منذ ذلك اليوم، بدأت لوسي باستعمال الحِيَل.
فلم تعد تغادر الغرفة عمدًا، بل ركّزت كلّ انتباهها على اللحظة التي يدخل فيها لايل أو مامون.
لكن لسببٍ ما، كانت تخطئ دائمًا في توقيت صعودهما أو نزولهما.
وفي كلّ مرّة كانت لوسي تقضي اليوم بلا أيّ نتيجة، لتستقبل اليوم التالي بخيبة.
وكان هذا حالها اليوم أيضًا.
في ليلةٍ اكتمل فيها البدر مستديرًا، لم يعد لايل الذي كان يأتي عادة ليُثير أعصابها حتى غلبها النعاس.
ومن الطبيعي أنّ لوسي لم تنتظر، بل استسلمت للنوم فورًا.
ومضى وقتٌ لا تدري كم طال.
بوفف!
اهتزّ السرير فجأة، غير أنّ لوسي لم تستيقظ.
“أيها الحقير!”
ولمّا دوّى الصراخ الغاضب، ارتعشت أجفانها قليلًا، ثمّ فتحت عينيها تنظر نحو مصدر الصوت.
“……؟”
هناك، كانت امرأة تُشبهها تمامًا جالسة فوق لايل، تمسكه من ياقة عنقه بقوّة.
بعينين يثقلها النعاس، مسحت لوسي بنظرتها المعتبة غرفة نومها التي حُبست فيها.
ما هذا؟ أهو حُلم؟
***
لم يصل دايوس إلى مملكة مايتِن إلّا حين كان لايل يستعدّ لمغادرتها.
ولحُسن الحظ، أنّه صادف خروجه منها بالصدفة.
ورأى في تلك اللحظة فرصة سانحة، إذ لا شيء أنسب من الانقضاض على الفريسة حين تنفرد بنفسها.
“واو، ما أملّ هذا الوغد.”
تمتم دايوس وهو جالس فوق سطحٍ يراقب لايل من فوق السطح.
فقد اعتاد لايل أن يخرج من مسكنه في نفس التوقيت يوميًّا، ليجول في الأرجاء كما لو كان يبحث عن شيء.
ومرّ أكثر من أسبوع وهو على تلك الحال.
وبالنسبة إلى دايوس، الذي يهوى كلّ يوم اكتشاف ما هو جديد، لم يكن التحديق في لايل إلا مضيعة مملّة للوقت.
‘فلأنتهي من الأمر سريعًا، وأعود.’
حتى تلك اللحظة، كان دايوس واثقًا من أنّ مهمّته ستتمّ بسهولة ويسر.
فـ لايا لم يكن يعي أنّ هناك من يراقبه أصلًا.
على الرغم من أنّ قوّة الملك التي يمتلكها كانت كفيلة، ببعض الجهد، أن تجعله يحسّ بوجود شيطانٍ آخر، إلّا أنّه بقي غافلًا، كالمبتدئ .
لكن مع ذلك، ظلّت مهمّة اقتناص ثغرة من فارسٍ كفارسٍ مثل لايل أمرًا عسيرًا.
“عليّ أن أترصّد له في نومه إذًا.”
فالشيطان لا يحتاج للطعام، لكنّه أحيانًا يلجأ إلى النوم ليستعيد شيئًا من طاقته.
أما لايل، فما زال أسير عاداته البشريّة القديمة، فينام كلّ ليلة بانتظام.
وأكثر ما يكون الإنسان عُرضة للهلاك، حين يذوب في نومٍ عميق.
وذلك أنسب توقيت لدايوس ليشنّ ضربته.
***
كانت ليلة بدرٍ مكتمل.
وبمجرد أن تمدّد لايل فوق سريره، لمح من النافذة للحظة قرني ماعزٍ يلوحان ثمّ اختفيا.
غير أنّه لم يلحظ ذلك، وأطبق جفنيه ليغفو سريعًا.
وغمر السكون المكان فجأة، كأنّ شيئًا وشيكًا على الحدوث.
وبعد مضي ساعة، انساب نَفَسه متوازنًا منتظمًا.
تزيييك–
دوّى صوت مخالب تحكّ الجلد، ومعه تسلّل دخان ورديّ من بين شقوق النافذة.
وسرعان ما غمرت الغرفة سُحب الدخان، ثمّ انفتحت النافذة المغلقة فجأة بصوتٍ جافٍ.
كان ذلك دخانًا مُتسرّبًا من دم دايوس نفسه، قادِرًا على إدخال الخصم في سباتٍ عميق، وشلّ جسده بالكامل.
ولم يكن لايل النائم قادرًا على صدّه، فامتلأت رئتاه بالدخان المستبدّ.
“مهما يكن، لم يمضِي وقت طويل على كونك بشرًا، أليس كذلك؟”
فحتى لو تظاهر بقوّة الشيطان بما ورثه من الملك، لم يكن في نظر دايوس سوى شيطان مبتدئ لا خبرة له.
وكان واثقًا من أنّه قد أحكم السيطرة عليه بسهولة.
“لننهِي الأمر بسرعة.”
اعتلى دايوس جسد لايل، وهمس بنبرةٍ وادعةٍ مموّهة، كما لو كان يُغنّي لطفلٍ لينام.
وطبعًا، لم يبدو من لايل أيّ ردّ.
انزلقت يده على ذقنه، حتى لامست أظافره الحادّة جانب عنقه.
ثمّ انحنى بجسده حتّى التصق أُذنه بصدره.
دُق– دُق.
دويّ قلبه المتسارع أثبت له أنّ نصفه ما يزال بشريًّا.
ابتسم دايوس باستهزاء، ثمّ أغمض عينيه ببطء.
فتدفّقت إلى ذهنه ذكريات لايل، تسري داخله شيئًا فشيئًا.
وفيها، برزت صورة الملك الذي بعثه من موتٍ وشيك لحظة ولادته.
“كما وعدتك، أنقذتُ طفلك. والآن، عليك أن تفي بما أطلبه منك.”
كان الملك قد شاخ وضعف لدرجة يُمكن أن يموت في أيّ لحظة.
وما إن رآه دايوس حتى ازدرى منظره.
“احمِي الطفل إلى أن يستردّ القوّة التي أودعتُها فيه، أيًّا كانت هيئته. ولو كلّفك ذلك حياتك.”
فالملك كان يتوقّع أن ينقلب لايل وحشًا بمرور الوقت.
غير أنّ توقّعاته خابت.
“لا أملك صديقًا في مثل سنّي. أريد أن أكون صديقك… هل تسمح؟”
“آه… ن- نعم… أنا أيضًا أودّ أن أكون صديقًا للوسي…”
لكن طفولة لايل لم تكن شبيهة بالوحوش، بل كانت إنسانيّة خالصة.
عندها أدرك دايوس أنّ ظهور الوعاء قد تأخّر لهذا السبب.
“هل ستكونين صديقتي فعلًا؟”
“لماذا؟ لستُ أرغب أن أصادق طفلًا مثلك لا يُحسن الكلام.”
“…؟”
ارتبك دايوس، إذ رأى المشهد ذاته يتكرّر بصورة مختلفة تمامًا.
‘هل أخطأتُ النظر؟’
“لوسي، رجاءً، لا تُخبري أحدًا… لقد أقسمت أن أحفظ السر…”
وأراها الصغير لايل كاحله، حيث خُتم عليه بعلامة الملك ليتتبّعه.
فما إن رأت لوسي العلامة، حتى شحب وجهها هلعًا، وهربت بعيدًا عنه.
وكانت تلك أولى الذكريات.
لكن بدل أن تنتقل إلى تالية كما هو المعتاد، انحرفت مجرى الأحداث.
“لوسي، رجاءً، لا تُخبري أحدًا… لقد أقسمت أن أحفظ السر…”
“أتظنّ أنّ طيشك يُغتفر فقط لأنّك صغير؟”
‘ما هذا؟’
فتح دايوس عينيه في ذهول.
كيف أمكن لنفس المشهد أن يحمل ذكرَيين مختلفَين؟
ثمّ أدرك أنّ كلّ محورٍ في ذاكرة لايل كان يدور حول تلك الفتاة لوسي.
“تقول إنّك تُحبّني؟ هذا ليس صحيحًا. ستعرف لاحقًا أنّ ما تشعر به ليس حبًّا كما تتخيّليين، بل شعورٌ آخر ينبغي أن تُكنّيه لي.”
كان جواب لايل على اعتراف لوسي، ليس رفضًا ولا قبولًا، بل تجاهلًا باردًا يقطر يقينًا قاطعًا.
في حين أنّ في ذكرى أخرى، كان ردّ لوسي متردّدًا، يطلب بعض الوقت ليستوعب اعتراف لايل الذي لم تتوقّعه.
وسرعان ما قفزت الذاكرة سنواتٍ طويلة إلى الأمام.
“أطلق سراح الآنسة مارسِين فورًا.”
“لماذا؟ كلّ ما فعلتُه أنّي منعتُها من لقاء دايلر كما أمرتيني. فلما تغضبين؟”
“ألا تفهم أنّك أعطيت باول ذريعة ليهاجم عائلتك عبر المعبد؟”
“إذًا سأقتل باول بنفسي.”
“تبا… لم تكن بهذا الغباء عندما كنتَ بشرًا.”
وما إن نطقَت لوسي باسم باول ، حتى أيقن دايوس أنّه عثر على الملك.
لكن فجأة–
“هل تدري كم هو ماكرٌ ذلك الوغد؟ لقد خدعني حتى انتهيتُ هكذا…!”
وأطبق الثعبان المحيط بـ لايل على عنق لوسي، غارسًا أنيابه فيها.
أي أنّ قوّة الملك ذاتها انقلبت عليها.
شهقت لوسي مبهوتة، بينما نزف دمها بغزارة.
أما لايل، فقد كان يئنّ ملتويًا بوجهٍ أكثر عذابًا منها.
ولم يفهم دايوس لماذا يتألّم، ولا لماذا لم يسترجع الملك قوّته من لايل لينجو بنفسه.
إذ لو فعل، لعاش هو ومات لايل.
لكنّه لم يفعل.
بل أغمض عينيه بطمأنينة، كمن سلّم نفسه لمصيرٍ حتميّ.
ذلك الإنسان الذي وُلد محكومًا بالموت، لم يعش سوى بفضل احتفاظه بقوّة الملك.
غير أنّ الملك فضّل الفناء حفاظًا على حياة هذا الفتى.
انزاحت ذكريات لايل أمام دايوس، فأدرك أنّها مزدوجة، وبعضها لم يقع بعد وكأنّها لمحة من مستقبل آتٍ.
والأدهى أنّ صورة لوسي داخلها كانت متناقضة، كأنّ شخصيّتها انقسمت إلى مسارين مختلفَين.
غُررر…
ابتل
ع دايوس ريقه قلقًا، وهمّ أن يغوص أعمق في ما بعد موت الملك.
لكن عندها..
“لن أُريك ما بعد ذلك. فذلك سرٌّ لا يعرفه سواي أنا ولوسي.”
جاءه الصوت البارد من فوق رأسه…
صوت لايل، الذي كان من المفترض أن يكون غارقًا في نومٍ عميق.
ترجمة: لونا
التعليقات لهذا الفصل " 111"