وحتى أوين لم يكن يجهل هذه الحقيقة.
“هذا غير معق… أُغغ!…!”
وتحت وطأة ألمٍ أشبه بانتزاع فروة رأسه، عجز أوين عن إتمام عبارته.
“سألتني إن كانت والدتي بخير، أليس كذلك؟”
أكد لايل في نفسه بيقينٍ قاطع…
أنه ما من امرأة في هذا العالم أتعس حظًّا مع الرجال من والدته.
فالرجال الذي عرفتهم كانوا اما قمامة لا تصلح حتى لإعادة التدوير، و اما كانوا قمامةً لا يرغب أحد حتى في إعادة تدويرها.
وحتى الابن الذي ضحّت بحياتها لتحميه، غدا وحشًا عاجزًا عن أن يشعر نحوها بأدنى ذرة من الحنان الأمومي.
‘أمٌّ مسكينة…’
همس بها لايل مرة أخرى في أعماقه.
“لقد فارقت الحياة.”
كان الثعبان يزحف على يده متسلّقيا على ذراعه، وفي لحظةٍ التبست صورة لايل على أوين بصورة الثعبان حتى كاد يختلط عليه أيهما الكائن الحقيقي.
“ماتت…؟”
غير أن ذهوله لم يكن من غرابة ما يراه، بل من هول الحقيقة التي لفظها لايل بلسانه.
وفي اللحظة ذاتها، فتح الثعبان فمه.
انبعث من بين أنيابها صوتٌ يبعث القشعريرة في الأبدان، لكن مسامع أوين بدت وكأنها تفقد قدرتها على الالتقاط شيئًا فشيئًا.
‘أشعر وكأن سمعي يتلاشى…’
“أكنت تظن حقًّا أنها ستنجو؟”
غير أن صوت لايل كان ينساب إلى أذنيه واضحًا لا تشوبه غشاوة.
“بالطبع….”
لقد كانت أرينيل كاهنة بارعة، ولهذا توقّع أوين أن تتمكّن من النجاة وسط أهوال الحرب أسهل من أي إنسانٍ عادي.
حتى لو كانت تحمل في أحشائها طفلًا، فقد ظنّ أنها أفضل حالًا من رجلٍ أعزل.
ولم يكن توقّعه بعيدًا عن الصواب تمامًا.
فحين اشتعلت حرب الشياطين، نجت أرينيل فعلًا، كما قال.
لكنّ من مات كان لايل… جسده الصغير لم يحتمل عناء الحمل والولادة، ففارق الحياة منذ أن أبصر النور.
ومع ذلك، اختار أن يمزج بين الصدق والكذب وهو يتحدّث:
“لقد رحلت أمّي… بعد أن أنهكتها الحرب، ثمّ أضعفها إنجابي حتى استسلم جسدها الضعيف.”
وبينما كان يتحدث، كان الثعبان قد أحكم طوقه حول عنق أوين، وتدلّ من أنيابه قطراتٌ من سائلٍ معتمٍ لزج.
وكلّما سقطت قطرة على ياقة قميص أوين، راحت تصدر فرقعة حارقة، مذيبةً القماش بلا رحمة.
“أغغ…!”
حين اخترق الحمض القماش ووصل إلى جلده، انطلق من حنجرة أوين أنينٌ مكبوت من الألم، غير أن لايل لم يُرخي قبضته عنه.
“أشعر أن قتلك لن يكون مرضيًا، لكن…”
مرّت في ذهنه مرّاتٌ عديدة فكرة أن يُنهي الأمر فورًا، لكنّه حسم قراره أخيرًا بابتسامةٍ شريرة، مقلّدًا ملكه الذي أمره ذات يوم بقتل دوق مارسين.
“لكن خطر لي سؤال….”
هل سيتخلى عنك أهلك… أم سيتمسّكون بك؟
كان فضولًا قاتمًا لا أكثر.
“تكفيرا عن ذنبك تجاه والدتي… هل ستساعدني؟”
وكما فعل حين قتل التمساح، ألقى كلماته وكأنها طلب، بينما هي في جوهرها أمرٌ لا يُرد.
ثمّ مدّ لايل يده التي كانت تشدّ على شعر أوين، ليكمم فمه دفعة واحدة.
وكأنه كان يتوقّع منه أن يصرخ.
“ممف! ممممف!”
وحين أطبقت يده الضخمة على فم أوين، راح الأخير يهزّ رأسه يمينًا ويسارًا بعينين متسعتين في ذعر، لكن لايل لم يتزحزح.
حتى حين غرز أوين أظافره في ساعده اليُمنى.
لم يترك ذلك خدشًا واحدًا في جلده.
وعندها اكتفى لايل بإيماءة نحو الثعبان الذي كشّر عن أنيابه، فهجمَ بلا تردّد وغرسها في عنقه.
“ممف!”
انقطع صراخه الموجوع عند حاجز كفّ لايل، ولم يتسرب منه شيء إلى الهواء.
وما هي إلا لحظات حتى خمدت حركات جسده، وارتخى ساقطًا بثقله إلى الأسفل.
عندها فقط رفع لايل يده عن فمه، وتأكد من أن أنفاسه ما زالت تداعب أصابعه.
لقد كان حيًّا، بعينين مفتوحتين… لكن بلا أدنى قدرة على الحركة، كتمثالٍ يتنفس بلا وعي.
“أتمنى أن لا يتخلى عنك من تحبّهم.”
بينما كان في داخله يتمنى العكس تمامًا.
وعاد الثعبان، وقد أنجز مهمته، يحتكّ بوجهه تدللًا، وكأنه يطلب المديح.
فمسح لايل على فكّه برفق، وفي عينيه اللتين تشبهان عينيه لمع بريق رضا عميق.
“أتمنى أن تُسعدها هذه الهدية…”
حتى لو لم تُسعدها… فما حدث قد حدث.
لقد كان هذا أوّل وأخير برٍّ من ابنٍ فقد القدرة على أن يحب أمه.
***
مع اندلاع الفجر، خرج الفرسان من النزل واحدًا تلو الآخر وكأنهم على موعدٍ مُحكم.
وكان آخرهم كاميلّا.
“هااام…”
تثاءبت بوجهٍ متعب، والدوار ما زال يثقل رأسها من أثر خمر الأمس.
“هل سنعود إلى الإمبراطورية؟ أم نزور بلادًا أخرى في الجوار؟”
سأل رود وهو على صهوة جواده، موجّهًا نظره إلى لايل.
ابتسم لايل بعد برهة تفكير:
“عودوا أنتم إلى الإمبراطورية… سأذهب وحدي.”
“ستذهب بمفردك؟”
“ذلك أكثر عملية.”
“أتعني أننا عبءٌ عليك؟”
تمتم بين بنبرة جريحة، لكن لايل أومأ نافيًا، فهو لم يعتبرهم عبئًا، بل كان فقط يرى في وجودهم عائقًا عن تنفيذ خططه بسلاسة.
ولأن لايل لا يجامل، عاد البهاء إلى وجه بين بمجرد أن أنكر.
“عودوا إلى قصر الماركيزة وانتظروني هناك.”
أومأ الجميع موافقين، وغادروا مملكة مايتن مع بزوغ الشمس، دون أن يلحظهم أحد في النزل.
وبعد ثلاث ساعات، حين نزلت إيفريت إلى القبو وهي تدندن استعدادًا للفطور…
عثرت على أوين، وقد غدا جثةً حيّة لا تتحرك، فصرخت صرخة مدوّية.
وعلى عنقه ما زالت آثار أنياب الثعبان بارزة.
***
“لقد قضيتِ اليوم بأكمله حبيسة غرفتك.”
قالت مامون بنبرة أسف وهي تدخل حاملة العشاء، غير أنّ لوسي لم تُدرِك ما في صوتها من عتاب.
“لقد أخذ لايل الثعبان معه.”
تمتمت وهي تضم ركبتيها إلى صدرها بصوت يكسوه الحزن، فاستغربت مامون:
“أليس هذا يعني أنّ المراقب قد اختفى؟”
إذن، كان الأجدر بها أن تستغلّ الفرصة وتبذل جهدًا أكبر للهروب!
سألتها وهي تضمر أملًا في أن تعثر على ما تركته من مقالب مخبّأة:
“لكن… الأمر مُخيف.”
“ماذا؟”
“ماذا لو وقعتُ في غرفة أخرى غريبة؟! من سينقذني حينها؟!”
لقد غدت لوسي ترى في الثعبان طوق نجاتها الوحيد.
حتى وإن لم يُعِنها على الفرار، فقد كان حاميها ساعة الخطر.
أما الآن، فهي تخشى أن تفتح الباب في غيابه.
‘هل تماديتُ قليلًا؟’
حتى مامون، التي لم تعرف يومًا طعم الندم، شعرت بوخزة تأنيب.
‘لكنها كانت لحظات ممتعة… وإن كانت قصيرة.’
***
راودها خاطر فجأة…
ولِمَ تُجهد نفسها بتفتيش كل غرفة؟
أما كان يكفيها أن تترصّد لحظة صعود مامون أو لايل إلى الطابق الثالث؟
وما إن وصلت إلى تلك الفكرة، حتى بدت جهودها السابقة كلها ضربًا من العبث.
لكن أن تدرك ذلك الآن، خيرٌ من ألا تدركه أبدًا.
ولسوء حظها، كانت مامون قد غادرت قبل أن تنتبه للفكرة… لكن لايل سيأتي.
“….”
لقد أوشك موعد قدومه.
فتحت الباب قليلًا، وجعلت تراقب الممر بعينين ثابتتين، حتى بدت كمن يتربّص.
لكن جفاف عينيها أرغمها على أن تطرف جفنها للحظة… وكانت تلك اللحظة كافية.
“ها…؟”
ومن حيث لم تُدرِك، كان لايل يتقدّم بخطى واثقة وسط الممر.
‘أيعقل أن رمشة واحدة أضاعت الفرصة؟!’
وبينما لا تزال مندهشة، نوصل إلى بابها، وأدخل يده من الفتحة، وقال بابتسامة مستفزة:
“لا يجوز الغش.”
“…ألتمس منك قليلًا من التساهل!”
صرخت محتجة، لكنها لم
تمنعه من التوغّل إلى الداخل.
خلع معطفه وعلّقه، ثم جلس على طرف السرير، وأشار إلى جانبه.
لم تجد بدًّا من الامتثال، خشية أن يفتعل أمرًا أسوأ إن رفضت.
ساد صمتٌ ثقيل، ومع امتداده، أحسّت أن في لايل شيئا مختلفًا هذا اليوم…
ترجمة:لونا
التعليقات لهذا الفصل " 108"