الفصل 118
تماثل جسد لايل للشفاء بما يكفي ليعود إلى هيئته البشرية، فقرر أن يمرّ على قصر سويْينت.
كان يُعتقد أنّه غائب في تلك المدة للبحث عن لوسي.
وحين وصل إلى القصر، كانت أول من استقبلته هي ديوليتا.
“لايل، ماذا عن لوسي؟”
نظر إليها لايل للحظة، لكنه لم يُجبها مباشرة، بل أرسل نظرة سريعة إلى رود الواقف خلفها بوجه متوتر.
كانت نظرته تسأل بصمت:
“منذ متى هي هنا؟”
قرأ رود تلك النظرة بذكاء، وحرك شفتيه هامسًا:
“منذ أربعة أيام.”
لم يكن أحد من فرسان القصر، ولا حتى الخدم، يعلم متى سيعود لايل.
ولذلك، يبدو أنّ ديوليتا لم يكن أمامها سوى الانتظار، تترقّب عودته بقلق وأمل.
نظر لايل إلى شقيقته التي تقف أمامه، ثم تحدث بصوت هادئ:
“لقد بحثت في جميع البلدان القريبة من الإمبراطورية… لكنني لم أستطيع العثور على الماركيزة.”
رفع لايل رأسه وهو يتظاهر بالتردد قبل أن ينطق بما أعدّه مسبقًا.
لكن حين جاءها الجواب الذي لم تكن تتمنى سماعه، شحب وجه ديوليتا حتى صار كالكفن.
“أعلم كم يقلقك أمر لوسي، أختي… لكن لا أظن أنّ بقاءك هنا في قصرها لوقت أطول سيكون مناسبًا، أنت أيضًا لديك الكثير من المسؤوليات…”
قاطعت حديثه بصوت منخفض ارتجف قليلًا:
“لايل… والدي… الدوق مارسِين، قرر ألّا يرسل أيّ رجال إضافيين للبحث عن لوسي بعد الآن.”
“ماذا؟!”
كانت الصدمة بادية على وجه لايل، لكن الأكثر ذهولًا كانوا الفرسان الواقفون من حولهما.
“قال… قال إنّ الأمر أصبح بلا جدوى…”
لم تستطيع ديوليتا أن تُكمل جملتها، فقد اختنق صوتها بالحزن.
أخفضت رأسها قليلًا، وظلّ ظلّ قاتم يغطي وجهها الجميل.
نظر لايل إليها طويلًا قبل أن يسأل بنبرة أكثر جدية:
“وهل… ازدادت هجمات الوحوش مؤخرًا؟”
أومأت ديوليتا ببطء:
“نعم… يبدو أنّ عدد الوحوش قد ارتفع فجأة في الآونة الأخيرة، حتى أنّ الأخبار تتواتر من كل مكان عن الأضرار الهائلة التي تُسببها في البلدان المجاورة.”
تنهّد لايل وكأنّ الأمر اتضح له:
“إذن، الدوق مارسِين لا يريد أن يُهدر المزيد من قواته في البحث عن لوسي… بل يريد الاحتفاظ بهم لمواجهة هجمات الوحوش.”
“آه…”
كانت إجابته صادمة لها، لكنها واقعية في الوقت ذاته.
وبما أن الوحوش أصبحت أكثر شراسة، فربما سيصدر القصر الإمبراطوري قريبًا أوامر بوقف البحث عن لوسي، لتوجيه الجنود نحو صدّ التهديدات القادمة.
وحين خطرت تلك الفكرة في ذهن لايل، ارتسمت على شفتيه ابتسامة خافتة وكأنّه كان يتوقع هذا منذ البداية.
‘يبدو أنّ جهودي في خلق المزيد من الوحوش لم تذهب سُدى.’
لكن صوت ديوليتا القلق أيقظه من أفكاره:
“لكن… هذا يعني أن لوسي أصبحت في خطر أكبر الآن، أليس كذلك؟!”
أومأ لايل دون أن يُبدي انفعالًا كبيرًا، بينما كانت هي تشدّ على أسنانها بقوة محاولة كبح مشاعرها.
“أختي… حتى وإن توسّلنا، فلن يغيّر الدوق قراره. نحن نُضيّع الوقت في طلب المساعدة، و الأفضل لنا أن نبحث بأنفسنا، حتى لو كان ذلك في مكان واحد إضافي.”
أخفض لايل يده التي كان يستر بها فمه، وارتسمت على وجهه ابتسامة باهتة، تحمل شيئًا من السخرية.
ترددت ديوليتا للحظة وكأنّها تريد قول شيء آخر، ثم تمتمت بتردد:
“ثم… هناك أمر آخر.”
توقف لايل عن الابتسام، ونظر إليها ببرود متعمد.
“الدوق مارسِين… يريد مقابلتك.”
رفع لايل حاجبه باهتمام:
“أنا؟”
“نعم… قال إنه يريدك أن تزوره في قصر مارسِين فور عودتك إلى الإمبراطورية.”
لكنّها ما لبثت أن صرفت بصرها عنه، متجنبة النظر في عينيه، مما زاد شكوكه بأنّ الأمر خطير.
ضيّق لايل عينيه قليلًا وهمس:
“حسنًا… سأزوره بعد الظهيرة.”
“حسنًا…”
أومأت ديوليتا برأسها، ثم انسحبت بخطوات هادئة خلف رود، بينما تابع لايل النظر إليها حتى غابت عن أنظاره.
غير أنّه ما لبث أن ناداها فجأة:
“بالمناسبة… أختي.”
توقفت ديوليتا والتفتت نحوه:
“نعم؟”
“هل… ما زلتِ تلتقين بالسيد دايلَر؟”
ارتسمت على ملامحها علامات الدهشة وهي تميل رأسها باستغراب:
“أنا؟ ولماذا قد ألتقي به؟”
كان قد حدث أن تقابلا مصادفة في الماضي، لكن لم يكن بينهما أيّ سبب يدفعهما للقاء مجددًا.
ابتسم لايل ابتسامة غامضة وأجاب:
“فقط أردت التأكد لا أكثر.”
***
وصل لايل إلى قصر مارسِين بعد ذلك بوقت قصير.
لم يكن القصر قد تغيّر كثيرًا منذ زيارته الأخيرة، ولا حتى نظرات الحذر والبرود التي كانت تلاحقه من الخدم والحراس.
لولا أنه أرسل إشعارًا مسبقًا بقدومه، لربما كانوا رفضوا دخوله أصلًا.
استقبله كبير الخدم، وأخبره بأنّ الدوق في مكتبه:
“الدوق بانتظارك يا سيدي.”
كان الدوق يقضي معظم وقته خارج القصر، لكن متى ما عاد، فإنه لا يغادر مكتبه أبدًا.
طرق لايل الباب بهدوء:
“سيدي الدوق، السيد لايل قد وصل.”
لم يعد أحد في القصر يناديه بـ “السيد الشاب” كما كان من قبل.
فمنذ أن أصبح فارسًا، استُبدلت ألقابه القديمة، وصار الجميع ينادونه بـ”السيد لايل”، بخلاف ما يحدث في قصر سويينت حيث ما زالوا يعاملونه كالسيد الشاب.
“ليدخل.”
فتح الخادم الباب بخفة، وانحنى قليلًا وهو يُفسح الطريق لـ لايل ليدخل.
دخل لايل المكتب المظلم الذي حجبت ستائره أشعة الشمس، لكن الدوق سحب الستائر بنفسه بعد لحظة، فغمر الضوء الغرفة.
“سمعت أنك طلبت مقابلتي، يا سيدي الدوق.”
ابتسم مارسِين قليلًا، ثم أجابه بنبرة هادئة لكن عميقة:
“لقد استغرقت وقتًا أطول من المتوقع في العودة إلى الإمبراطورية.”
ابتسم لايل ببرود مصطنع:
“وأنت تعرف يا سيدي… البحث عن شخص مفقود ليس أمرًا سهلًا.”
جلس على الأريكة المقابلة بثقة مصطنعة، لكنه لم يُغيّر ملامحه قيد أنملة، مُخفيًا ما يجول في ذهنه.
حدّق فيه الدوق للحظة ثم قال بابتسامة ذات مغزى:
“ومع ذلك… إذا كان المرء مصممًا بما يكفي، فلن يعجز عن العثور على شخص واحد.”
تجمدت ابتسامة لايل فجأة، وتقلّصت شفتاه في خط مستقيم.
كانت كلمات الدوق تحمل شيئًا مخفيًا، لكنه لم يُعلّق، بل ظلّ ينظر إليه بصمت.
أكمل الدوق بصوت عميق:
“حين قررت أن أبحث عن أرينيل… لم يستغرق الأمر مني سوى شهر واحد لأجدها.”
شعرت عينا لايل بالبرود أكثر فأكثر وهو يسمع اسم “أرينيل” المرأة التي أنجبته.
تابع الدوق:
“لقد مضت ثلاثة أشهر كاملة منذ أن حشدنا كل قوات الإمبراطورية، فرسان القصر، وحتى جنود سويينت… وما زلنا لم نجد لوسي.”
ابتسم لايل مجددًا ابتسامة مصطنعة وهو ينقر بخفة على ركبته:
“مرّ الوقت بسرعة فعلًا.”
لكن الدوق أعطاه نظرة حادة ثم قال ببرود:
“بعد كل هذا ولم نجد شيئًا… هذا يعني أن احتمال موت لوسي كبير جدًا.”
في تلك اللحظة، قرر لايل أن يلعب دوره حتى النهاية.
أخفى ابتسامته تمامًا، وأطلق من عينيه بريقًا قاتلًا حتى كاد يبدو مستعدًا لطعن الدوق في أي لحظة.
وكان تمثيله مقنعًا بما يكفي ليجعله يصدّق.
قال بصوت منخفض يقطر حدة:
“سيدي الدوق…”
لكن مارسِين لم يُعر تهديده أي اهتمام، بل أكمل حديثه ببرود جليدي:
“لقد حان الوقت يا لايل… اترك قصر سويينت، وعد إلى هنا.”
أدرك لايل الآن ما يريد الدوق قوله تحديدًا.
“عائلة سويينت انتهت بالفعل.”
“لو طال غياب الماركيزة لوسي أكثر من ذلك، فستقوم الإمبراطورية حتمًا بمصادرة لقب النبالة من عائلتها، وسيختفي مجدها للأبد.”
أردف الدوق بنبرة حاسمة:
“من الآن فصاعدًا، لا حاجة لنا بأي روابط معهم… تعال وانضم إلى فرسان قصر مارسِين، وسأجعل منك قائدهم المستقبلي.”
ساد الصمت للحظة، لم يجب لايل مباشرة، بل ظلّ يحدق فيه بنظرات غامضة.
كان يعرف تمامًا أن الدوق لن يورّثه اللقب أبدًا، مهما أظهر له من مودة.
ففي النهاية، هو ابن رجل آخر… وليس وريثه الشرعي.
لكن بالرغم من ذلك، ظلّ الدوق يحاول منحه شيئًا يعوّضه عن ذلك.
أما لايل، فكان يعلم الدوافع الحقيقية خلف تلك “الهبة”.
‘لو أنه اختار أرينيل منذ البداية… لما وصلنا إلى هنا.’
لقد تتابعت الأفكار البديهية في ذهنه.
غير أنّه شعر أنّ التفكير في ذلك الآن لا جدوى منه.
“لايل، ألم تقل إنّك تريد اسعادي؟”
في النهاية، ما كان ينبغي عليه فعله لم يتغيّر.
“إذن، اقتل دوق مارسِين بيدك أنت.”
سواء كان يكنّ له ودًّا، أو كان حقًّا والده البيولوجي، فلا فرق في الأمر.
التعليقات لهذا الفصل " 118"