الفصل 114
‘تلك إذن هي الطرف الأكثر غباءًا بين الاثنين.’
تدحرج دايوس تحت السرير، وأخذ يُراقب الوضع في صمت.
بما أنّ السحر لا ينفذ من جسده، بدا واضحًا أنّ استخدام السحر داخل هذا القصر محظور.
‘لهذا السبب جاء بي الى هنا؟’
مسح دايوس وجهه الذي أصابته الوسادة، ثم أخذ يزحف بخفّة نحو الشرفة.
كان مؤسفًا أن يُفلت الملك من أمام عينيه، غير أنّه في موقف لا يملك فيه القدرة على استخدام السحر، فما من شيءٍ آخر يستطيع فعله.
لقد حصد أكثر ممّا توقّع من المعلومات، فلم يبقى إلاّ أن ينسحب سالمًا…!
لكن ما إن أزاح دايوس الستارة حتى وقع ما لم يكن في الحسبان.
“هَاه…!”
ارتطم نظره بعيني مَامون الملتصقة بالشرفة تترصّد الداخل، فشهق مذعورًا ووقع على مؤخرته.
“هَاه!”
ولم تلبث لوسي هي الأخرى أن أطلقت صرخة قصيرة حين وقعت عيناها على مامون.
لقد كانت هيئتها في تلك اللحظة مرعبة بما يكفي لتُثير الرعب في قلب كلّ من يراها.
“كنتُ اشعر أنّ شيطانًا آخر تسرّب إلى الداخل…”
كريييك…
ترافق فتح الشرفة انبعاث صوتها القاتم.
خفضت بصرها نحو دايوس الذي يحدّق بها من الأسفل.
“اتّضح أنّك من أتباع باول.”
ثمّ انحنت مَامّون بجسدها حتى كاد خصرها يصير قائمًا على زاوية تسعين.
“هل جلبك سيدي؟”
أدارت عينيها نحو لايل وهي تسأل، كأنّها تسمع صدى لا يُفترض أن يُسمع.
اكتفى لايل برفع كتفيه دون جواب، لكن مَامّون أدركت أنّها علامة على الإقرار، فعادت تستقيم.
“مَامّون… ها أنت ذا، تساءلتُ أين تختفين.”
ما دام الشيطان منزوع القوّة السحريّة لا يختلف عن جسدٍ بشريّ متين، فقد أخذ دايوس يتحفّظ أكثر من ذي قبل.
كان انكماش جسده خير دليل.
إذ لم يكن لديه أيّة فرصة للنجاة وهو محاصر بثلاثة شياطين دفعةً واحدة.
“إذن، انضممتِ للملك…”
“دايوس.”
قطعت مَامّون بحدّة محاولاته اليائسة لجرّ الوقت.
“لماذا ترتدي هيئة السيّدة لوسي؟”
كان صوتها باردا يخالطه الغضب، على الرغم من بقاء ملامحها جامدة.
ومن ردّ فعلها هذا أيقن دايوس أنّها بالفعل قد انحازت إلى جانب الملك.
‘قالت إنّها لن تميل إلى أيّ طرف، لكن منذ لحظة الحصول على الساق شعرتُ أنّ هناك أمرًا غريبًا.’
وهو يفكّر في إمكانيّة وجود شياطين آخرين إلى جانب الملك، إذ بمَامّون تواصل بلهجة مشحونة:
“لقد أفسدتَ كلّ شيء.”
‘أفسدتُ ماذا بالضبط؟’
كان هنالك شيء مُريب بالفعل، سواء مع الوعاء أو ما يخطّطون له في الخفاء.
‘ما غايتهم حقًّا؟’
ضيّق دايوس عينيه ليلتقط مقصدها.
“كنتُ قد أعددتُ له بعناية…”
لقد كانت مَامّون تجهّز على طريقتها سلسلة من المقالب لإرعاب لوسي من جديد.
غير أنّ ظهور دايوس في هيئة مطابقة للوسي دمّر كلّ خططها.
فالآن، لو شاهدت لوسي أيًّا من ألاعيبها فلن تُفاجأ البتّة.
أنهت مَامون تفكيرها ثم قبضت بقسوة على كتف دايوس وهي ترمقه بنظرة دامية.
“ما دمتَ داخل مجالي، فاعلم أنّك لن تهزمني… تدرك ذلك، أليس كذلك؟”
ابتلع دايوس ريقه جافًّا وهو يجهل سرّ غضبها، فيما كان صوت لايل يتردّد ضاحكًا خلفه كأنّه توقّع ما يحدث سلفًا.
أمّا لوسي، فلم تفهم شيئًا من هذا كله، وظلّت متعجبة.
‘يدخلون غرفة نائم فيتآمرون أمامه كأنّه غير موجود…!’
لقد زال عنها النعاس تمامًا بعد كلّ هذا الذهول.
***
في النهاية، لم يفلح دايوس في الفرار، فوقع أسيرًا داخل قفص مائي صاغه لايل.
كان يستطيع التنفّس والكلام، لكنّه عاجز عن الحركة أو ممارسة السحر.
مجرد سجنٍ لا جدوى فيه للمقاومة.
“ما الذي تريده؟”
سأل دايوس بوجهٍ قاسٍ بعدما أيقن أنّ الخروج مستحيل.
ولم يكن لايل وحده من انتبه، بل مَامّون أيضًا وجّهت نظرها إليه لترى ما يخبّئه.
“أخبرتُك من قبل… ‘ساق’ الملك التي استوليتم عليها.”
“ليس هذا فقط.”
فوجود مَامّون إلى جانبه، وإخفاء الملك نفسه… كلّ هذا أوحى لدايوس بأنّ لايل يتحرّك من أجل إحياء الملك.
لكن ثمة نقاط مبهمة، منها لوسي.
مع أنّ الحديث بينهما لم يتجاوز كلمات معدودة، فإنّ هيئتها كانت غريبة.
بل إنّ الملك الحقيقي بدا أقرب إلى لوسي التي في ذاكرة لايل.
ثمّ إن أراد لايل إحياء الملك، لِما احتاج لكلّ هذه التعقيدات؟ أليس يكفي أن يموت بنفسه أو أن يقتله الملك مباشرة؟
“كنتُ قد نسيتُ… لكن…”
ارتفعت نبرة لايل وسط خرير الماء الذي يملأ الغرفة.
“العبد، بطبيعته، يشتاق لأن يُعترف به من سيّده.”
نعم، هذا صحيح. خصوصًا المخلوقات السحريّة التي تُولَد من رحم الشيطان.
‘لكن، ماذا يعني بهذا الآن؟’
“وأنا… لستُ استثناء.”
ابتسم لايل بخفّة، فأدرك دايوس أنّه يتحدّث عن نفسه.
قهقه ساخرًا وهو يردّ:
“طموحك لا حدود له إذن.”
في نظر دايوس، كان لايل يُسكب كلّ عواطفه على لوسي وحدها.
لكن لايل لم يُعلّق، بل بان بريق عينيه من تحت جفنيه.
وفي لحظة….
“أغغ…!”
تلاطم سطح الماء فجأة، وتصاعدت دوّامة من قاع الحوض لتبتلع دايوس في أعماقها.
ومامّون تسأل، دون أن تعيره انتباهًا:
“هل كانت الآنسة لوسي الملك حقًّا؟”
“…….”
“قلتَ إنّها ليست شيطانًا، فهل كان هذا كذبًا.”
“ما زالت إنسانة، لذا لم أكذب.”
“…….”
“ما دمتُ حيًّا، ستبقى لوسي إنسانة.”
بلع لايل ريقه وهو يبتلع دايوس دفعة واحدة، وظهر في عينيه خيط من الحمرة.
“فلا تُبالغي في إيذائها.”
ثمّ نقر بسبابته على صدره كأنّه يختبر ما ابتلعه. شعر بثقل في جوفه، لكنّه ظلّ مطمئنًّا.
“وإلّا ستُعاقَبين لاحقًا.”
أطلق ضحكة جانبية، أمّا مَامّون فظلّت جامدة الوجه، لكن قلبها كان يضطرب.
‘لقد وقعتُ في ورطة…’
ومضت بخاطرها كلّ مقالبها السابقة ضد لوسي، ترتجف خشية أن تلقى نفس مصير دايوس، أو أسوأ.
***
تغريد العصافير ملأ السماء مع بزوغ الفجر.
استيقظت لوسي متثاقلة، ووجهها شاحب يشي بليلة أرقٍ طويل.
‘إذن… ما الذي كان يحدث بالأمس؟’
لم يُخبرها أحد بشيء.
وقد تغلب عليها الرعب فلم تنم كما ينبغي.
مسحت وجهها المتعب بيديها ونهضت من السرير.
‘هل هذا ما يشعر به من يتعرّض للتجاهل والإقصاء؟’
راودها الخوف من أن تسأل عن حقيقة ما يجري، أو عن ذاك الشخص الذي يشبهها تمامًا، خشية أن تسمع جوابًا لا تحتمله.
“مستحيل…!”
شهقت فجأة وهي تُمسك فمها بيدها. لم يكن حلمًا، إذن فليسَت لوسي الأصليّة.
‘لم يبقى إلا احتمال واحد…’
“هل يُعقل أن لدي توأم…؟!”
ربّما هي أيضًا تحمل سرّ مولد كما لايل.
تمنّت لو كان الأمر كذلك.
‘ترى، مَن منّا الأخت الكبرى؟’
تبدّد الخوف ليُفسح المجال لفضولٍ حالم.
دووم!
فتح الباب فجأة بصوت عالٍ على غير العادة، فارتجفت لوسي وهي ترى مَامّون تدخل حاملة صينية الطعام.
كانت جامدة الملامح كعادتها.
“…صباح الخير يا سيدتي.”
“آه، ن-نعم، صباح الخير.”
لم يختلف أسلوبها عن المعتاد، لكن البداية من تحيّة الصباح كانت أمرًا غير مألوف.
“اليوم أعددتُ أطباقًا تروق لكِ أكثر من سواها.”
عادةً ما كانت تتمسّك بالنظام الغذائي المتوازن، لكنّها هذه المرّة أولت اهتمامًا خاصًا لذوق لوسي.
“هاه؟ أ-أجل…”
وبالفعل، كانت الأطباق على الصينية من أحبّ ما تناولته لوسي من قبل. بل إنّ حجم الصينية بدا مضاعفًا عن سابقه.
“تفضّلي.”
جلست مَامّون تراقبها وهي تدعوها للأكل.
ارتبكت لوسي من هذا الاهتمام المفاجئ، وزاد ارتباكها من نظراتها المثبّتة فوقها.
‘فلأنتهي سريعًا وأصرفها…’
أخذت تلتهم الطعام بسرعة، حتى لم يبقى إلا نصفه.
عندها رفعت مامون رأسها وتكلّمت:
“سيدتي… هل أنتِ الملك؟”
التعليقات لهذا الفصل " 114"