انحنى دايوس حتى كاد ظهره يلامس الأرض، وظلّ يضحك طويلًا حتى انبعث من بين شفتيه صوت شهقة متقطّع.
ثمّ ما لبث أن استقام في وقفته، وفي طرف عينيه دمعة متألّقة تدلّ على أنّ الضحك بلغ به مبلغ البكاء.
مسح بطرف إصبعه دموعه العالقة وسأل:
“إذًا، لهذا السبب استدعيتني إلى الإمبراطوريّة؟ أترى أنّ الوعاء موجود هنا؟”
“هممم… كان كذلك حتى قبل أسبوع، ربّما؟”
كان دايلر قد استدعى دايوس قبل أسبوعين.
ثمّ قبل أسبوع واحد فقط، وصلت أخبار تقول إنّ لايل ورفاقه قد توجّهوا نحو مملكة مايتن.
أي أنّ لايل لم يعد موجودًا هنا الآن.
“وماذا عن الآن؟”
“على ما سمعت، فقد توجّهوا إلى مملكة مايتن.”
أجاب دايلر بلا أيّ تردّد، فارتسمت على وجه دايوس ملامح الانزعاج البالغ.
مملكة مايتن… تلك التي كان يقطن فيها قبل أن يُستدعى إلى الإمبراطوريّة.
لم يكن يقيم هناك لحاجة ملحّة، بل لأنّه في الآونة الأخيرة وجد نفسه منجذبًا إلى البشر ذوي البشرة السمراء الداكنة، فأراد أن يتذوّق منهم قليلًا.
“أتمزح معي؟! لقد قطعت كلّ هذه المسافة عبثًا إذًا!”
ورغم أنّه لم يكن هناك ما يستحقّ هذا الغضب، إلا أنّ دايوس أظهر امتعاضًا شديدًا، وحدّق في دايلر بنظرة غاضبة.
أمّا دايلر، فلم يفهم سبب ذلك، فسأله بصوت تغشاه الدهشة:
“لو أنّك جئت إليّ مباشرة فور وصولك إلى الإمبراطوريّة، أما كان بإمكانك أن تلتقي بهم قبل رحيلهم؟”
‘إنّه خطؤه، فلما يثور عليّ إذًا؟’
لم يكن في كلامه سخرية، بل كانت تساؤلاته حقيقيّة، يريد أن يعرف إن كان له ذنب في ذلك أصلًا.
“أنت تملك موهبة فريدة في إغضاب الناس، سواء كانوا بشرًا أم شياطين.”
“هيه، حتّى لو مدحتني بهذا الشكل، فإنّ الأمر بيني وبينك لن يجدي يا دايوس.”
قالها دايلر بابتسامة ساخرة، واضعًا حدًّا للموقف.
‘حقير مزعج.’
ولمّا لم يُرد دايوس إطالة النقاش، كبح جماح غضبه والتزم الصمت.
****
“اختفاء؟! أتسمّون غياب أسبوع عن المنزل اختفاءً؟!”
كلّما جمعت كاميلا المعلومات في مملكة مايتن، ازداد غضبها اشتعالًا.
“لقد تبعتُ ذلك الرجل بمحض إرادتي.”
كان مستوى توتّرها قد بلغ عنان السماء.
“وأيّة فرصة أخرى ستُتاح لي لألتقي بشخص بذلك الحُسن؟”
بووم!
“……”
هوَت قبضتها على الطاولة فجأة، فارتعد رود وسحب كأسه بهدوء قبل أن ينسكب الشراب.
لقد حالفه الحظّ هذه المرّة، ولكنّها لو أعادت الضربة مرّة أخرى فلن ينجو كأسه هذه المرّة.
“هذا الانحلال لا يُحتمل! كيف لشخص أن يتبع غريبًا بالكاد التقاه، من دون ذرة شكّ؟!”
“هاهاها…”
“أجل، ومن كان ليظنّ أنّه سيتبع المجرم بنفسه!”
كان هامون وبن يفكّران الأمر نفسه، لكنّهما لم يجرؤا على مقاطعتهما، واكتفيا بانتظار أن يهدأ غضبها.
“أظنّ أنّني فهمت الآن لِمَاذا أُغلقت القضيّة سريعًا.”
لم تستطيع كاميلا كبح جماح غضبها، فرفعت الكأس إلى شفتيها وشربت جرعات كبيرة.
فالضحايا كانوا يصرّحون بأنّهم تبعوا المجرم بمحض إرادتهم، فما الحاجة لمواصلة التحقيق إذًا؟
“المثير أنّ المجرم ليس واحدًا، بل رجل وامرأة…”
“لنعد أدراجنا، نحن لسنا هنا للقبض على المجرم أصلًا.”
إذا كانت كاميلا، التي لا تحتمل رؤية الظلم، قد بلغت هذا الحدّ من الاشمئزاز، فذلك يعني أنّ الأمر قد جاوز كلّ حدود.
“من الواضح أنّ هذه الحوادث لا تمتّ إلى سيّدتنا الماركيزة بصلة.”
لم تكن تعرف لوسي معرفة عميقة، لكنّها كانت تدرك أنّها ساذجة تمامًا في هذا النوع من الأمور.
ويبدو أنّ بقيّة الفرسان يوافقونها الرأي، وإن لم يصرّحوا به.
“أتظنّين ذلك؟”
أجاب لايل بصوت خافت، متكئًا على الكرسي حتى كاد يسقط إلى الوراء.
لقد مرّ على وجودهم في مملكة مايتن خمسة أيام تقريبًا.
وبات الفرسان قد سئموا الاستماع لشهادات مكرّرة عمّا حدث وقت الاختفاء أكثر من القيام بالبحث نفسه.
ولم يكن لايل استثناءً.
“أنا أيضًا بدأت أشعر بالضيق من هذا.”
وعند سماعهما قرار الرحيل، انتفضت كتفا موران التي كانت تقدّم الطعام.
غير أنّ وجه لايل ظلّ متخمًا بالملل، إذ كان شيء آخر هو ما يزعجه حقًّا.
“فلنرحل غدًا صباحًا إذًا.”
قالت كاميلا وكأنّها تعاهد نفسها على الأمر، فنهضت واقفة فجأة.
وكان صوتها من العلوّ بحيث دوّى في أرجاء قبو النزل، ليلفت أنظار الزبائن وأصحاب النزل على حدّ سواء.
“يكفي، اخفضي صوتك قليلًا…”
ضغط رود على كتفها ليجبرها على الجلوس مجدّدًا.
وما إن جلست وهي تترنّح، حتّى نظر إليها متسائلًا بلهجة لا تخلو من الشكّ:
“هل أنتِ ثملة؟”
لقد لاحظ منذ قليل أنّها تفرغ الكؤوس بلا توقّف.
ولأنّه حديث العهد في الفيلق، لم يكن يعرف مدى قدرة هؤلاء على شرب الخمر.
“لستُ ثملة.”
كانت ملامحها طبيعيّة إلى درجة أنّ من لا يعرفها قد يصدّقها.
“بل أنتِ ثملة. انتهى الأمر، تفرّقوا.”
كان لايل قد ضاق ذرعًا بنظرات الآخرين التي تتبعه، فأمر بإنهاء السهرة.
فأمسك رود بذراع كاميلا لينهضها مجدّدًا، رغم أنّه للتوّ أجلسها.
وفي تلك اللحظة، تقدّمت موران نحو لايل متردّدة:
“ع… عذرا، هل سترحلون الآن؟”
“نعم، رفيقتنا ثملة.”
وأشار بيده إلى كاميلا.
“لستُ ثملة.”
همست “كاميلا” وهي تُسحب بعيدًا، لكنّ لايل تجاهل كلامها كليًّا.
“أعني… هل سترحلون غدًا؟”
“آه، ذلك… نعم.”
أومأ لايل بخفّة، بلا أيّ أثر للتردّد أو الأسف، فتدلّت كتفا موران خيبةً.
ثمّ شدّت شفتيها وكأنّها تتخذ قرارًا مصيريًّا.
وحين رفعت رأسها لتنظر إلى لايل الذي يفوقها طولًا، قاطعها هو قبل أن تفتح فمها:
“ألم أقل لكِ من قبل أنّ لديّ شخصًا أحبّه؟”
كانت نبرته حاسمة، فأخرستها على الفور، تاركةً شفتيها تتحرّكان بلا صوت.
رمقها بنظرة باردة قبل أن يدير ظهره عنها.
ومن خلفه، أحسّ بوخز نظرات أخرى أشدّ إزعاجًا… نظرات أوين التي تلاحقه كلّما ولّى مدبرًا، وكأنّه يتذكّر ماضيهما بمرارة، ممّا أثار في نفسه نفورًا ممزوجًا بالاشمئزاز.
***
“ألم أقل لكِ من قبل أنّ لديّ شخصًا أحبّه؟”
معنى كلامه واضح: إن كنتِ تملكين ذرة فطنة، فلا تفكّري حتّى في الاعتراف.
وكانت “موران” تدرك ذلك جيّدًا.
“هاه… لا شكّ أنّ شخصًا كهذا سيكون لطيفًا مع من يحبّ…”
جلست على سريرها تحدّث نفسها، مستسلمة لأحلام عقيمة.
‘لكن، أليس الاعتراف حقّي على الأقل؟ إن كان يحبّ غيري، فسيرفضني، لكنّني سأكون قد جرّبت.’
إجابته كانت رفضًا بحدّ ذاته، لكنّ عقلها البسيط كان يحاول تضميد جرحه بالوهم.
لم يمضِي أسبوع بعد على وعدها ألّا تستسلم، لكنّ لايل كان كلّما اقتربت منه خطوة، ابتعد هو عنها خطوتين.
“……”
وبينما كانت النشبة الحيوانة غارقة في أفكارها، انتفضت فجأة وقد اتّخذت قرارها، فغادرت الغرفة مسرعة.(بجد عصبت سوري 😭)
كانت خطواتها على ممرّ النزل عنيفة بما يكفي لإثارة شكاوى النزلاء.
“أتظنّ أنّ نظراتك كافية لردعي؟”
كانت بطبعها تعشق مخالفة ما يُطلب منها، لذا كان ردّ فعلها على رفضه هو الإصرار أكثر.
طرق- طرق.
“سيّدي القائد، هل أنت مستيقظ؟”
طرق- طرق.
“سيّدي؟”
لم يصلها أيّ ردّ.
انتظرت طويلًا وهي تميل رأسها في حيرة، ثمّ مدّت يدها نحو المقبض.
“…؟”
انفتح الباب بسهولة مثيرة للريبة.
ورغم تردّدها، إلا أنّها دفعت الباب بقوّة.
“أوه…؟”
لكنّ الغرفة كانت فارغة تمامًا، وباردة كما لو أنّها لم تُستعمل قط.
***
لم تكن الساعة متأخّرة كثيرًا، لكنّ لوسي كانت قد غرقت في نوم عميق حين وصل لايل.
وكان أوّل من استقبله هو الثعبان الذي تركه خلفه.
تسلّق الثعبان جسده حتى بلغ أذنه، وهمس له بما يشبه الكلام، وإن لم يكن يسمع صوتًا حقيقيًّا.
لكنّه كان يفهمها كما لو أنّها تنطق بوضوح.
أخبره عن كلّ ما واجهته لوسي اليوم من أفخاخ ومكائد.
وأضاف أنّها لم تكن نائمة، بل فاقدة للوعي.
ثمّ عاد الثعبان وانزلق إلى داخل كاحله.
اقترب لايل وجثا على ركبة واحدة إلى جانب السرير، ناظرًا إليها مطوّلًا بعينين صامتتين.
ثمّ أخذ يدها برفق، و
رفعها إلى شفتيه ليطبع قبلة على ظهرها.
“إن شعرتِ بالجوع… فلا تكابري. التهميني.”
‘أنا هنا من أجل ذلك.’
تمتم بها وعيناه مغمضتان.
ثمّ قبّل يدها مرّة أخرى، ورفع رأسه…
في تلك اللحظة—
“……”
التقت عيناه بعينيها الخاليتين من أيّ بريق.
ترجمة:لونا
ما تنسوش تدخلوا في قناة الملفات حقتي بالتيليجرام حاطيت الرابط في الصفحة الرئيسية بالتعليقات
التعليقات لهذا الفصل " 102"