الفصل 112
الحاكم ليس عادلاً.
لقد أحبّ نفسه أكثر من أيّ شيء، ولذلك تشبّث بالعالم الذي صنعه بنفسه حتى غدا أسيرًا له.
أمّا البشر، فكانوا يرفعون صلواتهم يوميًّا متوهّمين أنّ الحاكم يتفضّل عليهم بنظره ورعايته، غير أنّهم لم يكونوا سوى شظايا صغيرة تُكوّن عالم حاكمهم.
والشياطين… لم يكونوا سوى مدراء لتلك الشظايا.
مهمّتهم أن يُسيطروا على البشر كي لا يفتك بعضهم ببعض، فتسقط الدنيا في هاوية الفناء.
لم يُدرك لايل حقيقة دورهم إلّا حين سمع هذا القصص أوّل مرة من ملك الشياطين… من لوسي.
ولم يلبث أن سألها:
“هل حقًّا سبق أن دمّر البشر هذا العالم؟”
فأجابته لوسي ببرودٍ كعادتها:
“لعلّه حدث عشر مرّات أو نحو ذلك.”
قالتها بلا اكتراث، كأنّها لم تكلّف نفسها عناء العدّ أصلًا.
ثمّ أضافت مفسّرة أنّ قرار الحاكم بقمع البشر لم يأتي إلّا بعد تكرار ذلك الخراب، وأنّ الشياطين وُلدوا ليكونوا عدوًّا لهم، يُشغل البشر عن التناحر فيما بينهم.
وأثناء ذلك، كان لايل يتأمّل ظهر لوسي الصغير الملفوف في ثيابه الثقيلة، ثمّ سألها من جديد:
“وهل يعرف بقيّة الشياطين هذه القصّة أيضًا؟”
فأجابته لوسي:
“يعرف نصفهم.”
“النصف فقط؟”
“يعرفون لِما وُلدوا، لكنّهم يجهلون ما الذي سيحدث إن انقرض البشر تمامًا.”
“وهل تعرفين أنت ايضا، يا لوسي؟”
ابتسمت لوسي متبخترة، وقد شبكت ذراعيه كأنّ الجواب من البديهي أن تملكه هي.
“كنتُ بجوار الحاكم نفسه… فكيف أعجز عن معرفة ذلك؟”
ثمّ اقتربت أكثر، وجلست عند جانب لايل الممدّد تحت الغطاء، وهمست في أُذنه بسرٍّ خطير.
……
اتّسعت عينا لايل شيئًا فشيئًا كلّما تواصل همس لوسي.
وبدا وجهه مذهولًا، كأنّه سمع أمرًا لا يُصدّق.
“أنت وحدك مَن سيعرف هذا.”
حذّرته لوسي بنبرة صارمة، لكن لايل لم يقوى حتّى على الإيماء برأسه، بل اكتفى بالرمش مذهولًا.
“ولِما تُخبريني أنا؟”
لم يستطع لايل فهم السبب وراء كشف لوسي له سرًّا لا يعرفه سواه.
لكنّ لوسي رفعت حاجبًا واحدًا وأجابت ببساطة:
“لأنّك ينبغي أن تعرف.”
“ولماذا؟”
هنا، ولأوّل مرّة، صمتت لوسي.
لم تجب… ولم تفصح عن السبب قطّ.
***
تقاطعت نظرات لايل ودايوس.
ثمّ ضيّق دايوس عينيه وهو يحدّق إلى الأسفل، حيث يقابله لايل بابتسامة واثقة كأنّ الفخّ وقع فيه هو لا غيره.
ذلك التعالي أثار غضب دايوس، فتشوّه وجهه شيئًا فشيئًا حتى اتّخذ هيئة رأس ماعز.
“أيّها الوقح… أتجرؤ وأنتَ نصفُ ناقص أن تسخر منّي؟!”
مدّ يده الغليظة يخنق فكّ لايل، كأنّه ينوي أن يطحن عنقه في الحال.
لكن لايل لم يُبدي أيّ خوف، بل ضحك ساخرًا وهو يقول:
“ولِما تغضب إذن؟ رأيتُ فضولك، فأردتُ أن أُريك فقط.”
“أيّها…!”
“لكن ما العمل؟”
قبض لايل على يد دايوس الممسكة بفكّه، وعيناه الذهبيّتان تومضان بازدراء.
“حتّى لو عرفتَ مَن الملك، فلن يكون بمقدورك أن تفعل شيئًا يُذكر.”
ارتسمت على شفتيه ابتسامة حادّة أظهرت أنيابه البيضاء القاطعة.
حدّق فيه دايوس لحظة ثمّ حرّر معصمه بقوّة.
وكان في باله أنّه لو أبى تركه لقطع يده بلا تردّد.
لكن لايل أفلته بهدوء، وكأنّه يمنح ضعيفًا شيئًا من الشفقة.
وهذا ما زاد حنق دايوس أكثر.
ففي نظره، لم يكن لايل سوى “شيطانا ناقص”، مكانه تحت قدميه.
وأن يجرؤ مثل هذا الوحش على كشف أنيابه أمامه… جريمة كبرى.
كان بإمكانه أن ينسحب الآن ويعتبر أنّه أدّى مهمّته كما أوصاه باول، لكن كبرياءه لم يسمح له.
لا بُدّ من أن يدفع لايل ثمن جرأته.
“قلتَ إنّه يدعى لوسي، أليس كذلك؟”
ألقى دايوس باسم الملك الذي اقتنصه من ذكريات لايل.
لكنّ الأخير لم يُبدي أيّ انفعال.
“لم أرى في حياتي وحشا يقع في غرام شيطان.”
فالوحوش لا يعرفون تجاه الشياطين سوى الولاء الأعمى.
أمّا لايل، فبما أنّ جذوره بشريّة، فقد كان قلبه يفيض بمشاعر أعقد وأعمق.
“لايل.”
رنّ في أُذنه صوت لوسي، بينما الجسد الضخم الماثل أمامه تقلّص فجأة، وتحول إلى هيئة الصبيّ الرقيق المعروف.
“ألستَ تتمنّى أن تسمع منّي كلمة أحبّك؟”
قال دايوس ذلك بنبرةٍ مُستفزّة، مقلّدًا صوت لوسي ذاته.
عندها تشقّقت ابتسامة لايل لأول مرة.
“لكن… ما العمل؟”
لم يكن تنكّر دايوس في صورة لوسي أمرًا جديدًا على لايل فقد اعتاد أن يتقمّص هو نفسه هيئة لوسي في مواقف سابقة.
لكنّ الكارثة أنّ دايوس التقط مشاعر لايل الحقيقية نحوه.
لحُسن الحظ أنّ لايل تدخّل قبل أن يعرف أسرار الملك كاملة.
“أتعلم؟ في عينيّ، أنت لا تختلف عن أولئك القذارة في شيء.”
وبمجرّد أن أنهى كلماته، انبثقت من سقف الغرفة رؤوس وحوش متعدّدة، تطلّ من الظلال.
بينما عينا لايل الذهبيّتان تلمعان وهو يُحدّق بما وراء دايوس.
“ما زال عليّ أن أجمع المزيد…”
تمتم بصوتٍ خافت، ثمّ تدفّق الماء فجأة من أرضية الغرفة.
ومن تحت المياه، أخذت وحوش أخرى تخرج تباعًا، وحوش كان لايل قد أخفاها من قبل.
***
كان دايوس يعرف جيّدًا إن قُتِل الوعاء، فإنّ الملك سيعود.
ولهذا السبب لم يُفكّر بقتله مباشرة.
لكن لولا ذلك الشرط، لكان قد سحقه من البداية بلا رحمة، إذ لم يرَى فيه سوى وحشٍ شيطاني مبتدئ يقلّد هيئة الشياطين.
هذه كانت قيمة لايل في نظره.
ومع أنّ مظهره كان فاتنًا بعض الشيء، إلّا أنّه ما إن تذكّر أنّ جوهره “وحش شيطاني”، حتّى انطفأت شهيّته.
‘ربّما يجوز أن أُشوّهه قليلًا فقط.’
فكّر دايوس وهو يهبط على سطح مبنى مجاور بعد أن اخترق النُزل المحطّم.
مرّر يده بين خصلات شعره البنفسجي، وعيناه تُفكّران في كيف يترك ندبته على لايل.
وفي الخارج، كان الناس قد فزعوا من الوحوش التي ظهرت فجأة.
“وحش! لقد ظهر وحش داخل النُزل!”
“اسرعوا، أبلغوا المعبد فورًا!”
امتلأت الشوارع ضجيجًا بعد أن كانت هادئة، بينما أصل البلاء دايوس و لايل يتبادلان ابتسامات متعالية.
وحينها قلّد دايوس صوت لوسي مرة أخرى، وقال:
“أليس هذا قسوة منك؟ كنتَ إنسانًا يومًا… كيف ترمي بهؤلاء الناس في خطر؟”
رفع حاجبيه بدهشة مصطنعة جعلت منظره نسخة عن لوسي.
لكن لايل أمال رأسه مبتسمًا:
“أنا لا أشبه أحدًا… لا البشر، ولا الوحوش.”
كلماته جعلت دايوس يستعيد فكرة أنّ لوسي نفسه يملك شخصيّتين متناقضتين تمامًا.
كيف جاز أن يكونا واحدًا؟
“ثمّ إنّي…”
خطا لايل خطوة للأمام، فتجمّع الماء من حوله.
لقد ورث قوّة الملك، لكنّ قدرته لم تكن مماثلة له، بل مختلفة.
وكأنّه يريد أن يُثبت أنّه ليس شبيهًا بأيّ وحش آخر.
“لا أهتمّ بحياة البشر ولا موتهم.”
فمنذ حياته السابقة، لم تكن أرواح الناس تعني له الكثير.
ولهذا بالذات استحقّ غضب الحاكم… لأنّه كسر توازن العالم.
“إنّ ما يهمّني، أمس واليوم، هو الملك وحده.”
وبينما أنهى عبارته، بدأت قشور الأفعى تكسو وجهه.
لم يكن يعشق تلك الهيئة البشعة، لكنّه كان يعرف أنّ قتال دايوس يتطلّب أكثر من مجرّد صورة إنسان.
تألّقت أنيابه وهو يفتح فمه، وارتجفت المياه حوله بعنف.
ضغط دايوس بلسانه ساخطًا، بعد أن أدرك أنّ خصمه قادر على التحكّم في الماء… وهذه قوّة لم تلائمه أبدًا.
“بما أنّي كشفتُ لك مَن الملك… فلديّ سؤال بدوري.”
غطّى لايل نصف وجهه بيده ليُخفي تحوّله، وقال:
“أين خبّأتم ساق الملك التي سرقتموها؟”
إنّها الساق التي حاول مامون أن يسرقها ولم يفلح.
وهي الآن أحد أهداف لايل.
“هاه؟ هل أمرك الملك أن تسترجع أطرافه؟”
ضحك دايوس ساخرًا، لكن لايل ابتسم بخبث، وانحنت عيناه الذهبية بفتنة:
“لا… إنّما أنا من لا يطيق ذلك.”
“ماذا…؟”
“أغار بشدّة.”
لم يكن يسعى إلى استرداد ساق الملك من أجله، بل من أجل نفسه.
فقط لأنّ فكرة أن يملك أحدٌ آخر جزءًا من جسدها، كانت تشعل غيرته حتّى الجنون.
ترجمة:لونا
التعليقات لهذا الفصل " 112"