ما الأمر؟
ما هذه الأجواء بحقّ السماء؟
سكونٌ خانقٌ جعلني أشعر بالتوتّر تلقائيًّا.
‘هل أجلس في مواجهته بدلًا من هذا؟’
فالجلوس جنبًا إلى جنب على السرير يُشبه إلى حدٍّ ما هيئة زوجين جديدين يختلسان الحياء، وهذا جعلني أشعر بانزعاج غريب.
وبينما هممتُ متأخّرةً بأن أستدير نحوه، إذا بشيءٍ ما يهبط على كتفي فجأة ويثقلها.
“……؟”
ملمسٌ عبثيّ لامس وجنتي، فإذا به شعر لايل الفضيّ يلامس حافّة فكي وخدّي ويُداعبهما.
لكن الأمر لم يتوقّف هنا، فما لبث أن مدّ يده ووضعها برفق فوق يدي.
ولم تكن هذه الوضعية غريبة علينا تمامًا، ففي الماضي، وإن لم يعد الأمر كذلك الآن، كان أحيانًا يسند رأسه على كتفي.
لكن منذ أن آلت الأوضاع إلى ما هي عليه الآن، انقطعت تلك التصرفات الدافئة شبيهة الدَّلال تمامًا.
ولذلك فقد بدا لي أمره غريبًا، أن يقترب منّي هكذا فجأة.
“……هل هناك ما يشغلك؟”
قبل أيّام قليلة فقط، كان يبدو في قمّة السعادة وكأنّ الدنيا لا تسعه. فما باله اليوم على هذا الحال؟
وإن كان من العبث أن أقلق عليه بعد كلّ ما صنعه بي، إلّا أنّ عادة عشر سنوات وأكثر لا تختفي بسهولة.
“…….”
لم يُجبني، بل راح يُدلّك جبينه على كتفي.
كدتُ ألتفت نحوه أستوضح الأمر، لكن خصلات شعره الرفيعة لامست أنفي، فكاد العطاس يهرب منّي.
ذكّرتُ نفسي بأنّ الموقف لا يحتمل ذلك، وعدتُ لسؤاله مجددًا:
“لن أعلم ما لم تخبرني.”
قلتُها بنبرة متعمّدة الصرامة، لأُشعره أنّ هذه فرصته الأخيرة للكلام. أترى، الآن سيضطر أن ينطق!
وكما توقّعت، لم يطل الوقت حتى فتح لايل فمه:
“لقد التقيتُ بوالدي.”
“دوق مارسين؟”
ولمَا العجب؟ أليس من الممكن أن تلتقيا مصادفة؟
مع أنّه في هذه الأيّام، وقد غادر لايل المنزل، والدوق قليل البقاء في القصر أصلًا، فربما قلّت احتمالات لقائهما.
لكن أكان لقاؤهما بعد طول غياب سببًا لأن يذبل هكذا؟ أم أنّ الدوق قال له شيئًا سيّئًا؟
“لا، أقصد والدي الحقيقي.”
آه… والده الحقيقي إذن. أجل، هذا قد يُبرّر الصدمة… وإن كان ردّ فعله لا يوحي بصدمةٍ شديدة.
الآن فقط فهمتُ لم كان لايل على غير عادته، متقلب المشاعر.
“كنتُ أظنّ أنّك تعني أباك الحقيق….”
انتظري، لا! لا ينبغي أن أتقبّل الأمر ببساطة!
ماذا؟ التقى بوالده الحقيقي؟
أدركتُ الأمر بعد لحظة تأخّر، فانتابني ذهولٌ جعل جسدي يتحرّك بارتباكٍ لا إراديا. فأطبق لايل على فخذي بكفّه في إشارة أن أهدأ، وبقوة مزعجة حقًا.
“أ… أأ… أ…؟”
أيّ ردّ ينبغي أن أبديه الآن؟
كنتُ أظنّ أنّني وحدي من يعلم أنّ لايل ليس ابنًا حقيقيًّا لدوق مارسين.
لكن… لم أتخيّل أنّه هو نفسه يعلم بذلك!
“آه، ربّما أنتِ لم تعلمي.”
قالها فجأة كمن تذكّر شيئًا، بينما أنا أصرخ في داخلي:
بل أعلم! لكن لم أظنّ أنّك أنت أيضًا تعلم!
غير أنّني لم أستطيع أن أُظهر معرفتي، فماذا لو سألني كيف علمتُ؟ ماذا سأقول؟
تصلّب جسدي بلا وعي.
ولمّا رآني جامدة كدمية خشبيّة، اندفع فجأة أقرب نحوي، يُزاحمني بمساحة جسده الكبير حتّى بدأتُ أتكئ جانبًا.
أه… كفّ عن الدَّفع!
“أأنت… كان لك أبٌ آخر؟ إذن الدوق هو…؟”
حاولتُ التظاهر بالجهل قدر الإمكان، ولحسن الحظ أنّ رأسه لا يزال على كتفي، فلا حاجة لي بتصنّع ملامح هادئة.
وإلّا، وأنا الأسوأ في إخفاء التعابير، لكنتُ في ورطة الآن.
“ذلك الرجل غريب تمامًا. والدي الحقيقي شخصٌ آخر.”
“آه… فهمتُ…”
يا للمصيبة… ما الذي يحدث هنا بحقّ السماء؟
فوق ارتباكي بسبب لوسي الأصلية في أحلامي وسلوكها المريب، ها هو لايل يُلقي بي في دوامة جديدة.
يبدو أنّ معرفتي بكلّ ما جرى في الماضي لم تكن أعمق من أيّ شخص آخر!
“ومتى عرفتَ هذا؟”
ربّما التقى أبوه به وعرّفه بنفسه مؤخرًا…
“من البداية.”
إذن لا…
كانت هذه صدمة أخرى.
منذ البداية؟
يعني أنّه قبل أن يدخل قصر مارسين كان يعلم أنّه لا يحمل دماء تلك العائلة؟
“لما….”
لما لم تُخبرني؟
كادت الكلمات تفلت من لساني لكنني كبحتها.
فما من سبب منطقي يجعله مُلزمًا بإخباري، بل على العكس، ربّما لم يُرِد إطلاع أحدٍ على هذا الأمر إطلاقًا.
هل كنتُ أظنّ، لمجرّد أنّه أخبرني عن الوشم، أنّه سيكشف لي كلّ أسراره أيضًا؟
لمتُ نفسي على هذا التوقّع الساذج.
ومع ذلك، راودني فضول حقيقي عن سبب تغيّره اليوم وفتحه هذا الموضوع.
“ولِمَا تُخبرني الآن…؟”
إن كنتَ قد خبّأت هذا السر كلّ هذا الوقت، فبالتأكيد كان لديك سبب.
ويبدو أنّه توقّع سؤالي، إذ أجاب ببساطة:
“لأنّه لم يعد سرًّا يستحق الإخفاء.”
“هاه…؟”
“ألم أقل لكِ إنّي لا أنوي تركك تغادرين هذا المكان أبدًا؟”
كلماته وقعت بثقل على جلدي، فالتفتُّ قليلًا أنظر إليه، فرأيتُ أهدابه الكثيفة وعيناه مغمضتان، ترتجفان قليلًا دون أن تنفتحا.
“في النهاية ستعيشين من أجلي وحدي، فما حاجتنا الآن للقب أو المنصب أو أيّ من هذا الهراء؟”
أليس كذلك؟
سؤاله بدا كطلب موافقة، لكن نبرته ملأى بقبضةٍ تتسلّل إلى إرادتي.
كنتُ قد لاحظتُ أنّ كلّ حديثه هذا وكأنّه مخطوطٌ جوابه مسبقًا.
“أتفهّم عدم إخبارك لي، فهذا حقّك.”
لكنّ أكثر ما أثارني هو:
“لكن… لماذا لم تخبرني؟ هل كان كبرياءك؟ ام،أتظنّ أنّي من أولئك الذين يحكمون على الناس بألقابهم؟ أهذا ما ظننته عنّي؟”
ماذا أظن عني!
ضحك بجانبي، وأجاب:
“لا، كان مجرّد شعورٍ خاص بي.”
ارتجفتُ من هذه العبارة، الآن، أرى أنّه طوال فترة إعجابه بي، كان يغوص وحيدًا في أهواءه وأحكامه الخاصة.
ذكرني هذا بذكرى يوم ماتت جدّتي وشعرتُ أنني صرتُ وحيدة في هذا العالم…
“……ألم تشعر بالوحدة؟”
سألته بجديّة، فأنا لو كنت مكانه، لمتُّ غربة دمي بينهم، لكان الأمر لا يُحتمل.
فتح لايل عينيه ببطء، وكأنّه يُفكّر، ثمّ قال:
“لم أشعر بالوحدة أبدًا، فقد كنتِ أنتِ موجودة.”
ابتسامة هادئة ارتسمت على شفتيه، فمددتُ يدي إلى صدري أتحسّس دقّات قلبي التي خفّت فجأة ثمّ تسارعت.
فقد خفق قلبي بعنف في تلك اللحظة.
كنتُ أظنّ حبّه لي أمرًا طبيعيًّا لوجودي في حياته، لكن الآن… الآن فهمتُ لماذا أحبّني.
“وكيف كان والدك الحقيقي؟”
حوّلتُ بصري نحو الأرض، وسألته:
“أيشبهك؟”
شكلًا أو طبعًا.
“الوجه لا، أمّا الطباع… لعلّها متشابهة.”
“حقًّا؟”
“أجل، كان جبانًا… وضعيف النفس.”
“…….”
يا ليته لم يقل ذلك… أردتُ أن أخفّف الجوّ، فإذا به يُثقله أكثر.
“وكانت له ابنة.”
“ابنة…؟”
“أجل.”
“إذًا هي أختك؟”
“يمكن القول ذلك.”
“أخت صغرى أم كبرى؟”
أثار هذا اهتمامي، فبالرغم من أنّه لا تربطه صلة دم بـديوليتا إلّا أنّه صار له من الناحية الأخرى اختين.
ليتني كنتُ أملك أختًا أو أخًا…
“أخت صغرى.”
“أخت صغرى!”
في هذه اللحظة، بدا لايل أكثر حظًا مني، حتى أنّ قلقي تجاهه بدا بلا معنى.
“كم أحسدك…”
“تحسديني؟ هذا غريب…”
كان يبدو أنّه غير راضٍ عن ردة فعلي، فعدل جلسته وجعل كتفي أكثر حرية
“كنتُ أحكي لأبدو بائسًا.”
“ماذا؟”
“أليس الأمر بائسًا؟”
“…….”
لِمَا يحاول منذ فترة أن يظهر بمظهر البائس؟
اندثر اهتمامي الذي لمع قبل قليل بسماع أخبار أخته.
“ألست بائسًا؟ إذن… واسيني قليلًا.”
وعاد يلتصق بي. وعندها فقط فهمتُ أنّ قصّة أبيه وأخته لم تكن سوى تمهيد لهذا القرب.
ثمّ شبك أصابعه بأصابعي.
“…….”
لم أقدر على إبعاده هذه المرّة، لا لأنّني
شعرتُ بالشفقة كما يدّعي، بل لأنّني…
حين يقول إنّه لم يشعر بالوحدة بفضلي، كيف أستطيع أن أتركه؟
فتركتُ يده في يدي.
“لوسي، هكذا تجعلينني أعجز عن تركك.”
ضحكته امتزجت بنبرة يائسة، وكأنّه يُلقي اللوم عليّ وفي الوقت نفسه يلوم نفسه…
فلم أجد ما أُجيبه به.
ترجمة:لونا
التعليقات لهذا الفصل " 109"