بعد عودة دوقة مارسين بوقت قصير، عادت الأخت ديوليتا أيضًا.
لكن لايل لم يعد، بل بقي في قصرنا.
عندها راودتني تساؤلات.
“لكن، لماذا عدت أصلًا؟”
سألتُ بينما كنتُ جالسة على الكرسي أتابع دراستي، وقد توقّفتُ عن حلّ التمارين.
كان لايل ينظّم الكتب والأوراق التي كنتُ قد بعثرتُها.
“هم؟”
توقّف عن وضع كتاب على الرفّ، ثمّ أعاد عليّ السّؤال.
‘همم؟’ ماذا يقصد ‘هممم؟’
حتّى لو بدأ الآن في حضور الدروس، فصعب عليه اللحاق بالركب،
وقد ذهب إلى الأكاديميّة ليوم واحد فقط ثمّ عاد فورًا، وهذا ما أثار استغرابي.
“أنا الآن بخير تمامًا، لذا اذهب وأكمل ما تبقّى من دروسك.
ماذا ستفعل إن لم تستطع اللحاق بزملائك؟”
قلتُها بوجهٍ جاد وأنا أضع الكتاب جانبًا.
كنتُ فقط لا أريد من لايل أن يضيّع وقته الثمين بسببي.
عندها دارت عيناه نحو الجانب.
“أنا… هذا الفصل الدراسي، لن أستطيع إنهاء الساعات المطلوبة بسبب قلّة الحضور.”
“ماذا؟”
“لذا سيتعيّن عليّ العودة ابتداءً من الفصل القادم.”
فجأة، شعرتُ بأنّ الكلام انقطع في حلقي.
كأنّه يقول إنّ تخرّجه تأخّر بسببي.
ورغم أنّه قالها ببساطة وكأنّها لا تعني شيئًا، بالنّسبة لي كانت كارثة.
“آسفة…”
عاودت مشاعر الذّنب الّتي حاولتُ كبتها أن تطفو مجدّدًا.
لم أستطع تحمّل ضيقي من نفسي، ففركتُ وجهي مرارًا بيديّ.
بعد معرفتي بالحقيقة، لم أعد قادرة حتّى على رفع وجهي.
“كنتُ أُخفي الأمر لأنّي خشيتُ أن تشعري بالذّنب…”
اقترب لايل منّي وهمس، كأنّه يُحاول تهدئتي.
وحين أنزلتُ يديّ الّتي كنتُ أحجب بهما وجهي،
رأيته جالسًا على ركبتيه أمامي مباشرة.
لماذا تجلس على الأرض مجدّدًا؟
تذكّرتُ كيف أنّه في الماضي، كان يجلس على الأرض طوال الليل من أجلي مرّات عدّة.
اختنق صوتي.
“أخبرتُكِ من قبل، لا تشعري بالذّنب. لقد فعلتُ ما أردتهُ بنفسي.”
“لكنّ المشاعر لا تُطيع العقل.”
أمسك لايل يدي الّتي كانت مستندة على ركبتيه.
فوقعت عيني تلقائيًّا على معصمه النحيف الذي لم يستعد بعد لحمَهُ بالكامل.
ربّما حتّى بعد أن يستعيد هذا المعصم هيئتَهُ الأصلية،
لن أستطيع التخلّص من شعوري بالذّنب تجاهه.
راودتني تلك الفكرة فجأة.
“لو كنتِ في مكاني، لَما كنتِ ستتصرّفين بطريقةٍ مختلفة، أليس كذلك، لوسي؟”
قالها لايل بعد أن ظلّ لوهلة ممسكًا بيدي دون أن ينبس ببنت شفة.
بالطّبع كان محقًّا.
لكنّه أغفل أمرًا مهمًّا.
منذ أن عرفته، لم أراه ينهار ولو مرّة واحدة.
بل على العكس، كنتُ أنا من انهارت مرارًا.
وفي النّهاية، أمسكتُ أنا دون غيري بقدميّ الشّخص الّذي ظلّ دائمًا سندًا لي.
فتحتُ فمي لكنّي لم أنطق بشيء.
هل عليّ إخبار لايل بذلك؟
لا، لم أرد أن أُثقله أكثر، لذا تراجعتُ عن الكلام.
ثمّ ابتسمتُ بمرح، وكأنّ شيئًا لم يكن.
“صحيح، أنا أيضًا كنتُ سأفعل مثلك! كلامك طبيعيّ جدًّا!”
هززتُ يده الّتي كانت تمسك بيدي مرّات عدّة وأنا أجيبه،
فرأيتُ في عينيه المرتبكتين ارتياحًا واضحًا لا يمكن إخفاؤه.
نعم، هذا يكفي.
أدركتُ أنّ علاقتنا لن تستمرّ بسلاسة إذا ظللتُ أتّكئ على لايل طوال الوقت.
***
بينما كنتُ أتلقّى دروسي من الدّوقة،
كان لايل يقوم بأعماله هو الآخر.
على الأغلب يخرج من أجل التّدرّب،
لكن بما أنّه كثير التّنقّل، لا أعلم بالضّبط إلى أين يذهب.
حسب قوله، يزور أحيانًا القصر الإمبراطوري،
وأحيانًا أخرى يتفقّد ميادين تدريب الفرسان.
حين سمعتُ أنّه يذهب إلى القصر، بدا لي الأمر مثيرًا للإعجاب فجأة.
قال أيضًا إنّه يساعد أحيانًا الفرسان الذين التقاهم أثناء مهمّات القضاء على الوحوش،
ويشاركهم في التخلّص من الوحوش السّاكنة في أرجاء الإمبراطوريّة.
لكن هل هذا شيء يُمكنه فعله أصلًا؟
سألتُه إن كان ذلك مسموحًا به وهو لا يزال طالبًا،
فأجابني ضاحكًا وكأنّ السّؤال لم يعُد ذا معنى الآن.
قال إنّ الوحوش الّتي تتسلّل إلى داخل الإمبراطوريّة في الغالب لا تختلف كثيرًا عن الحيوانات والنّباتات العاديّة.
وكون مظهرها لا يتغيّر كثيرًا يدلّ على ضعفها.
حتّى داخل الأكاديميّة، يبدو أنّهم يُكلّفون الطلّاب أحيانًا بمهامّ استكشافيّة داخل الإمبراطوريّة، بناءً على هذا الأساس.
حاول لايل طمأنتي مستندًا إلى هذه النّقطة.
وعندها، لم يكن لديّ ما أقول…
“يبدو من شرودكِ أنّكِ أنهيتِ العمل؟”
“ها؟ ن-نعم!”
بالفعل، كنتُ قد انتهيتُ من المهمّة الّتي كلّفتني بها الدّوقة، وشاردةً في التّفكير،
لذا أجبتُها بثقة.
“……”
كلّما تقلّبت الأوراق المربوطة بالخيط واحدة تلو الأخرى،
شعرتُ بجفافٍ في فمي.
لو ارتكبتُ خطأً واحدًا، لا شكّ أنّ تلك النّظرة الباردة ستوجّه إليّ.
لحسن الحظ، لم أتلقى أيّ توبيخٍ منها حتّى الآن.
وأردتُ الحفاظ على هذا السّلام لأطول فترة ممكنة.
“رغم وجود أخطاء صغيرة هنا وهناك، لكنّ أحسنتِ.”
الحمد لله، نجوتُ اليوم أيضًا.
“بهذا السّرعة، ستُنهين العمل خلال هذا الشّهر.”
حقًّا؟ هل يمكنني فعلها؟
يبدو أنّ الدّوقة تؤمن بقدراتي أكثر ممّا أفعل.
ولا أظنّها من النّوع الّذي يجامل.
نظرتُ إليها بعين الشّك،
فابتسمت من طرف شفتيها وكأنّها تقول ‘ما الّذي تنظرين إليه؟’
ابتسامتها كانت ولا تزال… جميلة ومخيفة في آنٍ معًا.
***
سقطت لوسي بكامل جسدها على الطاولة من الإنهاك.
‘تركيزها جيّد، لكنّ مدّته قصيرة.’
كانت الدوقة تُحدّق في شعرها الأرجوانيّ من الخلف،
ثمّ تركتها على حالها وخرجت من المكتب بعد أن جمعت أغراضها.
“انتهيتِ مبكّرًا اليوم، أليس كذلك؟”
استقبلتها ديوليتا الّتي كانت تستند إلى الحائط بجوار الباب.
يبدو أنّها كانت تنتظر انتهاء الدّرس.
“ألم تذهبي إلى حفلة عيد ميلاد الكونت بروسن؟”
كان الكونت بروسن يُقيم حفلة ضخمة في عيد ميلاده كلّ عام،
وغالبًا ما تستمرّ حتّى ساعات متأخّرة من اللّيل،
لكونه يعتني بتلك المناسبة بشكل مفرط.
“لكنّ حالته الصّحيّة اليوم لم تكن جيّدة،
فانتهت الحفلة أبكر من المعتاد.
كُنتُ سأعود إلى القصر، لكن ظننتُ أنّ أمّي لا تزال تدرّس، لذا أتيتُ إلى هنا.”
أردتُ العودة معها.
كما أنّ ديلفينا تهتمّ كثيرًا بديوليتا،
فهي أيضًا تُعامل والدتها بعناية لا بأس بها.
وكانت ديلفينا ضعيفة أمام هذه اللّطافة البسيطة من ابنتها.
“هكذا إذن؟”
انفرجت ملامح ديلفينا حين شعرت بنيّة ابنتها،
وسارت إلى الأمام بخطى واثقة.
أسرعت ديوليتا لتلحق بها وتمشي إلى جانبها.
“يبدو أنّ الدّروس ستنتهي هذا الشّهر.”
قالت ديلفينا وهي تأخذ المظلّة من الخادم.
“بهذه السّرعة؟”
قالت ديوليتا بدهشة وهي تُراقب أمّها تفتح المظلّة.
أومأت ديلفينا برأسها دون اهتمام.
“كما قلتِي، ذكيّة جدًّا.”
“…أمّي، لوسي حقًّا…”
في الحقيقة، ديلفينا لم تكن تصدّق كلام ديوليتا قبل بدء الدّروس،
حين قالت إنّ لوسي تمتلك ذكاءً فوق المتوسّط.
حتى ديوليتا نفسها لم تكن واثقة تمامًا حين قالتها،
ولأنّ لوسي في ذكريات ديلفينا كانت فقط فتاة طائشة تحبّ اللّعب.
لكن بعد أن قامت بتعليمها لأكثر من شهرين، أدركت الحقيقة.
لوسي شويينت كانت من صنف الأشخاص مثل الماركيزة و الدوق مارسين.
“بكلمات أخرى، أقرب إلى العبقريّة.”
تتذكّر ما يحفظه الآخرون بعد عشر مرّات من النّظر،
وتستطيع الاحتفاظ بالمعلومات لفترة طويلة إذا أرادت.
لكن كان لديها عيب واضح،
رغم تركيزها القويّ، إلّا أنّه لا يدوم طويلًا،
كما أنّها تفتقر إلى المرونة في حلّ المشكلات.
في امتحانات الأكاديميّة، قد تعجز عن حلّ المسائل المتغيّرة حسب نوايا واضع الامتحان.
بصراحة، حين خضعت لوسي لاختبار القبول، ظنّت ديلفينا أنّها سترسب.
وحين قال لايل إنّه سيلتحق بالأكاديميّة معها،
سخرت منه في سرّها.
لكنّ لوسي كسرت توقّعاتها ونجحت في الامتحان.
الاختبار الّذي قد يرسب فيه بعض النّبلاء رغم دراسةٍ لسبع سنوات أو أكثر،
نجحت فيه بنتيجة تُصنَّف من المستوى المتوسّط فما فوق.
كانت تظنّ أنّ الأمر محض حظّ…
“لكن، لوسي لا تبدو مدركة لذلك.”
“طبيعيّ، فحتى الآن، كانت محاطة بأشخاص مثلكِ… و لايل فقط.”
طالما كانت محاطة بديوليتا المتعلّمة،
و لايل الطّموح السّاعي للتقدّم،
فمن الطبيعي أن تظنّ نفسها من الفئة العاديّة مقارنةً بهم.
“…هل علينا إخبارها الآن؟”
مع أنّ ذلك لن يُغيّر شيئًا على الأرجح.
“ديوليتا، لم تنسي أنّ الماركيزة تُوفّيت بسبب الإفراط في العمل، أليس كذلك؟”
“نعم؟ ن-نعم، طبعًا…”
“فتاة تعتقد أنّها لم ترث منصب الماركيزة لأنّها لا تستحقّه…
لو قلنا لها الحقيقة الآن، برأيك…؟ لو كنتُ مكانها، لشعرتُ بذنبٍ هائل.”
قالت ديلفينا ذلك بوجه بارد لا يحتمل.
عندها فقط أدركت ديوليتا ما قالته، وأطلقت تنهيدة ندم.
“آه…”
غالبًا ما تفقد ديوليتا قدرتها على التّمييز حين يتعلّق الأمر بلوسي أو لايل.
ربّما لأنّها ترى فيهما صورتها السّابقة
حين كانت صغيرة، ودفعتها شفقتها على أخيها غير الشّرعيّ، الّذي كان يُعامَل بازدراء من العائلة، إلى الوقوف بجانبه،
فانتهى بها المطاف إلى خسارة حقّ ممثل سيد العائلة.
وفي النّهاية، تزوّجت ديلفينا من دوق مارسين كخيار بديل،
وأنجبت ديوليتا.
وبعد دخول ديوليتا عالم المجتمع، لا
بدّ أنّها سمعت عن ماضي أمّها من الآخرين.
ومع ذلك، لم تُظهر قطّ أمام ديلفينا أيّ مشاعر سلبيّة.
كانت تأمل ألّا ترث ابنتها تلك الطّيبة الساذجة…
تذكّرت ديلفينا كيف أنّ الماركيزو قالت مرارًا إنّها لا تريد من لوسي أن تشبهها.
وكلّما نظرت إلى ديوليتا، كانت تفهم أكثر فأكثر ما كان تعني بكلامها.
ترجمة:لونا
واتباد:luna_58223
التعليقات لهذا الفصل " 55"