لمَا يرغب في أن يصبح فارسًا في منزلنا، تاركًا بيته؟ كان هذا التفكير لغزًا عجزت عن فهمه تمامًا.
“حتى عندما اكبر، سأظل برفقة لوسي دائمًا.”
ألا يمكننا البقاء معًا دون اللجوء إلى هذه الوسيلة؟
بصراحة، من منظوري الحالي، كنت أعتزم أن أظل صديقةً لـ لايل مدى الحياة، ما لم يتحول إلى شخصية شريرة ويهاجمني بنية القتل.
“طريقتك كانت متطرفة للغاية، فأذهلتني.”
“أحقًا؟”
ظل لايل هادئًا كعادته، غير متأثر.
“لكن، هل هذا مناسب فعلًا؟ ألا يعترض الدوق على قرارك؟”
“ولمَ؟ لا يوجد سبب يدعوه للاعتراض.”
حسنًا، هل هذا صحيح؟
عند التفكير مليًا، بدا الأمر منطقيًا إلى حد ما.
ففي قصر الدوق، توجد بالفعل فرقة فرسان، وعددهم كافٍ.
بموجب قوانين الإمبراطورية، عادةً ما يكون عدد الجنود الخاصين الذين يحق للنبلاء امتلاكهم محدودًا.
ولكن، بما أن لايل ينتمي إلى عائلة الدوق، فإن تشكيل فرقة فرسان جديدة لعائلة مارسين أمرٌ صعب.
مع ذلك، إذا أسس فرقة فرسان في عائلتنا، التي ترتبط بها عائلتهم علاقة وثيقة، فسيكون ذلك دعمًا قويًا للأخت ديوليتا عندما تصبح دوقة، فضلًا عن فوائد أخرى متعددة.
بصراحة، كان هذا نوعًا من التحايل، لكنني كنت أعلم أن عديدًا من العائلات تمتلك صلات بفرق فرسان بهذه الطريقة.
“لايل، لقد أبدعتَ في التخطيط هذه المرة!”
بهذا، حتى لو عاد لايل إلى قصر الدوق بعد تخرجه من الأكاديمية، لن يتعرض لضغوط من زوجة الدوق.
يا لها من خطة بارعة.
أعربت عن إعجابي بخطة لايل الذكية بتصفيق حار.
“بالتأكيد، ستسعد اختي بهذا. ستنظر إليك بفخر!”
“…؟ لوسي، يبدو أنكِ تسيئين فهم شيء ما.”
“ماذا؟ ما الذي أسأت فهمه؟”
“لستُ أستغل عائلتكِ لإسعاد اختي الكبرى.”
قالها فجأة بنبرة جادة.
جعلتني كلمة “استغلال” أشعر وكأن نواياه النبيلة بدت خسيسة للغاية.
“أعلم. لا أظن أنك تستغل عائلتنا.”
ربتّ على كتفه لأطمئنه. ومع ذلك، لم تظهر على وجه لايل أي علامة استرخاء.
بل ألقى الخبز الذي كان يحمله على الطاولة بعنف، فتناثرت فتاته حولها بلا ترتيب.
‘من يعبث بالطعام يُعاقب، أيها الأحمق.’
“قلتُ إنني أريد أن أكون معكِ، أليس كذلك؟”
“نعم؟ نعم، أعلم ذلك أيضًا.”
لقد ذكرتَ ذلك من قبل.
ومضت عيناي وأنا ألتقط الخبز الملقى على الطاولة وأعيده إلى فمه. فتح فمه بنظرة متجهمة وقضم قطعة منه.
بلع.
ابتلع لايل الخبز الذي في فمه.
“…سأظل إلى جانبكِ حتى أموت عجوزًا.”
كانت نظرته الملتهبة تعكس صدقًا عميقًا.
لماذا تكون متطرفًا إلى هذا الحد منذ البداية؟
كان هذا العزم مخيفًا بمجرد سماعه.
***
خلافًا للتوتر الذي أثارته تصريحاته السابقة، اختار لايل ألا يرافق المدرب خلال هذه العطلة.
بل توقف عن التدريب وعاد معي إلى المنزل.
كانت هذه المرة الأولى التي يحصل فيها لايل على استراحة منذ التحاقه بالأكاديمية.
“جدتي!”
ما إن وصلت إلى القصر حتى هرعت إلى مكتب الجدة.
“لوسي، هل وصلتِ؟”
“نعم! جدتي، اليوم جاء لايل معي!”
“أحقًا؟ إذن، الشخص الذي أتعب قلب حفيدتي حضر بنفسه؟”
كان صوت الجدة مفعمًا بالمرح.
رغم كلامها هذا، كانت قلقة جدًا على لايل، لكنها أخفت ذلك من أجلي.
حتى تلك اللحظة، كان لايل مختبئًا خلف الجدار، مترددًا في الظهور.
“….”
اقتربت منه وسحبت يده بحثّه على الخروج.
لكنه قاوم، وكأنه يرفض الظهور، وقال.
“…هل الماركيزة غاضبة جدًا؟”
يبدو أنه صدّق مزحة الجدة، إذ كان صوته يرتجف خفيفًا.
“لايل، إذا أردت تهدئة غضبي، ألا ينبغي أن تبدأ بتغيير هذا اللقب الرسمي وتُثبت لي أنك بخير؟”
قبل أن أرد، وبخت الجدة لايل أولًا.
ظننت في البداية أنها تمزح، لكن هذه المرة بدت مشاعرها صادقة.
هل هي غاضبة حقًا؟
أطبقت شفتيّ وتبادلت النظرات بحذر بين الجدة ولايل.
“ج، جدتي…”
أخيرًا، أطل لايل برأسه بحذر وغيّر اللقب بسرعة. نظرت إليه الجدة بتعبير صارم.
”ظننتُ أن الجدة تمزح مع لايل، لكن هل هي غاضبة منه حقًا؟ كما توقعتُ، فإنها تنحاز إليّ كحفيدتها… لو كنتُ أعلم، لأخفيتُ قلقي عليه بدلًا من إظهاره.’
ابتلعت ريقي وندمت على قلقي المفرط على لايل في الماضي.
“لم أرَك منذ زمن بعيد، كدت أنسى ملامح وجهك. مرّت عامان تقريبًا، أليس كذلك؟ اقترب.”
أشارت الجدة له أن يقترب.
لاحظت فجأة أن التجاعيد على يديها أصبحت أكثر عمقًا ووضوحًا مما كانت عليه.
“أنا آسف…”
مدّ لايل كلمته بنبرة طويلة.
حتى لايل، الذي كان جريئًا معي، بدا مقهورًا أمام توبيخ الجدة، إذ اختفى كبرياؤه تمامًا.
ولسبب ما، شعرت أنا أيضًا بالإحراج.
“إذا كنت آسفًا، ألا تعانق هذه العجوز ؟”
فتحت الجدة ذراعيها، داعية إياه للاقتراب.
تبدد التعبير القاسي، وحلّت مكانه ابتسامة الجدة الحنونة.
“….”
ألقى لايل نظرة خاطفة نحوي.
أومأت برأسي بدلًا من الرد.
عندها تقدم لايل نحو الجدة ببطء وانحنى ليتناسب مع طولها.
كانت حركاته متيبسة، وكأن العناق مع شخص بالغ أمر غير مألوف بالنسبة له.
تأملت عناقهما بهدوء، ثم بدأت أقفز بحماس، رافعة جسدي وخافضته.
“جدتي، أنا التالية!”
“عانقيني أنا أيضًا!”
رفعت يدي عاليًا وقلت ذلك، فضحكت الجدة بصوت مرتفع.
لم تكد العطلة تبدأ، لكنها بدت أكثر سعادة بكثير من العطلة السابقة.
***
كان شتاء هذا العام غزير الثلج بشكل استثنائي.
بينما كنت أسير متعثرة، سقطت قبعتي على الثلج.
التقطتها ونفضت الثلج عنها. نفثت نفسًا، فتناثر بخار أبيض في الهواء.
كان البرد شديدًا بسبب الشتاء القارس.
لم يكن الشال الذي أرتديه على كتفي كافيًا لصد البرد.
لو كنت أعلم، لارتديت وشاحًا وغطاء أذنين أيضًا.
“هل تشعرين بالبرد الشديد؟”
سأل لايل، الذي كان يسير أمامي.
على عكسي، بدا غير متأثر بالبرد على الإطلاق.
كانت آثار أقدامه محفورة بعمق في الثلج على الطريق الذي سلكه.
لذا، تعمدت السير في آثار أقدامه فقط.
بفضل ذلك، لم تغرق قدمي في الثلج رغم المشي على الأرض المغطاة به.
“لا، أنا بخير.”
رغم أنني نطقت بثلاثة كلمات فقط، خرج بخار نفس كثيف.
فركت أنفي بظهر يدي، خشية أن يكون قد خرج مخاط معه.
“اقتربنا من الوصول.”
رغم قوله ذلك، لم يقترب مني.
فقط غطى يدي بيده الكبيرة ليشاركني دفئه.
“ألم يكن من الأفضل أن نجلب بعض الزهور؟ بما أننا في الشتاء، ربما كان يجب أن نجلب زهورًا اصطناعية.”
بعد بدء العطلة بوقت قصير، أعلن لايل فجأة أنه يريد زيارة المنزل الذي عاش فيه مع والدته قبل انتقاله إلى قصر الدوق.
بصراحة، كان ذلك مفاجئًا إلى حد ما.
فقد تجنب لايل دائمًا البحث عن أي أثر لوالدته.
أو بالأدق، لم يفكر قط في إثارة ذكريات تتعلق بها.
لذا، عندما تحدث عن والدته لأول مرة منذ زمن، سألته دون تفكير إن كان بإمكاني مرافقته.
بالطبع، كنت مستعدة للتراجع فورًا إذا رفض.
لحسن الحظ، لم يبدُ أنه يمانع مرافقتي.
بل شكرني على اقتراحي.
يا لها من راحة. لم أتطفل دون قصد.
“لا حاجة لذلك. إنها لا تحب الزهور.”
من؟ والدتك؟
“لقد وصلنا.”
قبل أن أسأل، أعلن لايل وصولنا.
رفعت بصري من الأرض، حيث كنت أتبع آثار أقدامه، ونظرت أمامي.
ظهر قصر صغير يبدو على وشك الانهيار، مدفونًا تحت الثلج.
لو تراكم المزيد من الثلج، لكان السقف قد استسلم للوزن وانهار.
“هنا المكان الذي عشت فيه أنا وأمي آخر مرة.”
قال ذلك وهو يمسك بمقبض الباب.
فجأة، تساءلت عما إذا كان الباب سينفتح أصلًا.
“اوه، هل يجوز هذا؟”
“لا يسكنه أحد، فلا بأس.”
ليس ذلك فحسب.
هذا المكان مليء بذكرياته مع والدته.
“لا بأس حقًا. على أي حال، سأزوره اليوم ولن أعود مرة أخرى.”
“….”
ما الذي تغير في قلبه؟
منذ عودته من مهمة التطهير، كان يغرق أحيانًا في أفكاره دون سابق إنذار.
عندما سألته عن السبب، كان يبتسم فقط، فتوقفت عن السؤال بعد محاولتين.
اليوم فقط، شعرت أنني أدركت سبب تصرفه الغريب.
ربما كان يتردد طوال الوقت فيما إذا كان يجب أن يزور هذا المكان أم لا.
توصلت إلى استنتاجات عشوائية حول أفكاره.
في الواقع، كان من الصعب سؤاله بالتفصيل، إذ كان جوّه غريبًا ومكتئبًا، فلم يكن لدي خيار سوى التخمين بمفردي.
ترجمة:لونا
التعليقات لهذا الفصل " 46"