بمثل هذا الهدوء.
لذا وجدتُ نفسي أبذل جهدًا كبيرًا لأضبط تعابير وجهي.
“إن كنتِ متوترة مسبقًا، فماذا عساني أفعل…؟”
همس بشيءٍ غير واضح، فلم أتمكّن من سماعه لابتعاده قليلًا.
أخذتُ قضمتين إضافيتين، ثم وضعتُ الشوكة والسكّين.
“هل انتهيتِي بالفعل؟”
“نعم، شكرا حزيلا على كرم الضيافة.”
جمعتُ يديّ برفقٍ أسفل الطاولة، وأجبتُ. فيما ظلّ جلالته يحتفظ بابتسامةٍ لطيفةٍ على محيّاه.
وكانت زاوية شفتيه المرتفعة توحي بهالةٍ من النور تُشِعُّ خلفه.
غمضتُ عيني للحظة، ثم فتحتها مجدّدًا في محاولة لاستعادة رباطة جأشي.
في تلك الأثناء، دخل أحد الخدم حاملًا الشاي، وعند انبعاث عبيره المهدّئ، عاد جلالته للكلام.
“أُعزّي نفسي أوّلًا في مصاب جدتك. وددتُ حضور الجنازة، لكنّني خشيت أن يُساء تأويل الأمر سياسيًّا. أرجو أن تسامحيني على الاكتفاء بالدعاء في قلبي.”
أومأتُ له، فأنا أيضًا لم أرغب أن يُستغلّ رحيل جدّتي لأغراضٍ سياسيّة، لذلك رأيتُ في دعائه ما يكفي.
“لقد كنتُ مَدينًا للماركيزة على مستوى شخصيّ.”
قالها، ورفع الكوب إلى شفتيه القرمزيّتين.
“ابنتي كانت تحبّها كثيرًا، وكانت تمضي وقتًا طويلًا معها حين أكون مشغولًا.”
نعم، لطالما كانت جدّتي تزور القصر قبل دخولي الأكاديميّة، لترافق الأميرة الصغيرة.
وكانت تحبّ الأطفال حبًّا جمًّا، فلا عجب أن تكون قد استمتعت بذلك الوقت.
في تلك المرحلة، كنت منشغلة بالاستعداد لاختبارات الدخول، فلم أعر الأمر اهتمامًا، لكنّني سمعت أنّ تلك الطفلة كانت لطيفةً ووديعة.
“دعوتُكِ في الحقيقة، لأطلب منكِ معروفًا.”
“معروف؟”
كنتُ غارقةً في تصوّراتٍ ضبابيّة عن لقاءٍ مستقبليّ مع الأميرة، حين لاحظتُ غيمةً من القلق تمرّ فوق وجه جلالته.
أن يطلب أمرًا من فتاةٍ التقاها للتو، أمرٌ غريب بحدّ ذاته… لكنّ ما أقلقني أكثر هو ذلك الحزن الصامت في عينيه.
“في الحقيقة-“
“جلالتك! إنّ سموّ الأميرة… جلالته مع ضيفة الآن!”
وبينما كان يوشك على الدخول في الموضوع، ارتفع صوتٌ خافت من مدخل القاعة.
فاستدرتُ تلقائيًّا أنظر نحو الباب.
وهناك، كانت طفلةٌ صغيرةٌ بشَعرٍ ذهبيٍّ أنيق، تتجادل مع مجموعة خادمات حاولنَ منعها من الدخول.
وكانت إحدى الخادمات، وهي تبدو أعلى منزلة من البقيّة، تهمس معتذرة:
“آه، المعذرة… لقد أخبرتُ الأميرة بمجيء الماركيزة… لم أقصد…”
لكنّني بالكاد سمعتها، فقد كنتُ مسحورةً بعيونٍ خضراء كأوراق الربيع، تتفرّس فيّ بثباتٍ من تلك الفتاة الصغيرة.
كانت نسخةً مصغّرة من الإمبراطور… لا شكّ أنّها هي.
الأميرة.
‘يـ… يا للجمال… أريد أن أقرص خدّيها!’
يبدو أنّني ورثتُ من جدّتي حبّ الأطفال كذلك.
إن كانت في الرابعة من عمرها حين دخلتُ الأكاديميّة، فلا بدّ أنّها في الخامسة الآن.
“كلوي!”
آه! لقد أرعبتني…!
كنتُ أُحصي عمرها في رأسي، حين دوّى صوت الإمبراطور بلهجةٍ قاسية، تناقض لطفه السابق.
نظرتُ إليه وإلى الأميرة الصغيرة بعينين واسعتين.
“أهكذا علّمكِ مُعلّموا آداب السلوك؟”
وجهه الذي بدا كأبٍ حينًا، استحال الآن إلى ملامح إمبراطورٍ صارم.
حتّى أنا شعرتُ برهبةٍ جعلتني أجلس باستقامةٍ أشدّ.
الأميرة الصغيرة، وقد فزعت، همّت أن تعترض، لكنها ابتلعت كلماتها وأطرقت رأسها.
“عودي إلى غرفتكِ.”
“نعم… المعذرة…”
تمتمت الأميرة باكيةً باعترافٍ بخطئها.
تألم قلبي لرؤيتها على هذا الحال… لكنّ التأديب شيء، والعاطفة شيء آخر.
لذا التزمتُ الصمت، أراقب ما يحدث.
ثمّ رمقتني الأميرة الصغيرة بنظرةٍ غاضبةٍ مشاكسة.
لكنّني وجدتُ ذلك الطبع المتمرّد أقرب إلى شبل قطٍّ صغير… لطيف لا مُخيف.
ربّما ظنّت أنّني تسبّبتُ في توبيخها، فغضبت.
سرعان ما أمسكت الخادمة بيد الأميرة وأخذتها بعيدًا.
“هاه… أعتذر. كلوي لا تزال صغيرةً، وتتصرّف أحيانًا بدافعٍ عفويّ.”
قالها الإمبراطور وهو يربّت على جبينه، يعتذر بلباقة.
فأسرعتُ أطمئنه أنّ الأمر لا يستحقّ القلق.
“لا داعي للاعتذار. يبدو أنّها كانت تحبّ جدّتي بحقّ… لو لم تكن كذلك، لما أتَت لرؤيتي من تلقاء نفسها.”
حاولتُ أن أخفّف التوتّر بابتسامة، لكنّ جلالته أجابني بابتسامةٍ مريرة.
“في الحقيقة، طلبي يتعلّق بكلوي.”
“سموّ الأميرة؟”
“أجل. منذ وفاة الماركيزة، أصبحت كلوي شديدة الحزن، وقد لاحظتُ تغيّرها.”
عادت ملامحه لتصبح ملامح والدٍ، وليس إمبراطورًا.
“أدرك أنّني أطلب الكثير، خاصّةً وأنتِ تمرّين بفترةٍ مزدحمة، لكن… هل يمكنكِ أن تزوري القصر من حين لآخر، وتلعبي معها كما كانت تفعل جدتك؟”
“أنا؟”
“رأيتُ كيف تحدّثت معكِ، رغم علمها بأنّها ستُوبّخ. أعتقد أنّها ستتعلّق بكِ كما تعلّقت بجدّتك.”
ثمّ أضاف بلطف:
“كما أنّكِ حفيدة الماركيزة…”
“رأيتِ بنفسك، كلوي تخافني أكثر من أيّ شخص. أنا مضطرّ لأن أكون صارمًا معها دائمًا… وأخشى أنّها، مع مرور الوقت، قد لا تناديني بـ ابي حتى.”
كانت كلوي الوريثة القادمة للعرش.
صغيرةٌ جدًّا على تلقي اللقب رسميًّا، لكنّ الإمبراطور، لعدم إنجابه غيرها، بدا وكأنّه اتّخذ قراره بالفعل.
لذلك، لا عجب في أنّه حازمٌ معها إلى هذا الحدّ.
“طبعًا، لن يكون بلا مقابل. أعدكِ بأن أُحقّق لكِ أمنيةً واحدةً في المس
تقبل… أيًّا كانت.”
اتّسعت عيناي دهشةً من حجم المقابل.
“ما لم تكن أمنيةً تهزّ كيان البلاد، بالطبع.”
قالها مبتسمًا نصف ابتسامة، فابتسمتُ بدوري ابتسامةً باهتة.
‘لا تقلق يا جلالة الإمبراطور… فلا جرأة لي على شيءٍ من هذا القبيل.’
ترجمة:لونا
واتباد:luna_58223
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 57"