مرت أيام قليلة منذ أن زار لايل منزل طفولته الذي عاش فيه مع أمه.
منذ أن أقرّ لايل بكونه شيطانًا، عانى من قلق غامض يعتصر قلبه.
لذا، صار يتردد حول لوسي أكثر من أي وقت مضى.
وكنتيجة لذلك، أصبح لايل يمضي معظم يومه في قصر الماركيزة سويينت، يتردد إليه طا كل صباح، حيث كانت تستقبله دائمًا بابتسامة ودودة وروح طيبة.
كان يقضي الوقت في محادثات خفيفة مع آناييس بانتظار استيقاظ لوسي، حتى أصبح هذا الروتين، بعد أسبوع تقريبًا، جزءًا من لحظات الراحة والسكينة لهما.
“من كان يصدق أن الطفل الصغير الذي كان يهرع إلى غرفة لوسي قد كبر الآن ليصبح رفيقًا لعجوز مثلي في أحاديثها؟”
قالت الماركيزة بنبرة مشبعة بالحنين إلى الذكريات.
فابتسم لايل بخجل، كما يفعل أحفادها، ممسكًا بكوب الشاي الصغير بين يديه الكبيرتين بحذر بالغ.
“قد لا أملك الكثير، لكنني أؤمن أنني مباركة بحق بأحفادي.
“عند كلام آناييس، أطلق لايل ضحكة هادئة.
كان يعشق هذه اللحظات التي يقضيها جالسًا أمام آناييس، التي تناديه حفيدها، يتبادلان أحاديث خفيفة لا تثقل القلب.
‘في هذه اللحظات، أشعر وكأنني حقًا جزء من عائلة لوسي و الماركيزة.’
“سمعتُ من لوسي أنك تطمح لإنشاء فرقة فرسان لعائلتنا…”
فجأة، طرحت الجدة الموضوع بنبرة هادئة كأنها تتحدث عن أمر عابر.
هذا الانتقال السلس جعل لايل يشعر بالتوتر فجأة.
“إذا كانت هذه رغبتك، فافعل ما شئت. ففي النهاية، ستكون لوسي هي الماركيزة بحلول ذلك الوقت، فيمكنكما اتخاذ القرار كما يحلو لكما.”
لكن، ولدهشته، لم تعارض آناييس الفكرة أو تنظر إليها بسلبية.
حيث انها لم تجد سببًا للاعتراض، وفي الأصل، كانت تنوي التنحي عن منصب رئيسة العائلة دون أي تدخل في شؤون لوسي ما لم تطلب هي المساعدة.
“لايل، هل تحب لوسي إلى هذا الحد؟”
“آه…”
تفاجأ لايل بالسؤال المباغت، فشحب وجهه.
أخفض رأسه وهمس بصوت خافت.
“أنا آسف.”
كما لو أنه ارتكب ذنبًا عظيمًا، لم يجرؤ على رفع عينيه أمامها.
عندها، محت الماركيزة تعبيرها الهادئ وفتحت عينيها بدهشة.
“لماذا تعتذر؟ إن كنتَ تحبها، فهذا أمر طبيعي. لا داعي للاعتذار لي.”
“…””لكن، حسنًا…”
بخبرتها الطويلة في الحياة، كانت الجدة بارعة في قراءة نوايا الآخرين، ولم يكن لايل استثناءً.
“هذه المرة أيضًا، أنتَ أحيانًا تتصرف باندفاع، أليس كذلك؟”
في الحقيقة، عندما علمت آناييس أن لايل انضم فجأة إلى مهمة تطهير، استطاعت أن تتخيل دوافعه بشكل غامض.
على الرغم من جهلها بالتفاصيل، كانت متأكدة أن قراره المتسرع كان مدفوعًا، ولو جزئيًا، برغبته في جذب انتباه لوسي.
كانت هذه الحقيقة واضحة لأنها راقبت لايل منذ صغره.
منذ طفولته، كان لايل يتعمد التعثر ليستحوذ على اهتمام لوسي، أو ينفجر بالبكاء إذا أفلتت يده.
“لايل، لوسي… أبطأ بكثير من الآخرين، خاصة في التعبير عن مشاعرها، فهي بطيئة بشكل ملحوظ.”
ارتجف كتفا لايل.
رفع رأسه ببطء إلى مكانه.
كان وجهه، عندما التقى بعينيها، يحمل تعبيرًا محيرًا كأنه لا يستوعب.
شعرت
الجدة بالحيرة ذاتها.
لم تتوقع أبدًا أن تجد نفسها تتحدث عن هذا الأمر مع أحد.
“أتعلم؟ لوسي لم تبكِي حتى عند ولادتها. لقد صُدمنا حينها، أنا وابني، والد لوسي، حتى ظننا أنها ربما ماتت.”
لكن، على عكس مخاوفهم، كانت لوسي بصحة جيدة، ونمت أسرع من أقرانها.
المشكلة كانت أنها نادرًا ما تبتسم.
“بل إنها لم تبكِي أو تضحك ولو مرة حتى اليوم الذي بدأت تمشي فيه بمفردها.”
كان هذا نقيضًا لصورة لوسي التي يعرفها لايل، حتى لو كانت قصة من طفولتها المبكرة قبل أن تتشكل شخصيتها.
لذلك، شعر لايل أن لوسي التي تحدثت عنها الجدة غريبة.
“لحسن الحظ، بعد أن تعلمت الكلام، بدأت تبكي وتضحك فورًا… لكن هناك أطفال مثل لوسي، أطفال يتأخرون قليلًا في التعبير عن مشاعرهم.”
ابتسمت الجدة برقة.
“كح، أم…”
بعد أن سعلت آنيس بخفة، صفت حنجرتها وواصلت.
“لذا، يا لايل… أتمنى ألا تتعجل كثيرًا.”
‘ربما لوسي لا تعرف سوى مشاعر الصداقة.’
هكذا رأت الجدة الأمر.
‘لأنها لا تعرف، لا تستطيع مواكبة لايل بنفس السرعة.’
“الآن، وأنا أسمع الجميع يمدحونك، يبدو أنك كبرت كثيرًا. لكن، رغم ذلك، سأظل أنا ولوسي قلقتين عليك، فاعتنِ بنفسك أكثر.”
تمنت آناييس ألا يرتكب لايل أخطاء تؤذيه بسبب استعجاله.
لوسي لم تظهر قلقها لشدته، لكن آناييس، مثلها، كانت قلقة على لايل، الذي لا يزال طالبًا.
“أنا آسف.”
عاد صوت لايل إلى الجدية.
كلماته بدت كأنها تعتذر عن إثارة القلق، لكنها في الوقت ذاته حملت اعتذارًا لعجزه عن تقديم إجابة واضحة لكلام آناييس.
تنهدت الجدة في سرها.
‘كيف أتعامل مع هذا العناد؟’
ارتشفت الجدة رشفة من الشاي الذي أعدته سارة، ثم قالت بهدوء.
“حسنًا، لننهِ الأحاديث الجدية الآن، أتفق؟”
شعرت أن الجو بحاجة إلى تغيير، فصفقّت الجدة يديها بلطف.
عند سماع صوت تصفيقها، رسم لايل ابتسامة مريرة.
ومع ذلك، لم يتوقف عن الاعتذار.
‘أنا آسف.’
همس لايل في نفسه.
‘أنا آسف لأنني، كشيطان، أجرؤ على أن أطمح في حفيدتكِ.’
لكنه لم يستطع قول ذلك للجدة أبدًا.
***
اقترب موعد العودة إلى الأكاديمية، لكن خطواتي كانت ثقيلة.
فقد تدهورت صحة جدتي أكثر.
“جدتي، هل أنتِ بخير حقًا؟”
بينما كنتُ أرتدي زي الأكاديمية، أمسكتُ بيد جدتي الممددة على السرير، وترددتُ في خطواتي بحيرة.
“ألم أقل إنني بخير؟ من الطبيعي أن يضعف المرء مع تقدم العمر، فلا تقلقي كثيرًا. سأنتظر عودة لايل، فاذهبي الآن.”
“نعم، آنستي. سأعتني بالماركيزة بكل ما أملك!”
قالت سارة وهي تهز رأسها بحماس.
“بالمناسبة، قالت الآنسة ديوليتا إنها ستأتي اليوم، فلا تقلقي كثيرًا.”
عند سماع اسم الأخت ديوليتا، شعرتُ ببعض الطمأنينة.
أومأتُ رأسي على مضض، وتركتُ يد جدتي، ثم نهضتُ من مكاني.
“جدتي، سأكتب لكِ رسائل.”
‘لذا، تعافي بسرعة، حسنًا؟’
ضحكت جدتي ولوحت بيدها كأنها تفهم كلامي.
***
انتهت العطلة الشتوية في الأكاديمية قبل يومين من حفل الافتتاح.
لأن حفل تخرج الطلاب الذين أكملوا دراستهم يُقام قبل ذلك.
كان هذا الحدث بالغ الأهمية، حتى أن المعبد يرسل كاهنًا ليباركه.
عندما دخلتُ قاعة الحفل، لفتت انتباهي دبابيس تتوهج بضوء خافت منتشرة هنا وهناك.
كانت هذه الدبابيس، المشبعة بالقوة المقدسة، تُوزع من المعبد على الخريجين.
‘هل سأرتدي واحدًا من هذه عندما أتخرج؟’
مع تجمع الأضواء الخافتة، شعرتُ بإزعاج في عينيّ، فعبستُ دون إرادة.
“لوسي!”
بينما كنتُ أعبس وأتفحص المكان، سمعتُ صوت بيلا من مسافة قريبة.
التفتُ لأنظر إليها، فوجدتها ترتدي دبوسًا متوهجًا هي الأخرى.
تجاهلتُ ذلك بجهد وركضتُ نحوها.
“أختي، مبروك التخرج!”
رحبت بي بيلا بابتسامة مشرقة.
“شكرًا على تهنئتكِ.رغم أننا تعارفنا لعام واحد فقط، أردتُ رؤيتكِ قبل مغادرتي.”
عانقتني بيلا بحرارة.
في تلك اللحظة، شعرتُ بألم خفيف فوق عظمة الترقوة.
يبدو أن دبوسها وخزني.
بسبب صغر حجمه، لم يكن الألم شديدًا.
“رغم أن المسافة بعيدة قليلًا، زوريني متى شئتِ!”
تراجعتُ خطوة، وأمسكتُ بيديها، وهززتهما بحماس، وقلتُ.
ضحكت بيلا وأومأت برأسها.
“لكن، يا لوسي.”
فجأة، فتحت بيلا عينيها على وسعهما.
“نعم؟”
تبعتُها وفتحتُ عينيّ بنفس الطريقة وأجبتُ.
“هل ترين ذلك الطالب في السنة الثالثة خلفكِ، ذو الغرة الكثيفة؟ بالمناسبة، لا يرتدي دبوسًا.”
طالب بغرة كثيفة؟لم أحتج للالتفات لأعرف من هو.
“سينباي دوين؟ أعرفه لأنني أراه كلما زرتُ المكتبة.”
“حقًا؟ إذن، ألستِ فضولية؟”
انحنت بيلا قليلًا لتتناسب مع قامتي الأقصر، وهمست في أذني.
“عن ماذا؟”
لم أفهم كلامها الغامض، فأمَلتُ رأسي وسألتُ.
“لم يكشف عن عينيه ولو مرة منذ التحاقه.”
“آه…”
“اليوم هو الفرصة الأخيرة، ألا ترغبين في رؤيتها ولو مرة؟”
فكرتُ في الأمر، وأدركتُ أنني لم أرى وجه ديوين بدون غرته.
لكن، على عكس بيلا، لم يثر ذلك فضولي.
“عادةً، هؤلاء الأشخاص يكونون وسيمين عندما يكشفون عن وجوههم.”
‘هل هناك قاعدة كهذه؟’
ترجمة:لونا
التعليقات لهذا الفصل " 49"