الفصل التاسع والأربعون
في ذلك اليوم، مزّق لوسيون العقد أمام عيني إيديث، ثم أحرقه حتى لم يبقَ أثر.
لكن في قلب إيديث، لم يُمزَّق العقد يوماً.
فأمور الدنيا لا أحد يعلم كيف ستسير. يجب دائماً افتراض الأسوأ.
“لم يبقَ سوى القليل.”
في اليوم الذي غطّى الثلج العالم ببياضه.
تبدأ القصة عندما تنقذ القديسة هيلينا الفارس إدوين المصاب بجروح بالغة أثناء تطهير الوحوش.
لكن ما يهم إيديث ليس بداية القصة الأصلية، بل لقاء لوسيون بهيلينا.
“بقي أربعة أشهر فقط.”
سيلتقيان في حفلة عيد ميلاد الإمبراطورة.
ما الذي سيختاره لوسيون؟
مهما كان اختياره، قررت إيديث أن تتبعه بطيب خاطر.
“سيدة إيديث، في ماذا تفكرين بعمق هكذا؟”
“ها؟ لا شيء.”
عندما انتهت بيكي من تسريحها وأبعدت يديها، قامت إيديث من مقعدها.
فتحت بيكي الخزانة وأخرجت شالاً.
“ستذهبين إلى الصوبة الزجاجية، أليس كذلك؟”
“نعم.”
رغم أن ملابسها خفيفة نسبياً لفصل الشتاء، لفت بيكي الشال السميك حول كتفيها وربطته جيداً.
“سأعود قريباً.”
“احذري الريح الباردة. إذا شعرتِ بالبرد عودي فوراً.”
“حسناً.”
تركت إيديث نصائح بيكي القلقة خلفها واتجهت مباشرة إلى الصوبة.
في أبعد زاوية سرية داخل الصوبة.
في حوض زهور فارغ تماماً، تمايلت زهرة صفراء وحيدة باختصار.
تنفست إيديث الصعداء حين رأت البرعم الذي انفتح أكثر من الأمس.
“ربما ستتفتح كلياً قريباً.”
خلعت قفازاتها الحريرية المعتادة، واستبدلتها بقفازات قطنية، ومدّت جسدها، حينها.
سُمع صوت تأنيب من خلفها.
“لا أفهم لماذا تأتين كل مرة للقيام بعمل شاق.”
اقترب هيدن وهو يحمل كيس سماد تحت إبطه وهو ينقر بلسانه.
“كلّفي شخصاً آخر.”
“لا يمكن. لو ماتت الزهرة ستكون كارثة.”
كيف تربّت هكذا، لو ماتت بيد أحد آخر، لكانت إيديث ستبصق الدم في الحال.
رمى هيدن الكيس على الأرض، هزّ كتفيه المتيبسة، وأشار بذقنه.
“في حياتي كلها، لم أتوقع أن أرى شخصاً يزرع سولانيس بعيني.”
نظر هيدن إلى إيديث بنظرة اشمئزاز.
ولا عجب، فالسولانيس ليست زهرة تُزرع لمجرد الرغبة.
الأسباب كثيرة، لكن باختصار:
“رمز الموت المفاجئ.”
تذبل بسهولة لضعفها الشديد.
كزهرة تحب الشمس، ما إن يأتي الشتاء حتى تصرخ بكل كيانها “سأموت!” وتذبل في لحظة.
والزهرة الذابلة لا تُنقذ أبداً. تنتهي هناك إلى الأبد.
لذلك لا تُزرع أبداً في الإمبراطورية ذات الفصول الأربعة الواضحة، ولهذا ثمنها باهظ.
ويزداد بطؤها في النمو، فقد مرّ قرابة العامين وبرعمها الآن فقط ينفتح.
ومع ذلك، لم تستسلم إيديث.
‘عنيدة حقاً.’
يدهشه دائماً، لكن إصرارها لا يُضاهى.
“سيارتفع سعرها كثيراً لو بيعت، لكن هل يستحق كل هذا العناء؟”
“قريباً سأحتاجها.”
قد تبدو الآن بلا قيمة، لكنها ستكون العشبة الدوائية الوحيدة في العالم.
وستكون فرصة ذهبية لتسجيل دين لدى الإمبراطورة.
‘أشعر بقليل من الذنب لأنني أسرق إنجاز هيلينا…’
لكن بطلة القصة ستُحبّ بما يكفي حتى بدون هذا، لذا ستأخذه إيديث لنفسها.
“بسرعة، انثر السماد.”
“حاضر، حاضر. من أنا لأعصي كلامك.”
أخذ هيدن حفنة من السماد ونشره حول السولانيس، ثم مال بإبريق الماء وروى التربة حتى الثمالة.
“انتهيت.”
“شكرًا.”
حرّكت إيديث أصابعها كعادتها، ثم جلست وصبّت قوتها في جذور الزهرة.
بعد لحظة، انتشر دفء رقيق في الصوبة.
خارجها شتاء قارس، وداخلها ربيع.
“كم سيستغرق؟”
“مثل العادة.”
أغمض هيدن عينيه وهو مستلقٍ على الأريكة بعد سماع الجواب.
ليس من النوع الذي يتأثر بالفصول، لكنه منذ زمن ينتظر هذه اللحظة.
“أوقظك لاحقاً؟”
“أتمنى، لكن لا.”
فتح هيدن عينيه بضيق، فالخارج صاخب.
نظر من النافذة، فعرف مصدر الضجيج فوراً.
“يبدو أن السيد الشاب عاد.”
“بهذه السرعة؟ عاد أبكر مما توقعت.”
قامت إيديث ونفضت التراب عن قفازاتها.
أمسك هيدن الشال الموضوع على الأريكة ولفّه حول كتفي إيديث.
أصبحت هذه الخدمة طبيعية كتدفق الماء.
“هيا.”
خرجا من الصوبة، عبرا الحديقة، فرأيا الجنود مجتمعين.
تجاوزاهم، فرأت لوسيون ينظر حوله بوجه بارد.
‘مزاجه سيء.’
الجو المحيط ليس عادياً.
‘هل حدث شيء في حملة التطهير هذه؟’
قلقها دفعها، فركضت إليه مسرعة.
“لوسيون!”
ما إن نادته حتى التقت أعينهما.
امتلأت عيناه الباردتان كالثلج بالدفء.
وصلت إيديث في لحظة، وانحنت عيناه برفق.
“إيديث، عدت.”
الآن دور إيديث أن تقول “مرحباً بعودتك”. لكنها لم تستطع.
ارتعشت يدها.
“م، ما هذا؟ مظهرك…”
مدّت يدها ولمست خده، فشعرت بجلد خشن.
وشفتاه المتشققتان؟
“وجهك صار نصف وجه!”
“كهخ.”
ما إن انتهت كلماتها حتى انفجر سعال مصطنع من بين الجنود المصطفين.
الذين صاروا حقاً نصف أنفسهم هم أولئك الجنود الذين قادهم لوسيون بلا رحمة، لكن لا أحد تجرأ على قول الحقيقة.
“إيديث، قلت لكِ عدت.”
غير مدرك لحزنها، فرك لوسيون خده في كفّها كقطة وألحّ.
“إيديث.”
“……نعم. مرحباً بعودتك.”
بعد التحية على مضض، امتلأت عينا لوسيون بالرضا.
استدار هيدن كأنه رأى شيئاً مقززاً.
لم يكن هو الوحيد المتأثراً.
الجنود الذين راقبوهما كانوا يعضّون شفاههم، يديرون وجوههم، أو يغمضون أعينهم.
يرونه كل مرة يعود من التطهير، ومع ذلك لم يعتادوا.
وبينهم، كان هناك شخص واحد ظل يراقبهما حتى النهاية.
“إيديث.”
رفعت إيديث رأسها فجأة عند نداء كاليد.
“أبي!”
“أنا غير مرئي؟”
“مستحيل.”
تركت إيديث خد لوسيون وركضت إلى كاليد وعانقته.
تحية استمرت ست سنوات كاملة.
“هل عدتَ بخير؟”
“بالطبع، بالنظر الي من ينتظرني هنا، يجب أن أعود سالماً.”
ربت كاليد على ظهر إيديث، ثم أدارها من كتفيها.
“البرد قارس. لندخل.”
استدار كاليد، فضحك ضحكة خفيفة وهو يرى ابنه يحدّق فيه.
“لوسيون، أنت أيضاً.”
“لوسيون، ألست بارداً؟ تعال بسرعة.”
عند نداء إيديث، تحرك لوسيون بهدوء.
انحنى الخدم لهم وهم يصعدون الدرج.
كانت عودة بعد أسبوع واحد فقط.
✦ ✦ ✦
دوقية فروست تقوم كل شتاء بحملة تطهير واسعة للوحوش، لأن الوحوش الجائعة تهاجم القرى.
ومنذ العام الماضي، يشارك لوسيون في الحملات، ويرسخ مكانته كوريث لعائلة فروست.
تلك الشائعات “ملعون، سيموت قريباً” اختفت تماماً حين اقترب عدد الوحوش التي قتلها لوسيون من ثلاثة أرقام.
أمر جيد. بهذا سيحصل على دعم السكان دون عناء.
“على كل حال، أمل ألا يكون مصاباً؟”
بدا سليماً للوهلة الأولى، لكن لا أحد يدري. ربما يخفي شيئاً.
تذكرت إيديث عادته السيئة، فطرقت الباب.
“لوسيون، سأدخل.”
“انتظري—”
“نعم؟”
فتحت الباب قبل أن تسمع الباقي، فانفتح فمها مما رأت.
لوسيون جالس على السرير، عاري الصدر، يحدّق فيها.
لم يكن يرتدي قميصه.
دارت عينا إيديث في المحرج، ثم انزلقتا إلى الأسفل رغماً عنها.
عضلات مشدودة، جسم مثالي ملأ رؤيتها.
شعر لوسيون بالنظرة، فرفع زاوية فمه.
“إلى متى ستنظرين؟ إذا احتجتِ وقتاً أطول، سأريكِ المزيد.”
المترجمة:«Яєяє✨»
التعليقات لهذا الفصل " 49"