كان لمامون هوايتان لا ثالث لهما.
إحداهما عدّ الأموال التي جمعتها حتى الآن.
والأخرى، اللعب مع صديقتها البشرية الوحيدة.
لكن، كلمة “اللعب” كانت وجهة نظر مامون وحدها.
فلو سألت المعنيّة بالأمر، لقالت بلا شك إنّ الأمر أقرب إلى المضايقة منه إلى اللعب.
ومع الأسف، فإنّ صديقتها البشرية هذه بلغت من العمر ما يكفي، حتى لم تعد تنبهر بسهولة من مقالب مامون.
لهذا، ظلّت مامون فترة لا بأس بها تعيش بهدوء…
بل الأدق أنّها أُجبرت على هذا الهدوء لغياب من تستطيع مضايقته.
ثمّ جاءت لوسي، بعد سنوات، كقطرة ماء نقيّة تنعش أرضاً قاحلة.
“لقد أخطأتُ! أرجوكِ، سامحيني!”
كان ردّ فعلها المذعور، يفوق في روعته أيّ إنسان شديد الجُبن.
ولهذا، لم يكن غريباً أن تعود نزعة المزاح الخبيثة لتتسلّل إلى قلب مامون.
“وما المشكلة الآن بالضبط؟! هذه المرّة طرقتُ الباب قبل الدخول!”
قبل أيّام فقط، صنعت مامون دمية من شعر لوسي، وقدّمتها لها على أنّها نبات غريب مريب، فارتعبت لوسي بطريقة راقت لها كثيراً.
‘ماذا سأفعل تالياً؟’
جالت عينا مامون على غرفة فارغة في الطابق الثالث، لم تفتحها لوسي بعد، تتأمّل الأفكار الممكنة.
في البداية، كان الأمر مجرّد تنفيس عن غضبها تجاه لوسي، بدلاً من صبّه على لايل بعد أن كسر عنقها…
لكن سرعان ما صار الأمر تسلية صغيرة لها.
“…….”
وأخيراً، وبعد تفكير، نقرت بأصابعها.
فما كان إلا أن تحوّلت جدران الغرفة بما فيها النوافذ إلى مرايا لامعة، مع طقطقة خفيفة.
“هوهو…”
أطلقت ضحكة باردة، غير أنّ ملامحها بقيت خالية من أيّ تعبير.
“ترى… متى ستكتشف هذه المرة؟”
غادرت الغرفة، وبلا وعي، التفتت نحو غرفة لوسي.
الباب الذي كان مغلقاً قبل قليل صار الآن موارباً.
ومن أثر السحر المتسرّب، بدا أنّ لايل قد عاد.
وبخطوات العادة التي اكتسبتها من حياة الخدم، اتجهت مامون نحو الغرفة، تنوي فقط إغلاق الباب بهدوء.
لكن ما إن لمحت من الفتحة الصغيرة، حتى تجمّدت في مكانها.
“هاه…”
تنفّس رجلٌ بعمق، بنبرة ثقيلة.
فمدّت مامون نظرها عبر الشقّ الضيّق.
هناك، جلست لوسي على طرف السرير، تحدّق في الفراغ بعينين خاويتين…
تلك النظرة نفسها التي رأتها مامون حين أتت لافتراسها أول مرّة.
أمّا لايل، فقد كان جالساً على الأرض، يطبع القُبلات مراراً على رُكبتي لوسي.
يداه تمسكان بساقيها بحذر بالغ.
كان قميصه العسكري ممزّقاً وكأن شيئاً حادّاً شقّه إرباً، متناثراً على الأرض.
وجسده مغطّى بعلامات عضّ كثيرة.
بينما كانت لوسي، التي سلّمت ركبتيها طواعية، تبتسم بشفاه ملطّخة بالدم القاني.
لم يكن على مامون أن تُجهد نفسها لتفهم ما حدث بينهما.
‘شيطان تأكله بشرية… أهي حقاً بشر؟’
ظنّت مامون أنّه سوء فهم سخيف، وتجاوزته بخفّة.
فهي لم تكن تكترث كثيراً لشؤون الآخرين.
لو كان دايوس هنا، لربّما كان الوضع مختلفاً.
كان السحر الذي يملأ الغرفة ينتمي بكامله لـ لايل، وكأنّه يحاول إخفاء أمرٍ ما.
لكن مامون افترضت أنّه مجرّد فقدان سيطرة من شدّة انفعاله.
وبالنسبة لمامون وهي شيطانة فإنّ سحر شيطان آخر بمثابة السمّ.
بدأ السحر يتسرّب من تحت الباب.
‘يا للورطة.’
ابتلعت دون قصد شيئاً من سحر لايل، فسارعت إلى إغلاق الباب.
“أوخ…”
وبالتزامن، دوّى صوت قضم لحم، يتبعه أنين من لايل.
وفي تلك اللحظة، ورغم شعورها بالغثيان، خطرت لمامون فكرة صغيرة:
‘كان عليّ أن أرى مشهداً نادراً كهذا، شيطاناً تفترسه بشرية، ولو مرّة في حياتي.’
***
وقف لايل أخيراً بعد أن ألقى نظرة شبه متحسّرة على لوسي، الغارقة في نوم عميق كأنّها شبعى حتى التخمة.
أعاد جسدها، الذي تدلّى نصفه عن السرير، إلى وضعه المستقيم، ثمّ ارتدى ملابسه.
وفي لحظة قصيرة، شُفيت تماماً آثار العضّ على عنقه وصدره.
‘الشفاء السريع ليس دائماً ميزة محبّبة.’
لكنه اكتفى بهذا القدر، وغادر الغرفة.
وما إن خرج، حتى هبّت ريح قوية تعصف من حوله، فتناثرت خصلات شعره الأمامية، كاشفة عن جبينه العريض.
وما لبث أن تبدّل المشهد من ممرّ القصر إلى محيط النزل الذي كان يقيم فيه مع فرسانه.
القمر الفضيّ، الذي أطلّ في الفجر الباكر، صبغ شعره الأبيض ببريق أبهى.
ثمّ أعاد شعره الأسود كما كان، فاستعاد ملامحه المعتادة.
***
“عدتَ من الخارج، على ما يبدو.”
قالها أوين، الذي كان ممسكاً بدرابزين السلّم، وكأنه في طريقه إلى القبو، عندما مرّ لايل عبر ردهة النزل.
“نعم، لم يغمض لي جفن.”
أجاب بعبارة عادية، واقترب من الدرج.
لكن أوين أوقفه فجأة:
“…هل بإمكانك منحي بضع دقائق؟”
نبرة حادّة جمّدت خطاه.
‘ما الذي يريده الآن؟’
حوّل لايل نظره إليه، فتقاطعت أعينهما في صمت.
***
حين رأى لايل موران لأوّل مرة، أدرك فوراً أنّ دمها من دمه.
ليست مجرّد غصن بعيد في شجرة العائلة، بل أخت وُلدت من أبيه نفسه.
لم يستطع أن يفسّر ذلك منطقياً، لكنّه كان يعرف الأمر بالفطرة…
ربما هو أثر قوى الشياطين.
“هل ترغب في كأس نبيذ؟”
لم يُجبره أوين على الحضور.
كان الأمر مجرّد فضول لمعرفة سبب استدعائه.
كما أنّ فضول لايل هو ما قاده إلى لقاء أبيه.
“لا، لستُ بحاجة.”
لم يتغيّر انطباعه عن والده منذ لقائه الأوّل حتى الآن.
رجل أحبّته أمّه يوماً… لكن لسبب مجهول، تركها هو وأرينيل، وجاء إلى مملكة مايتن ليبدأ حياة جديدة.
وهكذا، صارت موران أختاً غير شقيقة له… لكن لايل لم يشعر تجاهها بأيّ ودّ.
وكذلك الحال مع أوين، الذي كان أمامه الآن يشرب الخمر من الزجاجة مباشرة.
“آه…”
زفر أوين، فوصلت رائحة الكحول إلى أنف لايل.
كان في زفرته مزيج من مشاعر سلبية كثيرة.
جلس لايل يراقب وجهه المظلل، واضعاً ساقاً على أخرى، منتظراً أن يبدأ بالكلام.
لكن الصمت طال.
“أريد أن أعرف سبب استدعائك لي.”
قالها لايل أخيراً، فارتجفت يد أوين الممسكة بالزجاجة.
ثمّ سأل بصوت متخشّن:
“أنت ابن دوق مارسين… أليس كذلك؟”
لم يكن في الإمبراطورية من يجهل دوق مارسين.
وأوين، بصفته من إمبراطورية روتانيا سابقاً، كان يعرفه بلا شك.
“فلنقل… نعم، أنا هو.”
أجاب بنبرة فيها شيء من الإلزام.
“نعم، هذا صحيح. ولكن… هل في الأمر مشكلة؟”
بدا وكأنّه يأمل أن يكون الجواب: “لا”، لكن عينيه ظلّتا تحملان مزيجاً من الأسى والحنين.
“…هل أرينيل بخير؟”
تغيّر مزاج لايل فجأة.
حتى الآن، لم يكن يشعر تجاه أبيه بشيء، وكأنّه يحدّث غريباً.
لكن سماعه لاسم “أرينيل” على لسانه، كان كحجر يُلقى في ماء ساكن.
غطّت عيناه موجة من البرود القاتل.
وأدرك الآن لماذا لم يطق نظرة أوين إليه…
أوين لا يملك الحقّ في أن ينظر إليه بتلك المشاعر :
الخيانة، الغيرة، الحنين، اللوم.
فهو أوّل من تخلّى عنهم.
“لولا ألاعيبه، لما تخلّت عنّي…”
ألم تكن أنت من تركنا، مهما كان السبب؟
تذكّر لايل يوم وُلد، حين منحه الملك حياة جديدة.
كانت ذاكرته متصلة منذ تلك اللحظة بلا انقطاع… ولم يكن أوين فيها أبداً.
حتى رجال دوق مارسين الذين لاحقوا أرينيل كانوا أوضح حضوراً منه.
“هذا ما جنيته باختيارك… مذلّة تفوق الوصف.”
لقد اختارتك أمّي… فلماذا؟
“…هل كنت تعرف والدتي؟”
في ماضيه البشري، شعر لايل بخيانة أرينيل حين جعلته شيطاناً… قبل أن يدرك أنّها فعلت ذلك لإنقاذ حياته.
لكن حتى بعد معرفة الحقيقة، لم يحنّ إليها كثيراً.
فهو يعيش لغاية واحدة:
شخص واحد فقط.
غير أنّ اسمها على لسان أبيه اليوم، أيقظ ذكريات كان قد طواها بعيداً.
لقد حوّلته أرينيل إلى شيطان ووحش، كي تحافظ على حياته… حتى في تلك اللحظة، لم يكن أحد بجوارها.
لولا الملك، الذي استجاب لرجائها، لكان لايل قد فارق الحياة بين ذراعيها.
‘أين كنت وقتها؟’
خطر ببال لايل وجه إيفريت وموران، وهما يبتسمان له.
خيّل إليه أنّ حياتهما العادية تمرّ أمامه الآن.
“بالطبع أعرفها. وهل تودّ معرفة المزيد؟”
كانت أمام أوين ثلاث زجاجات فارغة، ويبدو أنّه بات مخموراً تماماً.
غطّى نصف وجهه بيده، وقال بنبرة ساخرة:
هووف…..
انطفأ الشمعدان على الطاولة، وغرق المكان في الظلام.
وفي تلك اللحظة، اتّسعت عينا لايل في الظلمة كعينَي ثعبان، كا
شفة عن ملامح أوين بوضوح مذهل.
“إن قلتُ نعم، فهل ستخبرني؟”
لم تكن حياة لايل مع أرينيل تعيسة… بل كان سيقول إنّه كان سعيداً، لأنه لم يعرف وقتها أنّه يعيش البؤس.
لكن لو سُئل:
هل كانت أرينيل سعيدة؟
لأجاب بلا تردّد:
لا.
لقد رآها عن قرب، وعرف أنّها لم تكن سعيدة قط.
ترجمة:لونا
ما تنسوش تدخلوا في قناة الملفات حقتي بالتيليجرام حاطيت الرابط في الصفحة الرئيسية بالتعليقات
التعليقات لهذا الفصل " 103"