الحلقة 44
وقعت عيناها الباردتان على أحد مرؤوسيها.
“اذهبْ واكتشفْ كل شيء عن تلك الفتاة.”
“حاضر.”
يجب أن أعرف لماذا يخفيها كاليد ذاك بهذا الإصرار.
ما الذي فيها حتى يدمّر عملي كله من أجل حمايتها؟
منذ أشهر، أُعدم كل الجواسيس الذين زرعتهم في عائلة فروست، فانقطعت المعلومات.
“واقتلْ هذا.”
“نعم.”
“ن، نعم؟! لحظة! قلتم إنكم ستتركونني أعيش إذا تكلّمتُ، كخخ!”
في لحظة، اخترق السيف قلب جاك.
“تأكّدنا من قطع نفسه تمامًا.”
“أزيلوا الجثة.”
لم تطمئن جينا إلا بعد أن رأت بأمّ عينيها أن جاك قد مات، ثم غادرت الغرفة.
ما إن خرجت السيدة حتى هرع الخدم المنتظرون، وضعوا الجثة في كيس، ومسحوا الدماء بسرعة.
ألقت نظرة قصيرة عليهم، ثم انتقلت إلى غرفة نومها الجديدة.
صمت تام، لا يُسمع فيه حتى صوت تنفّس. كلما زاد الصمت، ازداد وضوح ذلك الصوت، فصرخت جينا بضيق:
“اخرسي! سأتصرّف بنفسي.”
تمتمت مرات ومرات:
“حتى لو لم تقولي، ذلك المكان من حق مايلز.”
غامت عينا جينا ليستر الحمراوان، ماركيزة ليستر.
✦ ✦ ✦
في مكتبة تُعدّ الهدوء أساس الأدب، كان يتردّد صوت يشبه عواء الأشباح تكرارًا.
“إيديث، هل من الضروري حقًا أن نصل إلى هذا الحد؟”
نظر لوسيون إلى إيديث بنظرات مثقلة بالاشمئزاز وسط سيل الكلمات الغريبة التي تنهمر كالرصاص.
“إن فشلتُ هذه المرة، فقد لا أستطيع النهوض مجددًا لفترة طويلة.”
رفعت إيديث عينيها بصعوبة عن الدفتر، وضغطت بقوة على عينيها اللواتي يؤلمانها.
كان الدفتر المتهالك مكتظًا بتعاويذ سحرية مكتوبة بكثافة.
هذا السحر الدفاعي الطويل المعقّد للغاية لم يكن سحرًا عاديًا يُستخدم في برج السحرة، بل كان سحرًا فريدًا ابتكره أغني بنفسه.
وكان أيضًا التعويذة الوحيدة القادرة على صدّ هجوم كرو، لذا كان على إيديث أن تحفظه ولو كلّفها حياتها.
“سوف اقرأ لكِ. احفظيه.”
“لن تستطيع قراءته على أي حال…”
“ومن قال ذلك؟ هاتيه.”
انتزع لوسيون الدفتر من يدها كأنه يتشاجر معه، ثم عبس حاجبيه أمام الأرقام الغريبة المكتظة في الصفحات.
“… ما هذا الهراء.”
أعاد الدفتر بسرعة إلى مكانه، ثم استلقى على الأريكة.
“أيقظيني حين تنتهين.”
“يا لك من مزعج.”
“إن كنتِ تكرهين ذلك، فاحفظي بسرعة.”
لم يتحمّل لوسيون الملل، ففتح كتابًا عشوائيًا وغطّى به وجهه. ثم أطلق تنهيدة طويلة وهو يتخذ همهمات إيديث أغنية تهليل.
كانت لحظة سلام نادرة بالنسبة له. أما بالنسبة لإيديث فكانت حربًا.
‘سيصاب رأسي بالانفجار.’
أمسكت إيديث برأسها وهي تكتب التعاويذ بلا توقف كمن يكتب اختبارًا، عندئذٍ…
طق طق. طرقت يد خشنة المكتب بخفة.
رفعت إيديث رأسها، فمدّ هيدن ظرف رسالة أبيض ناصعًا.
“وصلت رسالة.”
“رسالة؟ لي؟”
لا يوجد من يرسل لي رسالة أصلاً. أمالت إيديث رأسها متعجبة.
قلّبت الظرف، فلما رأت ختم العائلة المألوف، رمشَت عينيها.
“إنها من عائلة داير الدوقية؟”
عند سماع همهمة إيديث، قفز لوسيون من مكانه.
سقط الكتاب من على وجهه بصوت عالٍ، لكن انتباهه كان موجّهًا بالكامل نحو الرسالة التي في يد إيديث.
“داير؟ لماذا يرسل ذلك الوغد رسالة إليكِ؟”
“وأنا أيضًا لا أعرف.”
فتحت إيديث الظرف ونشرت الرسالة، فاقترب لوسيون في الحال وأطلّ برأسه.
كان محتوى الرسالة عاديًا جدًا.
تحية مهذبة، وسؤال عن أحوالها خلال الفترة الماضية.
“لماذا يسأل عن سلامتكِ أصلاً؟”
اعتذر مرة أخرى عن تصرفه الوقح يومئذٍ، وقال إنه يخشى أن تُذكّرها الرسالة بذلك اليوم.
“من يعرف ذلك ويرسل رسالة أخرى؟ لا يزال وقحًا.”
“لوسيون، هل يجب أن تقرأ هكذا؟”
كان يعلّق على كل فقرة، فلم تستطع إيديث التركيز.
“لماذا يهتم إن كنتِ قد وصلتِ سالمة؟ ماذا ينوي إن كنتِ مريضة؟”
من الواضح أن صاحب الرسالة هي إيديث، لكن الأمور انقلبت رأسًا على عقب، فتنهّدت إيديث تنهيدة خفيفة.
“يرغب في استمرار علاقة طيبة… ماذا؟ هذا المجنون!”
انتزع لوسيون الرسالة كالصقر الذي يخطف فريسته، ثم كوّرها بكل قوته.
تدحرجت الرسالة المكوّرة كالكرة على الأرض قبل أن تتمكن إيديث من إيقافه. دهشت من وقاحته.
“لوسيون!”
“هذا الوغد نواياه مشبوهة مهما نظرت. احرقيه فورًا!”
“أنتَ حقًا!”
لم تتحمل إيديث تصرفه التعسفي، فوبّخته بصوت عالٍ.
وضع على وشك الانفجار.
أصدر هيدن صوت “هشش”، ثم رفع إيديث فجأة وحملها ليفصل بينهما.
“اهْدَآ كليكما.”
تدخّل هيدن كشخص بالغ ليُهدّئ الأمور، ووقف بينهما.
“أنا أرى أن كلام السيّد الصغير صحيح. يبدو أن الأمير الصغير داير مهتم بالسيّدة.”
“مهتم؟ بأي حق يهتم بـ!”
“ماذا؟ لا تقل هراء!”
انتفض لوسيون عند كلام هيدن، ثم التفت مفزوعًا إلى جانبه.
كانت إيديث ترتجف وهي تنفر. شعرت بغثيان حقيقي.
“… أهكذا تكرهينه؟ تبدين وكأنكِ ستقيئين.”
سأل هيدن بتردد، فغطّت إيديث فمها وضيّقت عينيها بقوة.
“بسببكَ أنتَ. إن تقيأتُ سأفعلها على ملابسك.”
عند سماع ذلك، تراجع هيدن بهدوء ووسّع المسافة بينه وبين إيديث.
توجّه سهم إيديث التالي إلى لوسيون.
“وأنتَ أيضًا يا لوسيون، لا تقل مثل هذا الكلام. إنه مقزز.”
أن ترتبط ببطل القصة بهذا الشكل؟
لم تفكر إيديث في ذلك ولو للحظة واحدة، ولم تخطر لها الاحتمالية أصلاً.
صُدم لوسيون لثانية من مظهر إيديث الغريب، لكنه سرعان ما شعر بالرضا لرؤية النفور الواضح في عينيها.
“نعم، أن ترتبطي بوقح مثله أمر مقزز بحد ذاته.”
“بالضبط. لا أريد أن أرتبط به.”
عند جوابها الحاسم، عاد لوسيون إلى طبيعته المعتادة كأنه لم يشتكِ أبدًا.
بل إنه بدا أكثر سرورًا.
ضحك هيدن ضحكة خفيفة وهو يراقب المشهد من بعيد.
كان كل شيء واضحًا جدًا، شفافًا إلى درجة الإمتاع.
في هذه الأثناء، التقطت إيديث الرسالة المكوّرة.
“هل أرد؟”
“لا يمكن تجاهلها تمامًا.”
“وما المانع؟ اتركيه.”
“سأرد. هكذا لن يتواصل مجددًا.”
في الأصل، بدت الرسالة أقرب إلى التأكد من سلامتها منها إلى بناء صداقة أو ما شابه.
‘لا يزال يراني كأخته الصغرى.’
لذلك كتبت إيديث الردّ بثبات رغم معارضة لوسيون.
– أنا بخير، لذا أتمنى أن ينسى سموّك ذلك اليوم تمامًا.
ذلك الأمر لا يعني لي شيئًا، فلا تعبأ به. ولا تعُد تراني كأختك.
“بهذا القدر سيفهم.”
وضعت إيديث النقطة الأخيرة، ثم نفضت يديها بلا تردد.
✦ ✦ ✦
“ها.”
لوى لوسيون شفتيه. كان الورق يصدر صوت تكسّر في يده.
“كنت أعلم أن الأمور ستصل إلى هذا.”
كانت إيديث تعتقد أن تلك الرسالة ستكون الأخيرة، لكن لوسيون لم يكن كذلك.
عندما رأى عيني إدوين، عرف فورًا. ذلك الوغد ليس من النوع الذي يستسلم بسهولة.
انظر، ألم يحدث ما توقّعته؟
قبل أن تصل الرسالة إلى يد إيديث، اعترضها لوسيون وفتحها بعنف.
“لنرى ماذا كتب هذا الكلب.”
الرسالة لم تكن طويلة ولا قصيرة، لكنها كانت فارغة تمامًا من المعنى، مليئة بكلام لا طائل منه.
وهذا ما زاد من إزعاجه. شعر أنها تتسلل إلى حياة إيديث اليومية بسلاسة.
قبضته على الرسالة تشتدّ.
خشخش خشخش، امتلأت الغرفة الصامتة بصوت احتراق الحطب.
حدّق لوسيون في الرسالة طويلاً، ثم استدار ورماها في المدفأة.
طق، طق طق، طق.
تحوّلت الرسالة إلى رماد في لحظة واختفى أثرها تمامًا.
كان إتلاف الأدلة مثاليًا.
لذلك لن تعلم إيديث أبدًا. لا هي، ولا أي شخص آخر…
“ماذا يفعل السيّد الصغير هنا إذن؟”
لا… هناك شخص واحد يعلم.
المترجمة:«Яєяє✨»
التعليقات لهذا الفصل " 44"