“ألا يُعدُّ من الطبيعي أن يشعر المرء بالأسى إذا أبدى من قضى معه أشهرًا طويلةً نفورًا واضحًا؟”
في تلك اللحظة، دخل أويل، الضابط المساعد، إلى الغرفة.
رأى دوق كلاستا يتمدد على الأريكة، ينهض تارةً ويستلقي أخرى، فسأله بنبرةٍ تحمل شيئًا من الريبة:
“ما الذي تفعله، سيدي؟”
“ما السبب الذي جعلها ترفضني، برأيك؟”
“ماذا؟”
“ابنتي، أعني. كانت على وشك الخروج، فاقترحتُ مرافقتها، لكنها رفضت.”
وضع أويل الأوراق على المكتب، وقال بنبرةٍ لا مبالية:
“ربما لا تودُّ مرافقتك، فحسب.”
فجأة، شعر أويل بقشعريرةٍ تسري في ظهره. التفت فرأى دوق كلاستا يبتسم ابتسامةً خفيفة، وهو ينظر إليه.
سرعان ما غيّر أويل نبرته، وقال مازحًا:
“هه، ربما لأنك وسيمٌ جدًا، فمرافقتك تجذب الأنظار وتُحرجها!”
ردّ الدوق بحدة:
“هل تظنها من النوع الذي يهتم بمثل هذه التفاهات؟”
‘يا إلهي، ماذا تريدني أن أقول؟’
فكر أويل في نفسه، وقد شعر بالإحباط. حتى عندما يحاول التودد، لا يجد سوى المتاعب.
عزم في قرارة نفسه أن يتقدم باستقالته هذا العام مهما كان.
لم يكن الدوق يتوقع إجابةً فعلية من أويل، إذ عاد ليتمدد على الأريكة، وزفر زفرةً طويلةً وقال:
“الأمر معقد.”
“ما الذي تقصده؟”
“أعني ابنتي.”
“ألا تعتقد أنك توليها اهتمامًا زائدًا؟ ألم تتبنَّها فقط لتفادي النقاش حول الخلافة؟”
كان أويل محقًا.
كانت آرييل تؤدي واجبها على أكمل وجه.
في البداية، قوبلت بمعارضةٍ داخل العائلة، لكن بعد أن أظهرت مهاراتها الاستثنائية في السيف وهزمت الوحوش، بات الجميع يرحب بها كوريثة.
كانت تحظى باحترام الفرسان، وطباعها الدؤوبة جعلتها تتدرب بجدٍ وتطوّر مهاراتها باستمرار.
كلما رفع قائد الفرسان، سويل، تقريرًا عنها، كان يمتدح عبقريتها وبراعتها في السيف.
لم تكن أبدًا من النوع الذي يزعج الآخرين بطلباتٍ مزعجة.
هادئة، ذكية، ومفعمة بالكرامة.
كانت تجسيدًا لصورة الوريث المثالي الذي طالما تمناه.
“ومع ذلك، ظننتُ أننا اقتربنا قليلًا.”
كانت فتاةً لا تُظهر ألمها حتى لو عانت.
عندما تظاهرت بالمرض، اعتقد أن ذلك علامةٌ على قربٍ ما.
سأله أويل، وقد اتسعت عيناه دهشةً:
“أكنتَ تأمل أن تصبحا أقرب؟”
“ليس بالضرورة… لكنني أشعر بالضيق، هذا كل شيء.”
ثم، كأن شيئًا أثار استياءه، التفت إلى أويل وقال:
“حتى أنتَ، يا رجل، تفتقر إلى العاطفة. ألا يزعجك أن يُكرهك من تعيش معه تحت سقفٍ واحد؟”
فكر أويل في نفسه: “منذ متى كنتَ تهتم بمثل هذه الأمور؟”
العاطفة؟
أليست شيئًا يُبنى لخداع الآخرين؟
ألم يكن هو من رفض بقسوة اعتراف فتاةٍ عرفها لأكثر من عشر سنوات، ساخرًا منها بسؤاله عما إذا كانت متفرغة؟
ألم يكن هو من كان يقول إنه إذا كرهه أحدهم، فسيعطيه سببًا حقيقيًا للكراهية؟
شعر أويل بالذهول حتى انعقد لسانه.
قال الدوق فجأة:
“لا، هذا لن يجدي.”
وثار من الأريكة.
“إلى أين أنت ذاهب؟”
“يبدو أن ابنتي لا تدرك عظمة دوق كلاستا. وقلة رغبتها في الماديات ربما ترجع إلى نشأتها في دار الأيتام.”
“حسنًا… وماذا بعد؟”
“أفضل طريقة لكسب ود الأطفال هي الهدايا.”
***
قضيت اليوم كله أبحث عن زهرة الشاي، لكن دون جدوى.
في آخر متجرٍ زرته، بناءً على توصية، تلقيت الرد ذاته:
“لا يوجد مخزون حاليًا. ربما يصلنا شيء في ربيع العام القادم، لكن الحجوزات متراكمة. إذا حجزتَ الآن، قد تحصلين عليها بعد ثلاث سنوات.”
كانت زهرة نادرة ومفيدة طبيًا، لذا كان الطلب عليها كبيرًا.
“ثلاث سنوات؟ هذا متأخر جدًا…”
لتنظيم قافلة تجارية بنجاح، كان عليّ إيجاد الدواء للوني في أسرع وقت.
‘هل سأضطر لتسلق الجبال بنفسي؟’
قال صاحب المتجر، وقد لاحظ مظهري الأنيق:
“يبدو أنك من النبلاء. قد يكون هناك طريقة.”
“ما هي؟”
“ألا تعلمين أن بطولة فنون قتالية ستقام في العاصمة بعد أيام احتفالًا بمهرجان القمع؟”
تذكرتُ أنني سمعت عن مسابقة تجمع النبلاء الشباب للتنافس.
“سمعتُ أن جائزة الفائز هي زهرة الشاي.”
لم أكن أنوي المشاركة، لكن يبدو أنه لا مفر.
خرجتُ من المتجر، فاقتربت ماري وقالت:
“آنستي، هل ستشاركين في البطولة؟”
“نعم.”
“أنتِ قوية جدًا، أكيد ستنتصرين! سأشجعكِ! بالمناسبة، ألا تشعرين بالجوع؟ هناك متجر قريب يبيع تارت لذيذ، هل ترغبين في تجربته؟”
“حسنًا.”
تبعتُ ماري إلى متجر التارت.
بينما أتفحص القائمة، دخل رجلٌ بملابس رثة، يترنح كأنه سكران.
كان يرتجف ويبدو في حالةٍ سيئة.
سأله أحد العاملين:
“سيدي، ما الذي تريده؟”
تجاهل الرجل السؤال، وظل واقفًا، مطأطئ الرأس، يغطي وجهه بيده.
فجأة، لمحتُ شيئًا.
كانت هناك قوة مظلمة تتماوج حول الرجل.
نفس الأثر الذي رأيته قبل أيام.
“سيدي؟”
“اخرس!”
سمعتُ صوتًا كأن شيئًا تحطم.
فجأة، اختفى وجه العامل.
“آآآه!”
نظرتُ فوجدت العامل وقد ارتطم بالحائط، وجهه محطم.
“ما هذا الرجل؟”
“لقد… لقد مات!”
“أبلغوا الفرسان!”
صوت إنذارٍ يدوي، واختلطت أصوات الهاربين والصارخين والمقاومين، فتحول المتجر إلى فوضى.
صرخ الرجل:
“اخرسوا! اخرسوا! كلكم صاخبون جدًا!”
رفع وجهه، فبدأ قشر أسود يغطيه.
تحولت عيناه إلى اللون الأحمر القاني.
في لحظة، أصبح الرجل عنكبوتًا ضخمًا.
“ما هذا؟”
“لقد تحول إلى وحش!”
حاول الناس الفرار، لكن شبكة العنكبوت على الأرض أمسكتهم.
تقدم فارسٌ يحمل سيفًا وقال:
“لا داعي للقلق، أنا من فرقة فرسان العاصمة…”
قبل أن يكمل، شطرته ساق العنكبوت إلى نصفين. كانت السرعة مذهلة.
قال العنكبوت:
“ألم أقل لكم أن تصمتوا؟”
اصفرت وجوه الناس رعبًا.
“آنستي…”
أمسكت ماري طرف ثوبي بحذر.
“هش.”
نظرتُ إلى شبكة العنكبوت التي ملأت المتجر.
كانت خيوطها دقيقة وشفافة، لا تُرى إلا بتعزيز الحواس بالسحر. ‘أن ينسج هذا في لحظة دخوله!’
كان أقوى بكثير من بايرون الذي واجهته سابقًا.
“لقد سد المدخل.”
لم يكن هناك مجال لتهريب الناس.
“بل لا يستطيعون الحركة بسبب الشبكة.”
حاول الناس تحرير أنفسهم، لكن دون جدوى.
قال العنكبوت بنبرةٍ مخيفة:
“كلكم، لا تتحركوا.”
بعد رؤية مصير الفارس، تجمد الجميع.
أضاف العنكبوت:
“كلكم صاخبون جدًا. تجمعون وتصرخون كالكلاب!”
ساد الصمت، لا يُسمع سوى صوت العنكبوت.
بدا راضيًا، واستمر يهذي:
“جيد! جيد! ابقوا هكذا، بلا أنفاس حتى! من يتكلم، سأقتله أولًا! هاها!”
لم يكن الجنون شرطًا ليصبح المرء شيطانًا، لكن هذا الوحش، مثل بايرون، بدا مختلًا.
“هيا، من سيكون الفريسة الأولى؟ هاها!”
تجمد الناس في أوضاعهم، خائفين من أي حركة.
فجأة، سمعنا صوت بكاء طفل.
حاولت أمٌ تهدئته، لكن دون فائدة.
قال العنكبوت:
“الفريسة الأولى! بكاء طفل! لذيذ، طري، دافئ! هيهي!”
‘الأمر انتهى.’
لن يترك هذا الوحش الطفل حيًا.
كان عليّ تحويل انتباهه.
قلتُ بنبرةٍ استفزازية:
“إلى متى يجب أن أتعامل مع ضعيف مثلك؟”
نجحت. التفت العنكبوت إليّ.
“ماذا قلتِ؟”
“أكرر؟ أنا مشغولة، وعليّ تحمل هذرة ضعيف مثلك؟”
“ضعيف؟ أنا، المختار من الحاكم؟”
“هل انضممتَ إلى طائفةٍ ما؟ إن كنتَ قويًا، واجه دوق كلاستا. لمَ تهاجم الأبرياء؟”
دارت عيون العنكبوت المتعددة، وسيقانه الحادة تهتز تهديدًا.
“أأنا مخطئة؟ أنتَ تخاف مواجهة الدوق، فتتنمر على الضعفاء!”
كل كلمةٍ زادت من غضبه تجاهي.
لم يعد يسمع بكاء الطفل.
“تجرؤين عليّ؟”
طارت ساقه نحوي.
نزعت حذائي الملتصق بالشبكة، وقفزت في الهواء.
ألقيت عملة ذهبية على الشبكة، فالتصقت.
“آه، مالي!”
كدتُ أبكي على نقودي، لكن لم يكن هناك بديل.
وقفتُ على العملة بأطراف أصابعي، فضحك العنكبوت:
“هيهي، مسلية! لكن كم ستستمرين بهذا السيرك؟”
هز جسده، فتماوجت الشبكة.
سقط الناس، وعلقت أيديهم أيضًا.
تحركت الشبكة تحتي كالأمواج، لكنني اعتدتُ القتال على ظهر وحوشٍ حية، فهذا لا شيء.
“هذا كل ما لديك؟ كنتُ أظنك أقوى.”
“سأقتلكِ! سأمزقكِ!”
نجح استفزازي. طارت ساقه نحوي.
وقوفي على العملة جعل الدفاع صعبًا، فقفزت.
“لن أدعكِ! لن أدعكِ!”
تبعتني سيقانه.
توهج سيفي بالسحر.
في الهواء، لويتُ جسدي وهويتُ بالسيف، فقطعتُ ساقه.
“كيآآآآه!”
صرخ وتراجعت سيقانه.
حددتُ نقطة هبوطي، وألقيت عملةً أخرى.
“لن أترككِ تموتين بسهولة! سأمضغكِ حية!”
“يجب أن أنهي الأمر.”
إن ثار، قد يصاب آخرون.
وكانت طاقتي السحرية محدودة. إن نفدت، سأصبح فريسة.
‘سأقطع رأسه بدفعةٍ واحدة.’
أمسكتُ السيف بقوة، وملأته بالسحر، وقفزت.
رفع العنكبوت سيقانه تحديًا.
لا يهم.
كنتُ سأقطعها معه.
لكن قبل أن أهوي، انشطر جسد العنكبوت نصفين.
كأن الزمن تباطأ.
بين نصفي جسده، ظهر وجهٌ مألوف.
شعرٌ بني ناعم، عينان خضراوان هادئتان.
“آسف، لكنكِ ابنة التنين. لا يمكنني ترك خطرٍ كهذا.” ((السطر دا ذكرى حياتها الأولى))
شعرتُ بحد السيف البارد يشق قلبي.
وجهٌ لن أنساه حتى في الجحيم.
كان ريجان.
— ترجمة إسراء
التعليقات لهذا الفصل " 26"