الفصل 115
“غَرْغَر.”
بصعوبة بالغة ابتلعت لوسي ما في فمها من طعام، ثمّ رفعت بصرها إلى مامون بملامح غريبة.
وما إن خلا فمها تمامًا، حتّى انفَتَحت شفتاها ببطء.
“أنا… أنا ماركيزة، هل تعرفين هذا؟”
ماركيزة سويينت، تحديدًا.
أمالت لوسي رأسها متعجّبة، كأنّها تتساءل:
ما هذا الكلام الذي جاء في غير محلّه؟
أما في حدقتَي مامون فقد ارتسمت ظلال من الشكّ.
‘أهذا تمثيل يا تُرى؟’
تردّدت مامون في الحكم. إن لم يكن تمثيلًا، فما معنى ذلك التصرّف البليد؟
“لق… لقد أنهيتُ طعامي.”
كما في تلك الليلة على الشرفة حين حدّقت لوسي في الغرفة كأنّها تبحث عن شيء، كانت نظرات مامون نحوها حادّة، ملحّة.
لم تتحمّل لوسي وطأة تلك النظرات، فدفعت صَحْنها إليها بخوف.
تأمّلت مامون الصّحن تارة، ولوسي طورًا، ثمّ مدّت يدها وأخذته منها.
“سأعود في المساء.”
خرجت من الغرفة على الفور، وما إن أدارت ظهرها حتّى تذكّرت يوم حاولت لوسي التهامَها. عندها ومض في ذهنه افتراض آخر:
‘إن كان ذلك يومًا محاولةً منها لاسترداد قوّتها المفقودة؟’
لو صحّ ذلك، فإنّ كثيرًا من الأمور ستجد تفسيرها. أمّا سبب غياب وعيها عن الأمر، فذلك ما لم تستطع إدراكه.
شحبت نظرة مامون.
لوسي التي كانت تُغمى عليها بين حين والآخر… و لايل الذي كان يمنحها لحمه ودمه… ماذا لو كان ذلك حقًّا مشاركةً في القوّة؟
ولقد بدا أنّ لوسي، بعد أن تنال تلك القوّة، لا يغمى عليها، بل تنام في صحّة جيّدة.
حتى انتهت مامون إلى استنتاج واحد لا ثاني له:
أنّ الجسد الذي نحته الملك ليُشبه هيئة البشر آخذ في الانهيار شيئًا فشيئًا.
“… هل عليّ أن أهرب؟”
فهو لم تكتفِي بمحاولة سرقة ساقَ الملك، بل تجاوزت الأمر إلى السخرية والاستهزاء به، فربّما سيقطع عنقها قريبًا.
أطرقت رأسها وهي تخطّط لمسلك فرارها، ثمّ ارتخَى كتفاها فجأة.
“كفّي عن ارتكاب الحماقات، ألن تفعلي؟”
كان صدى صوت دُوين يطنّ في أذنه، كما لو أنّه يوبّخه الآن.
إنّه القول الذي اعتاد دوين ترداده كلّما تورّطتْ مامون في كارثة جديدة.
‘ليتني أستطيع أن أرى دُوين مرّةً أخيرة…’
لكن، متى كانت آخر مرّة رأت فيها دُوين؟
***
[لا تبحث عنّي لبعض الوقت.]
تنهّد دُوين وهو يطالع الورقة السوداء نُقشت عليها تلك الجملة البيضاء الوحيدة.
زَفَرَ بقلقٍ وهمٍّ عظيمين، وقد أمضى ما يقارب ثلاثة أشهر يُقلّبها بين يديه.
“هل غرقت في مصيبة جديدة؟”
كانت مامون، إن تعلّق الأمر بالمال أو الجواهر النادرة، تندفع اندفاع المجنون.
وغير مرّة انجرفت خلف أفعال مختلة لا تمتّ لها بصلة… وفي أغلبها كان السبب دُوين نفسه.
“أنت الذي قلتَ إنّك ترغب في هذا.”
لكن… أيُّ شيء كان ذلك بالضبط؟ لم يَعُد يتذكّر، إذ قاله حينها بلا تفكير. ثمّ ذهبت مامون وسرقت ذلك الشيء.
“لم يسبق لها أن غابت كلّ هذه المدّة…”
لما انها تركت الرسالة بهذا الشكل فلا يعني سوى أنّها تسبّبت في حادثة عظيمة فاقت قدرتها على تحمّل العواقب، فاضطرّت للاختباء.
“هاه…”
لم يكن نصيب دُوين سوى الشقاء، إذ ابتُلي بفاعلة خير لا تجرّ عليه إلّا المتاعب.
تنهد، ثمّ دسّ في جيبه عملاتٍ ذهبيةً سلّمتها له مامون.
عملات ذهبية لا تتداول في أيّ مكان من القارّة.
ألقى على عاتقه عباءته وغادر القصر.
حتى العثور على مامون، الذي يرهق حتى الشياطين أنفسهم، لم يكن بالأمر الصعب على إنسانٍ عادي مثل دُوين.
***
مضت قرابة يومين منذ أن التقيتُ بمن تشبهني تمامًا، ومنذ ذلك الحين لم يظهر لايل قطّ.
وكذلك اختفى الثعبان الذي لم يفارقني قطّ.
‘ما السبب؟’
حيّرني هذا الانقطاع المفاجئ، ولم أجد سبيلًا لمعرفة مراده. حتى حين سألتُ مامون لم انل منها سوى جوابٍ بارد أنّها لا تعلم.
وما زاد الطين بلّة أنّ مامون لم تبدِي حتّى المروءة في الكذب عليّ.
وقفتُ طويلاً في الممرّ أفتّش عن الدرج، ثمّ جلستُ أرضًا منهكة، أتمتم لنفسي:
“هل يعقل أنّه انحاز إلى تلك التي تشبهني…؟”
وما إن راودتني تلك الفكرة حتّى تذكّرت قوله لي:
“ألستِ تغارين؟”
كلا… هذه ليست غيرة.
إنّما هي مجرّد احتمال منطقي.
“ألستِ تغارين؟”
قلتُ لا، بحقّ السماء!
لكن يدي ارتفعت بلا وعي لتلكم الهواء.
“لم أعرف الوحدة يومًا، فكنتَ دائمًا معي.”
إلّا أنّ صدى كلماته لم يخلّف إلّا الندم كلّما طال الزمن. فإن كان ينوي إهمالي، فلِمَا قال لي هذه الكلمات أصلًا؟
تذمّرتُ صامتة وأسندتُ ظهري إلى الجدار… أو لعلّي أردتُ أن أفعل.
“هاه…؟”
إذ فجأةً اختلّ توازني وارتدّ جسدي إلى الوراء.
لحظة، كأنّ الزمن أبطأ في جريانه. التفتُّ قليلًا، فإذا بالدرج الذي بحثت عنه طويلًا ينتظرني هناك.
كنتُ في الحقيقة أتهاوى من أعلى الدرج!
“دَوووم!”
“……”
شعرتُ بألم في ظهري ورأسي، ورحتُ أذرف دموعًا من شدّة الفزع. كنتُ أظنّ أنّي سأُكسر أو أهلك كما يحدث عادة لمن يسقطون من السلالم.
لكنّ المفاجأة…
“أوه… لم أتأذى بالقدر المتوقّع.”
كان الألم باقياً، لكنّه لم يكن لا يُحتمل.
لم يكن وجعًا يطيح بالعقل.
استلقيتُ على بسطة الدرج أحدّق في السقف، وقلتُ في سرّي:
“إذن لم يكن الدرج في الغرفة، بل كان محجوبًا بالجدار.”
وما الجدوى إذن من كلّ ما بذلته؟
ضحكتُ مرارة وأنا أسترجع غروري السابق، يوم ظننتُ نفسي نابغة عظيمة.
بعد قليل نهضتُ أتحسّس أعضائي. لم أجد جروحا تُذكر.
وحالما أيقنتُ سلامتي، أسرعتُ أنزل الدرج.
بلغتُ الطابق الثاني، وكان في نيّتي أن أواصل مباشرة إلى الأوّل.
“… …”
لكن… لو لم أشعر أنّ لايل هنا، في الطابق الثاني، لفعلت ذلك.
لا أعلم كيف أفسّر الامر، إنّما تيقّنتُ فجأة أنّه قريب من هنا.
وبالنسبة إليّ لم يكن هذا أمرًا غريبًا، فقد طالما استطعتُ أن اشعر به أينما كان.
‘لو هربتُ الآن…’
قد تكون فرصتي، خصوصًا وقد بدا أنّ لايل لم يَعُد يهتمّ بي.
بالتأكيد… هذا هو الوقت الأنسب.
لكن، لماذا تسير قدماي لا إلى الدرج بل إلى الغرفة التي يخطر لي أنّه فيها؟
أبدًا ليس لأني أريد أن أتحقّق إن كان مع تلك لوسي الأخرى! لم أعد أبالي بحديث التوأم وما شابهه.
ثمّ خطرت لي فكرة… أليست هذه حال الروايات؟ حين يُقبل أحد الشخصيّات الفضوليّة على الموت أوّلًا؟
وأنا، وأنا لست سوى شخصيّة ثانويّة في هذه القصّة، كأنّ المشهد كُتب لي تمامًا.
ارتعد قلبي إذ وصلت إلى باب الغرفة.
خُيّل إليّ أنّ من خلفه جوًّا كئيبًا كاسرًا.
قد يكون وهمًا منّي… ومع ذلك، وقفتُ مشدوهة.
‘وإن وجدتُهما معًا… ماذا سأفعل؟’
لكنّ جسدي لم يُصغي لعقلي، ودَفَع الباب ببطء.
“كَرررر…”
صدر صوت مَفصَل الباب الموحش، فانفتح، كاشفًا عن شقّ ضيّق. ومن خلاله، أبصرتُ حركة مريبة فوق السرير.
“……؟”
لم يكن واضحًا بسبب الظلام، لكنّ المخلوق هناك لم يكن على هيئة إنسان.
‘لقد رأيتُ مشهدًا كهذا من قبل…’
تذكّرتُ حين جئتُ إلى قصر لايل لأوّل مرّة، يوم تسلّلتُ أنظر إلى غرفته فغُشي عليّ.
وما إن غمرني هذا الإحساس المألوف حتّى انفتح الباب كليًّا.
“كَرررررررررر…”
وفي اللحظة ذاتها توقّف ذلك الشيء عن الحركة، ثمّ رفع رأسه ببطء.
كان ثعبانًا… ضخمًا جدًّا، أطول من قامة رجل، وجلدُه الأبيض يلمع حين ألفت عيناي العتمة.
هل هو الثعبان الذي يُرافق لايل دائمًا؟ لم أكد أُفكّر بذلك حتّى اصطدمت نظراتي بعينيه.
وكانتا ذهبيّتَين… لا حمراوين كما في المعتاد. عندها، ارتدّت قدماي خطوةً للوراء دون وعي.
لكنّ العجب أنّني لم أشعر بالخوف. أو ربما… لأنّي عرفتُ مَن يكون.
“لايل…”
فاض الاسم من فمي بلا تفكير. ومعه، انزلق الثعبان من على السرير، وانساب نحوي.
لم يتوقّف عند الأرض، بل واصل زحفَه حتى بلغني. ووقفتُ أنا ثابتة أراقبه يقترب.
ما لبث أن لامس وجهي، ثمّ تسلّق جسدي، يلتفّ حولي ويشدّني بين لفّاته.
لم يَخنقني، لكنّ قبضته لم تَخلُو من القوّة.
حرّكتُ عينيّ أنظر إليه وهو يطوّقني، حتى بلغ أعلى جسدي. وهناك، فتح فاه على وسعه.
“آه…”
من جديد، اجتاحني ذلك الإحساس المألوف…
كأنّي كنتُ ذات مرّة فريسةً له، والتهمني لايل حقًّا…
التعليقات لهذا الفصل " 115"