غريب. إنه الصيف بوضوح، فلماذا أشعر بهذا البرد؟
أثارت النسمة الباردة غير المتوقعة قشعريرةً في جسدي.
نظر إليّ لايل من الأعلى، وارتفع طرف شفتيه بهدوء. فجأة، بدا وكأن النسيم البارد يتلاشى، كما لو كان سحرًا.
‘هل هذا مجرد شعور؟’
لم تدم شكوكي طويلًا، إذ لاحظتُ شحوب وجه لايل.
عندما رأيتُ تعابيره غير المعتادة، رفعتُ يديّ دون وعيٍ وأمسكتُ وجهه الباهت.
“يديك باردتان جدًا، ووجهك شاحب. هل هناك شيءٌ يزعجك؟”
من شدة قلقي، لم أرمش وأنا أنتظر رده. عندما بدأت عيناي تجفان، تكلّم لايل أخيرًا.
“لم يكن هناك شيء، لكنه ظهر للتو.”
“حقًا…؟”
كان وجهه خاليًا من التعابير طوال الوقت، لكنه أطلق ذقني أخيرًا تحت نظرتي الثاقبة.
“هل يمكنكِ تركنا لحظة؟”
قال لايل لميليسا.
يبدو أن لايل يجد صعوبةً في الحديث عن أموره أمام الآخرين غيري.
ألقت ميليسا نظرةً نحوي بدلًا من الرد.
عندما أومأتُ برأسي، ضاقت عيناها.
ثم نهضت من مكانها، تاركةً كلمة
“وداعا” واختفت.
فتح لايل فمه مجددًا.
“إذن، هل ستقضين العطلة وأنتِ تفكرين بذلك الشخص؟”
بما أنني لم أذكر اسم فابون، أصبح يُشار إليه بـ”ذلك الشخص”
.ومع ذلك، قوله “تفكرين به” قد يُساء فهمه لو سمعه أحد.
“من أين بدأتَ الاستماع؟”
‘من أين سمعتني لتتحدث بهذه الطريقة الغريبة؟’
عندما سألتُ للتوضيح، اقترب لايل وجلس بجانبي وقال.
“إذا كان وسيمًا جدًا، من عائلةٍ جيدة، ذا شخصيةٍ حسنة، ونظيفًا في علاقاته، ألن يكون من الجيد التفكير بجدية في الأمر كما اقترح؟”
يا إلهي، كيف يستطيع تكرار كلامها دون أن يخطئ بحرفٍ واحد؟صراحةً، لا أتذكّر كلام ميليسا بدقة، لكنني متأكدة أنه نقلها بحذافيرها.
لم يكتفِ لايل بذلك، بل كرّر كلامي أيضًا.
“‘يبدو أنه كذلك.’”
“أم…”
“حقًا؟ إذا كانت هذه مواصفاته، فلربما التفكير أكثر ليس سيئًا…”
“كفى، كفى! أعرف من أين سمعت، توقف الآن…!”
شعرتُ وكأن الخجل يشير إليّ بأصابعه.
أمسكتُ ذراعه بقوة وهززتُ رأسي بسرعة، متوسلةً له التوقف.
“هل اعترف لكِ أحدهم من دفعتك؟”
“نعم، لكن…”
“من هو؟”
“قول ذلك قد يكون…
“لم أذكر اسم فابون، لأنني شعرتُ أن ذلك قد يزعجه لو كنتُ مكانه.
لم أتوقع أن يهتم لايل بأموري العاطفية لهذه الدرجة.
الآن تذكّرت، لقد سألني ذات مرة إن كان بإمكانه التدخل في أموري العاطفية.
تذكّرتُ تلك المحادثة، فأدركت أنه لا يزال مراهقًا لم يتجاوز مرحلة البلوغ.
“ألا يمكنكِ إخباري بتفاصيل أكثر؟”
يبدو أن إجاباتي الغامضة أحبطته، فقد حثّني بنظرةٍ بريئة كمن يهدّئ طفلًا.
‘هم… كيف أبدأ؟’
بما أنني وعدته من قبل، شعرتُ أن عليّ الإجابة عن فضوله.
“كما قلت، اعترف لي فتى من صفي، وطلب مني التفكير خلال العطلة قبل الرد.”
اختصرتُ الحقيقة دون زيادة.
ارتجفت زاوية فم لايل عند سماع شرحي المختصر.
“لم ترفضيه مباشرةً، هل لأنكِ مهتمة به؟”
نظر إليّ طويلًا قبل أن يسأل ببطء.
أجبتُ دون تردد.
“لا، ليس كذلك. لا أعرفه جيدًا. حاولتُ رفضه على الفور، لكنه هرب…”
حتى لو حاولتُ ملاحقته، لما تمكنتُ من اللحاق به.
“لو كانت ساقاي أسرع قليلًا، لكنتُ على الأقل تظاهرتُ باللحاق به…!”
كلما فكّرتُ، شعرتُ بجرحٍ غريب في كبريائي.
أغمضتُ عينيّ بغيظ، لكن لم يأتِ رد.
في الصمت المفاجئ، فتحتُ عينًا واحدة ونظرتُ إلى لايل.
كان وجهه أشحب مما كان عليه.
‘ليس وقت الحديث عني.’
“وماذا عنك؟”
“أنا؟”
“ما الذي يزعجك؟ وجهك أشحب مما كان عليه.”
تردد في الرد.
كان موقفه مختلفًا تمامًا عما كان عليه عند مناقشة فابون.
ابتلعتُ ريقي من التوتر.
“هل أنت بخيـ…”
“لوسي.”
أسند لايل رأسه على كتفي برفق.
دغدغتني خصلات شعره على رقبتي.
“قررتُ الذهاب في مهمة تطهير خلال العطلة.”
“ماذا؟”
كدتُ أرتجف من المفاجأة.
“قالوا إنني قد أموت.”
“تمو…!”
“لكنني، مهما فكّرت، أراها فرصةً جيدة، فقررتُ الذهاب.”
الذهاب في مهمة تطهير يعني مرافقة الفرسان خارج الإمبراطورية.
كنتُ أشعر بتوقّع سيء، وتخمّنتُ أن شيئًا قد حدث، لكن لم أتوقع أن يكون بهذا الحجم.
“هل ستذهب حقًا؟ إنها مهمة خطيرة جدًا.”
‘ألا يمكنك التراجع الآن؟’
“كما قال، الذهاب في مهمة تطهير في هذه السن فرصةٌ لكسب شهرةٍ ونفوذ، ولكن ما جدوى ذلك إذا خسر حياته؟
تاقت نفسي أن يهز رأسه متأخرًا ويقول: ‘أنتِ محقة، أليس كذلك؟’
ربما أضاف أن الموت ممكن لأنه أراد مني منعه.
لكن توقّعاتي خابت تمامًا.
“لقد قررتُ الذهاب بالفعل. وأريد الذهاب.”
“…….”
“لا تخبري الجدة أو اختي الكبرى. سيشعران بالقلق.”
حتى لو لم أخبرهما، ستتصل الأكاديمية بقصر الدوق، وعندها ستعلم ديوليتا وجدتي.
‘ألا تفكر في قلقي أنا؟’
كادت هذه الكلمات تخرج من حلقي، لكنني لم أستطع قولها.
كنتُ أعلم جيدًا أنني الشخص الوحيد الذي يمكن لـ لايل أن يفتح له قلبه.
***
“ستذهب؟”
سأل هاميل بنظرةٍ غير راضية.
“نعم.”
على عكسه، كانت ابتسامةٌ خفيفة تزيّن فم لايل.
“أكرر، ستُوضع في الخطوط الخلفية، مفهوم؟”
“نعم.”
نظر هاميل إلى لايل الذي أجاب بطاعة بنظرةٍ محرجة.
بعد تدريبه لمدة عام ونصف، كان هاميل يعلم أن لايل يتمتع بشجاعةٍ خفية.
لكن هل سيظل هادئًا هكذا في المعركة؟أي فارس، عند مواجهة وحشٍ لأول مرة، يصاب بالذعر.
بعضهم يرمي سيفه، ويهرب.
كان يعتقد أن لايل الهادئ لن يفعل ذلك، لكنه ظل قلقًا.
“آه… ماذا سأقول لقصر الدوق مارسين…؟”
‘هم من وافقوا، وهم من ألقوا مهمة إقناع لايل وإبلاغ القصر عليّ.’
تذمّر هاميل داخليًا، معتبرًا أن عمره هو السبب في تحميله هذه المسؤوليات.
“إذا انتهى الحديث، سأنصرف.”
نظر لايل بهدوء إلى هاميل الذي كان يمسك رأسه، ثم تراجع خطوةً وقال.
لوّح هاميل بيده كأن يقول “اذهب”.
استدار لايل وغادر مكتب المعلمين.
بينما كان يسير في الممر، فكّر لايل أن قلق هاميل عليه لا طائل منه.
حتى لو مات، لن يؤثر ذلك على قصر الدوق.
ليس فقط لأنه ابن غير شرعي.
بل على العكس، لو كان كذلك، ربما أقاموا له جنازة.
لكن القصر سيعلم الحقيقة عند موته.
“لا قطرة دمٍ من عائلة مارسين، فأي ابن غير شرعي؟”
غمغم لايل بنبرةٍ قاسية.
كان يعرف وضعه جيدًا.
لا يجري في عروقه دم عائلة مارسين. (صدمة😭)
وكان يعلم أن التظاهر بعدم معرفة ذلك يرفع من قيمته قليلًا.
كانت الدوقة تظن أن لايل يجهل قيمته، لكنها كانت مخطئة.
منذ البداية، لم يكن لايل ينوي التخلي عن أي شيء سوى حق الوراثة.
ففي النهاية، حتى لو امتلك حق الوراثة، لن يترك الدوق مارسين مقعد الزعيم لشخصٍ غريب.
كل ما أراده لايل منذ صغره كان شيئًا واحدًا فقط.
تذكّر لايل المحادثة التي سمعها.
“‘إذا كان وسيمًا جدًا، من عائلةٍ جيدة، ذا شخصيةٍ حسنة، ونظيفًا في علاقاته، ألن يكون من الجيد التفكير بجدية في الأمر كما اقترح؟’”
“يبدو أنه كذلك.”
شعر وكأن عيوبه كُشفت أمام الآخرين.
هو ليس نبيلًا مثل لوسي.
صحيح أن والدها كان عاميًا، لكن حالته مختلفة عنه، فهو من أبوين عاميين.
علاوة على ذلك، لوسي هي الوريثة الوحيدة لعائلة سيوينت.
من حيث المواصفات ، من اعترف لها ربما يناسبها أكثر منه.
مع قبوله للواقع، شعر لايل أن ذلك لا يُطاق.
لذلك، رغم علمه أنها ستقلق عليه، أخبرها عن مهمة التطهير عمدًا.
تصرفٌ صغير، لكنه سيضمن أنها لن تجد وقتًا للتفكير في ذلك الشخص طوال العطلة.
نظم لايل أفكاره وأغلق عينيه في منتصف الممر المظلم.
ما ينقصه الآن.
“العائلة، المواصفات…”
بدأ يدرك أخيرًا أي نوع من الأشخاص يجب أن يصبح في المستقبل.
***
رحل بالفعل.
دون وداعٍ لائق.
لم يخبرني حتى بموعد المغادرة، فلم أتمكن من توديعه.
على أملٍ ضئيل، هرعتُ إلى بوابة الأكاديمية صباح يوم المغادرة، لكن لايل كان قد غادر بالفعل.
سمعتُ أنه انطلق في الفجر.
شعورٌ بالفراغ والقلق والاستياء امتزج في قلبي، وبقيتُ واقفةً أحدّق في البوابة التي مرّت منها العربة.
بعد أيام، عدتُ إلى قصر الماركيزة سويينت.
كما توقّعت، كانت جدتي وديوليتا على علمٍ بمشاركة لايل في مهمة التطهير.
“لا تقلقي كثيرًا، عزيزتي.”
“أجل، لوسي، سيعود سالمًا بالتأكيد.”
كانتا بالتأكيد قلقتين جدًا، لكنهما، لرؤيتي حزينة، أخذتا تهدّئانني.
لكن القلق كان لا مفر منه.
حتى لو كان لايل الأفضل في المبارزة بالأكاديمية، فهو لا
يزال فتىً في الثامنة عشرة على أعتاب البلوغ.
علاوة على ذلك، قوته الحقيقية تظهر بعد ان يصبح شريرا.
الآن، هو مجرد إنسانٍ بجروحٍ تلتئم بسرعة.
كان من المريح أن جروحه تلتئم بسرعة، لكن ذلك لا يعني أنها لا تؤلمه.
كلما تعمّقت في التفكير، شعرتُ بصداعٍ يزداد.
‘لماذا قررتَ الذهاب فجأة وجعلتني قلقةً هكذا…؟’
ترجمة:لونا
التعليقات لهذا الفصل " 42"