استيقظ لايل على وقع صوت المطر المرتفع. وبحركة اعتيادية، تفقد الموضع الذي كانت لوسي تنام فيه.
وما إن لمح السرير الفارغ، حتى انعقد حاجباه بانزعاج تلقائي.
لم تكن في القصر، على ما يبدو.
عينا لايل راحتا تتعقّبان أثر لوسي، يشعّ منهما نور غريب لامع. ومن خلف النافذة، تعالى صوت المطر الصاخب.
ومن فوره، خرج لايل من القصر، شقّ طريقه في المطر الغزير بلا أدنى تردد.
أقدامه تخضّ الماء بخفة، بينما غمر المطر الغزير جسده بالكامل. خصلات شعره الأمامي المبلولة بدأت تحجب عنه الرؤية.
ومع ذلك، لم يتردّد لحظة واحدة، وواصل طريقه نحو الجهة الخلفية من القصر.
“……”
وفجأة، توقفت خطواته.
ظهرت لوسي في مجال رؤيته، واقفة أمام شاهد قبر أبيض.
كانت تقف تحت المطر، أمام قبر الماركيزة.
حافية القدمين، ترتدي ثوب النوم.
شعور غامض لا يمكن وصفه بدقّة، اندفع في قلبه.
“لوسي.”
ربما كان يشعر بالزهو.
ربما شعر بتفوقٍ خفيّ، لمجرّد أنها وحده كانت تستجيب لصوته.
لعلّه ظنّ أنّه، كما كانت تركض إليه كل مرة، يمكنه هذه المرة أن يكون من يركض نحوها.
ظنّ أنّه، كما كانت تملأ فراغه في طفولته، يمكنه هو أن يملأ فراغها الآن.
“……ألم تقولي إنّ الإصابة بالبرد في الصيف لا دواء له؟”
بالنسبة إلى لوسي، كانت الماركيزة هي القريبة الوحيدة، عائلتها التي رافقتها منذ بداية ذكرياتها.
حتى حين توفي والداها، لم تكن بهذه الدرجة من الحزن.
ربما لأنّها كانت صغيرة جدًا آنذاك، وربما لأنّ أنيس بذلت كل ما في وسعه كي لا تشعر بالوحدة.
وربما، لم تتخيل يومًا أن تفقدها.
ولكن المصيبة التي نزلت فجأة، أطاحت بها إلى الهاوية.
“لنعد إلى الداخل.”
أمسك بمعصمها بلطف، بينما كانت تحدّق في شاهد القبر دون أي حركة.
كان معصمها هزيلًا للغاية بعد شهرٍ كاملٍ من الإهمال، لدرجة أنّه لم يستطع أن يقبض عليه بقوة.
وبشكلٍ مفاجئ، خُيِّل إليه أنّ معصمها ذاك يشبه معصم والدته الراحلة، التي كانت تمسح على رأسه.
“……”
ولحسن الحظ، لم تقاوم لوسي، وسمحت له بأن يقودها.
لكن عينيها ظلّتا فارغتين، بلا بريق، لا تركيز فيهما.
شعرها المبتل التصق بثوب النوم. ورغم أنّ مظهرها آلمه بشدّة، إلّا أنّه كتم ضيقه، مؤثرًا غسل جسدها المبلول أولًا.
استدار لايل عنها، دون وعي منه شدّ قبضته قليلًا على معصمها.
فتوجّهت نظرات لوسي إلى يده التي تمسك بها.
كان معصمه هو الآخر هزيلًا، تمامًا كمعصمها.
وفي تلك اللحظة، عادت الحياة إلى عينيها المطفأتين.
***
أمام غرفة لوسي، نفض لايل الماء عن شعره، ثم فتح الباب بهدوء ليفسح لها الطريق.
كان على وشك أن يترك يدها ويحثها على الدخول لتغتسل، لكن…
“لايل.”
نطقت باسمه.
نظر إليها بدهشة، إذ نادرًا ما كانت تناديه في الآونة الأخيرة.
“أشعر بأنّي… تحسّنت قليلًا.”
أو لعلّها كانت مجبورة أن تتحسن.
لماذا لم تنتبه إلى هزاله إلّا الآن؟
لا، في الحقيقة، لم تحاول أصلًا أن تلاحظ.
لوسي كانت غارقة في ذكريات الماركيزة، لم تفكر في جسدها المنهك، ولا عقلها المرهق.
ولهذا، لم تهتم بمن حولها.
بل، شعرت في قرارة نفسها أنّه لا ينبغي لها أن تتحسّن.
فكما كانت الجدة عائلتها الوحيدة، كانت هي أيضًا كلّ عائلته.
كانت تدرك تمامًا أنه حتى بعد وفاته، ستظل تتمنى لها السعادة، لكن قلبها لم يستطع تقبّل الأمر بسهولة.
لكن الآن، عليها أن تستيقظ.
ولو من أجل لايل الذي بدأ يذبل بسببها.
“لو أنني… صرت بخير… لن تشعر جدّتي بالحزن، أليس كذلك؟”
سألت ذلك وهي تفرك عينيها براحة يدها.
كانت تحبس دموعها، لكن عينيها احمرّتا.
لايل، الذي كان يتأملها بصمت، أجاب أخيرًا:
“جدّتكِ لم تكن من هذا النوع من الناس.”
قالها بثقة.
أومأت لوسي برأسها، كأنها توافقه الرأي، لكن رقبتها كانت هزيلة جدًا، ما دفعه لإضافة كلمات لم يكن مضطرًا إليها.
“بل أظن، لو رأتكِ بهذا الحال… ستغضب عليكِ وعليّ أيضًا.”
لو رأت جسدها النحيل، وثيابها المبللة… لما تهاونت أبدًا.
ومضت أمامه صورة الجدة وهي توبّخه ذات يوم لأنه أكل الحلوى قبل العشاء.
“لماذا… لا تغضب انت؟”
سألته لوسي، وعيناها تنظران إليه كمن لا يفهم.
كان سؤالها بسيطًا، لكنه خرج من أعماق قلبها.
كانت تشعر أنها تسبّب له الألم، وتعتقد أنه من الطبيعي أن يغضب منها… لكنه لم يفعل.
قطرات الماء المتساقطة من شعره، ووجنتاه الغائرتان، أيقظتا في داخلها ذنبًا قاسيًا.
“لأني أؤمن أن جدّتك، لو كانت هنا، كانت ستغضب علينا معًا.”
ثم نظر إليها بنعومة وأضاف:
“هي لم تكن تفرّق بيننا في اللوم، كانت تعتبرنا مسؤولَين معًا… دايمًا.”
لطالما كانت تعاتبهما معًا، حتى لو أخطأ أحدهما وحده.
إذًا، إن كانت لوسي تستحق العقاب، فلا بدّ أنّه شريكها معها.
“لهذا، يمكنكِ أن تصبحي بخير.”
كما تجاوز هو موت والدته بفضلها، فلها الحقّ أن تتجاوز رحيل جدتها.
“أنا آسفة.”
همست لوسي وهي تحدّق بقطرات الماء التي تساقطت من أطراف شعره.
فقطب لايل حاجبيه بعدم رضا.
“أفهم ما تقصدين، لكن لا تعتذري.”
هزّ رأسه.
“لا داعي لأن تكوني آسفة.”
فمنذ البداية، لم يطلب منه أحد أن يفعل ما فعل.
ومع ذلك، اعتبر أنّ رعايتها أمرٌ طبيعي لا بدّ منه.
“كيف لا أكون آسفة، وأنت تبدو في حالٍ يرثى لها.”
ردّت لوسي وهي تنهار عليه بثقل جسدها.
“أراهن أنّ وزنك اقترب من وزني.”
وما إن قالت ذلك، حتى ازداد شعورها بالذنب.
“هذا مستحيل، فلا تقلقي.”
قال لايل وهو يزيح خصلات شعرها المبتلّة إلى الخلف.
وقد قابل كلماتها الجادّة بطرافة.
“…أحقًا؟”
إن كان كذلك، فالحمد لله.
وفكّرت لوسي أنّ عليها الآن أن تُطعمه جيّدًا.
لكن لذلك، كانت بحاجة إلى إذنه.
“ابتداءً من الغد، حتى لو رفضت، سأجبرك على الأكل. موافق؟”
كانت جملتها حازمة في بدايتها، ثم تردّدت في نهايتها.
لكن عينيها، وقد دبّ فيهما الأمل من جديد، أضاءتا قلب لايل بفرح مفاجئ.
فأجابها بابتسامة مشرقة:
“افعلي بي ما شئتِ.”
ل”كن، من الآن فصاعدًا، عليكِ أنتِ أيضًا أن تتناولي طعامك جيّدًا.”
ثم مدّ لها خنصره.
فأسرعت لوسي لتربط خنصرها بخنصره.
وفي تلك اللحظة بالضبط، توقّف المطر.
***
تحققت لوسي من السماء الصافية، ثم بدّلت ملابسها وخرجت من الغرفة.
وأوّل ما وقعت عليه عيناها، كانت سارة التي أحضرت لها وجبة الإفطار.
“آه، آنستي…”
إلى أين تذهبين هذه المرّة…!
وكان لايل قد غادر في وقت مبكر، ما يعني أنّه لا أحد سيبحث عن لايل إن اختفت مجددًا.
بدأت سارة تنظر حولها بارتباك.
“سأعود بسرعة. وسأتناول الطعام حين أرجع، فلا تقلقي.”
كان صوت لوسي مفعمًا بالحياة على غير العادة. فما كان من سارة إلّا أن وضعت يديها على فمها من شدّة الدهشة.
وفي اللحظة ذاتها، سقطت أدوات الطعام من يدها محدثة صوتًا معدنيًا.
“آه…!”
ولحسن الحظ، لم تنكسر الأطباق أو الأكواب.
فتوسّعت عينا لوسي أيضًا من المفاجأة.
“أنا آسفة… لقد كنت سعيدة جدًا فقط…”
قالت سارة وهي تهمّ بالبكاء.
ومن شدّة تأثرها، أسرعت لوسي الخطى نحوها واحتضنتها قبل أن تمضي في طريقها.
“أنا الآن بخير.”
آسفة لأنّي أقلقتكِ.
هزّت سارة رأسها نفيًا لاعتذارها.
ثم توسلّت إليها ألا تبتعد كثيرًا.
ولم تكن لوسي تنوي الابتعاد في الأصل، لذا وافقت بسرور على طلبها.
وعلى عكس البارحة، كانت خطوات لوسي نحو قبر الجدة خفيفة ونشيطة.
وما إن وصلت إلى الضريح، حتى مسحت بيدها مياه المطر المتجمّعة على الرخام الأبيض.
“جدّتي، هل كنتِ قلقة عليّ أيضًا؟”
جلست القرفصاء أمام القبر، وأسندت خدها إلى ركبتها وهي تهمس.
حتى وإن ابتل طرف فستانها بالطين، لم تكترث.
“أنا آسفة… يبدو أنّني كنت أعرف لايل أكثر منكِ.”
لقد كانت منشغلة جدًا بمشاعرها، لدرجة أنها أساءت الحكم.
ولو كانت أنيس على قيد الحياة، لكانت بالتأكيد قد عنّفتها بشدّة.
“ظننت أنّه بعد موتكِ… لم يعد لديّ أحد، لكن تبيّن أن لايل كان دائمًا بجانبي.”
وكانت ممتنة أنّها أدركت ذلك قبل فوات الأوان.
“هو بالنسبة إليّ… لا يختلف عن العائلة.”
وكلّما فكّرت في كم الأذى الذي تسبّبت به له، شعرت بالامتنان والذنب معًا.
“هل يمكنني… أن أزوركِ أحيانًا؟”
حتى لو
لم يكن كثيرًا، كانت ترغب بأن تأتي في بعض الأوقات، كلما ضاقت بها الدنيا.
وفي الحقيقة، حتى لو لم تطلب الإذن، كانت متأكدة أنّ الجدة ستقول لها
“تعالي دائمًا.”
“أراكِ لاحقًا، جدّتي.”
نهضت لوسي من مكانها وألقت تحية الوداع.
وكانت شمس الصباح قد بدأت تضيء قبر الجدة بنورها الذهبي.
ترجمة:لونا
واتباد:luna_58223
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 52"