الفصل 116
ما لبث رأس لايل أن تدلّى إلى الأسفل، وشعرتُ أنّ جسده الذي كان يطوّق كتفي قد خارت قواه.
“لايل؟”
ناديتُه مرّة أخرى، لكنّه كان مغمض العينين يلهث بصعوبة، وحاله لا يبدو على ما يرام.
كان لديّ حدسٌ عمّا أصابه.
“هل أصابك مغص في معدتك؟”
أيّ طعام تناولتَ حتى أصابك مغص كهذا!
سارعتُ إلى حلّ ذراعيه الملتفّين حول عنقي، لكنّه لم يُبدِي أيّ ردّة فعل، وكأنّه قد فقد وعيه.
فلم أجد بُدًّا من جرّه جرًّا إلى السرير.
لقد حذّرتك مرارًا ألا تأكل أيّ شيء عشوائيًّا…!
لكنّني ما إن ألقيتُ به فوق السرير حتى انقطع حبل أفكاري.
“متى قلتُ ذلك أصلًا…؟”
بالفعل قلتُها يومًا، لكن لا أذكر متى ولا في أيّ ظرف بالضبط.
بل على العكس، كثيرًا ما كنتُ أنا من يحثّه على أن يأكل أكثر حتى أصابه المغص.
وفوق ذلك، فإنّ كونه قد التهم كل شئ امامه لم يحدث لي أنا، بل كان قد وقع في أحداث الرواية الأصليّة على لوسي.
فلماذا أظنّ أنّها تجربة عشتُها بنفسي…؟
صفعتُ وجهي بغتة!
لكن عقلي بقي صافيًا.
لم أجْني إلّا ألمًا في خدّي.
“هل تُصاب الوحوش أيضًا بتسمّم غذائيّ…؟”
مهما حاولتُ أن أقنع نفسي، الآن هو أفضل وقتٍ لأهرب.
لكن، ما إن وقع بصري على جسده المتهالك، لم أستطيع أن أُحرّك قدمي.
أيمكن أن أكون… ضعيفة القلب لهذه الدرجة؟
بتنهيدة جلستُ إلى جانبه. وجعلني ذلك أسترجع أيّامًا ما بعد وفاة جدّتي، حين كنتُ أغلق على نفسي الباب في غرفتي.
وكانت تلك اللحظة أيضًا حين عزمتُ على ألّا أعتمد على لايل مرّة أخرى.
وبينما أستغرق في الذكرى، ارتميتُ بجانبه فوق السرير.
لم أرَه يتألّم هكذا منذ أن أصيب بمغص بسبب الإفراط في الأكل وهو صغير.
التفتُّ برأسي إلى وجهه.
“إنّه ثعبان، ومع ذلك يغمض عينيه…”
هذا دليل آخر على أنّه ليس ذلك الثعبان.
في الوقت نفسه، استرعى انتباهي أنّ الغرفة مظلمة رغم أنّ الوقت نهار.
الجوّ الخافت جعل النعاس يتملّكني.
وبينما كنتُ أترنّح بين النوم واليقظة، سمعتُ وقع خطوات تتسلّل من وراء الباب المفتوح.
ولم يكن صعبًا أن أدرك أنّها خطوات مامون.
وما لبث أن ظهرت بهدوء، تحمل بيدها صينيّة طعام. على ما يبدو، كان تبحث عنّي لأنه كان وقت الغداء.
‘يا له من إصرار عجيب على إطعامي…’
وبينما يراودني هذا الخاطر، دخلت مامون إلى الغرفة وقالت:
“حان وقت الطعام.”
“آه، نعم.”
أجبتُ، لكن بتردّدٍ طفيف. إذ شعرتُ بالذنب لأنّي سأتناول الطعام أمام شخص، لا بل ثعبان، يتلوّى من ألم التسمّم الغذائي.
“عجيب هل وجدتي السلّم؟.”
على عكس مخاوفي، انساب الطعام بسهولة في حلقي. كنتُ اتناول الطعام بنهمٍ وأنا أجيب على نبرة مامون الرتيبة:
“لقد أدركتُ أخيرًا أنّه مخبّأ خلف الحائط!”
قلتُها متباهية كما لو أنّني اكتشفتُه بحدسي. لكن عينَيْ مامون ضاقتا ارتيابًا.
أنا أيضًا أستطيع أن أملك قليلًا من الفطنة، أليس كذلك…!
“هذا صحيح. لكن…”
قلتُ في نفسي تسألني ثمّ لا ترد على جوابي؟
وفي اللحظة التي كدتُ أشعر فيها بالضيق، أكملت مامون:
“لم أتوقّع أن تكتشفي هوية سيّدي أيضًا.”
ثمّ صفقت لي تصفيقًا خفيفًا، كأنّها تمدحني.
بل ورفعت إبهامها لتثني عليّ، لكن ذلك بدا أشبه بمبالغةٍ في المديح، ما جعلني أقطّب حاجبيّ.
إن كانت تعنيها بصدق، فلتُظهر بعض التعبير على وجهها على الأقلّ.
لكنّ ما أثار دهشتي حقًّا هو لفظها كلمة “سيّدي”. فما كان منّي إلّا أن أسرعتُ إلى مدّ ذراعيّ لأحجب لايل خلفي.
“ه، هل كنتِ تعرفين أنّه لايل؟”
“بل أودّ أن أسألكِ كيف خطر ببالك أنّي قد لا أعرف.”
“لأن…”
حقًّا… لو فكّرتُ جيّدًا لكان جهلُها بالأمر هو المستغرب.
يبدو أنّ مامون كانت مدركة منذ البداية أنّ لايل قد تحوّل إلى ثعبان مريض.
فكيف لا، وهي عاملة في قصر غريب كهذا أصلًا…
حينها فقط أدركتُ سبب ما أشعر به أحيانًا من رهبة غامضة تصدر عنها، فسألته:
“لا تقولي لي… أنت أيضًا لست بشرية؟”
فضحكت وصَفّقت مجدّدًا وقالت:
“هذا يستحقّ التصفيق ايضا.”
“ماذا؟”
“لم يخطر ببالي أنّكِ لم تكتشفي حتّى الآن.”
“…”
“كنتُ أظنّ أنّكِ أدركتِ الأمر منذ ظهر ذلك الشيطان الذي كان يقلّد سيادتك.”
“ذلك أيضًا كان شيطانًا؟!”
إذن لم تكن توأمتي…!
كان وقْع الحقيقة أشدّ وقعًا من مجرّد وجود شبيهتي، أنّها لم تكن بشرًا بل شيطانًا.
“على أيّة حال، لا بأس. لن أُتعب نفسي أكثر في هذا.”
“ماذا تقصدين؟”
“لا شيء.”
أجابت بنبرة ضجر أزعجتني.
فما العيب أن أجهل ذلك؟ من كان يتخيّل أصلًا أنّ حولي هذا العدد من الشياطين؟
ثمّ أردفت مامون، وهي تضع يدها على الصحون الفارغة:
“لقد تدهورت حالة سيّدي فجأة منذ أيّام، ولا أعرف السبب.”
عجيب! عندما أسألها مباشرة لا تجيب، لكن الآن تسرد عليّ كلّ شيء بلا طلب!
“ويبدو أنّه سيظلّ على هذا الحال لبعض الوقت…”
ثمّ فجأة سألت:
“ألستِ تنوين الهرب؟”
جعلني سؤالها المفاجئ خرساء للحظة.
فقد كنتُ أفكّر في ذلك فعلًا. وإن كان في الحقيقة لا داعي للتفكير الطويل…
“لكن… قد تكون هناك مصائد أخرى…”
“لا، لا مصائد إلّا في الطابق الذي تستعمله السيدة لوسي.”
“حتى إن لم يكن كذلك، فأنت ستمنعيني بالتأكيد…”
“لا، لن أمنعك.”
“ماذا؟”
هل سمعتُ بشكل صحيح حقًّا؟ سألتُها مجدّدًا:
“من الآن فصاعدًا لن أمنعك.”
“ولماذا؟”
“لأنّ الشيطان يعرف أيضًا قيمة حياته. لكن، لا تظنّي أنّي سأساعدك.”
ثمّ تمتمت:
“لا أريد أن أُلتَهَم أو أُمزَّق إربًا.”
وبكلماتٍ مبهمة كهذه، غادرت الغرفة وتركت الباب مفتوحًا.
ظللتُ أحدّق في الباب طويلًا، ثمّ نهضتُ بتردّد لأتّجه نحوه.
لكن قبل أن أخطو…
“آخ!”
التفّ شيء حول كاحلي وسحبني إلى الوراء فسقطتُ على وجهي.
ارتطم أنفي بالأرض!
أحسستُ بألمٍ أشدّ ممّا لو كنتُ قد تدحرجتُ على السلالم.
صرختُ وأنا أمسح أنفي بيديّ.
لحسن الحظ لم ينزف.
“أنتَ…!”
لم يكن في الغرفة من قد يفعل ذلك إلّا شخصٌ واحد.
التفتُّ سريعًا نحو كاحلي.
وبالفعل، كان ذاك ذيل أبيض يلتفّ حوله.
طويلٌ إلى حدٍّ مدهش.
رفعتُ بصري قليلًا نحو السرير، حيث كان الذيل يتدلّى منه، ورأيتُ لايل ما زال مغمض العينين.
الآن فقط أدركتُ… إنّه يتظاهر بالنوم!
***
هروب؟ كيف يكون ذلك أصلًا؟
تطلّعتُ إلى النافذة وقد أرخى الليل ستاره، وأخذتُ أتمتم في سرّي.
“لايل، لن أهرب. فقط دعني.”
بالطبع كنتُ أكذب.
فلو أفلَتَني، سأهرب حتمًا انتقامًا لأنّه آذى أنفي.
ابتسمتُ ببراءة، وأمسكتُ ذيله الملفوف حول كاحلي لأحاول نزعه.
لكنّه لم يتحرّك. يا لقوّته! لا، ليست قوّة قبضة… بل قوّة الذيل.
“… “
فتح لايل عينيه فجأة، والتقت نظراتنا. شعرتُ كأنّ صوتًا صامتًا ينطق في داخلي:
-أتتركينني وأنا مريض؟
كانت نظرةٌ تمزّق الضمير. رغم أنّها عين زاحف.
“أنتَ من التهم أي شئ وجدته حتى أصابك المغص، والآن تحدّق بي هكذا…؟”
لو رآنا أحد لظنّ أنّني السبب في مرضك.
أشحتُ بوجهي، قابضةً يديّ بانزعاج.
وما هي إلّا لحظات حتى ارتفع ذيله من كاحلي ليطوّق ساقي العليا.
اشتدّ التفافه أكثر فأكثر.
وكأنّه يصرخ:
-لن أتركك.
كنتُ أعلم ذلك، لكن إصراره فاق توقّعي.
“لو كنتُ مكانك لذهبت النوم بدلًا من التمسّك بي…”
قلتُها وأنا أدفع وجهه عنّي بيدي. فجأة، لامس لسانه كفّي.
فزعتُ وسحبتُ يدي إلى صدري.
“أنت… لا تملك سُمًّا، صحيح؟”
فأخرج لسانه مرّة أخرى كجواب. لكنّني لم أفهم شيئًا بالطبع.
ثمّ اقترب أكثر حتى صار وجهه أمام وجهي، يمعن النظر.
وفجأة مال برأسه ولمس خدّي، قبل أن يعاود التحديق فيّ.
ماذا يحاول أن يقول؟
ضيّقتُ عينيّ وأنا أبادله النظرات.
ثمّ خطر لي احتمال، فسألتُ:
“هل… بصرك ضعيف؟”
فأومأ برأسه.
ماذا؟ يستطيع أن يغمض عينيه ويسمع جيّدًا، لكن لا يرى؟
هل هو ثعبان انتقائيّ القدرات؟
اعاود النظر إليّ.
-أتتركينني وأنا لا أرى؟
“أيّها…!”
لم أستطيع كبح غضبي.
التعليقات لهذا الفصل " 116"