وهي تحاول جاهدة إخفاء شعورها المتزايد بالاكتئاب، أعربت “آنيس” عن رغبتها في المغادرة لـ “سيلين” و”ريبيكا” كان عليها أن تعمل قبل أن يزداد اضطراب أفكارها، لأن العمل يشغلها عن التفكير في أي شيء آخر.
“إذًا، لدي بعض الأمور لأقضيها، سأذهب الآن المقدم شاتليه، الملازم مونتغومري.”
“آه، آنسة. السيد “جيرمان” سيكون في البلدية أما “أردينان”… حسنًا، إذا بحثتِ جيدًا في الجوار، فبمجرد أن يعلم أنكِ هنا، سيظهر بنفسه.”
“أشكرك على إخباري، ولكنني هنا اليوم لفحص اللاجئين في المخيم.”
قالت “آنيس” وهي ترفع حقيبة زيارتها الطبية، مما جعل “سيلين” تتخذ تعبيرًا متوجسًا على وجهها، بدت غير مرتاحة على الإطلاق.
“لكن، بالكاد مضى وقت على إصابتكِ، ألا تفرطين في الأمر…؟”
“لن أُجهد نفسي اليوم، فلا تقلقي، سيدتي المقدم.”
“ليس اليوم فقط، بل عليكِ أن تتخذي الحيطة في حياتكِ عمومًا إن كنتِ تعيشين دومًا من أجل الآخرين فقط، فسوف تنهارين يومًا ما ولم يكن “فيليب أردينان” الوحيد الذي أمضى لياليه قلقًا أثناء فقدانكِ للوعي.”
وجهت “سيلين شاتليه” حديثها إليها بجدية، ولكن “آنيس” اكتفت بابتسامة باهتة كإجابة، ثم استدارت وبدأت بالسير باتجاه المخيم تاركة “سيلين” خلفها بوجه ما زال يعكس القلق والريبة.
اكتشفت “آنيس” أن “أندرو ليتون” كان يتبعها بعد أن قطعت مسافة لا بأس بها.
“هل لديكَ ما تود قوله، سيد ليتون؟”
“لا تتحدثين معي بلغة “ويستيريا”.”
“لأنني سبق أن تأكدت خلال العشاء الأخير أنكَ تتقن “لغة ليانغ”.”
بالطبع، كان بإمكانها الحديث معه بلغة “ويستيريا”، لكنها لم تفعل الحديث مع شخص بلغته الأم نوع من المجاملة، ولم تكن “آنيس” تريد أن تبادله أي مجاملة، على الأقل ليس قبل أن تفهم السبب الذي دفعه لنشر “تلك الصورة” في صحيفة “لا فينيت”.
كانت تأمل أن يدرك “أندرو ليتون” من موقفها هذا أنه تحذير أو رفض مبطن، لكنه لم يبدُ متأثرًا أو مكترثًا برد فعلها بشعره الرمادي وعينيه السوداوين، كان مظهره الخالي من الحيوية والمتحفظ يجعل من الصعب على أي شخص قراءة أفكاره.
فجأة، طرح سؤالًا بدا غير متوقع، بصوته الرتيب الخالي من أي انفعال أو اهتمام بالعالم كما لو كان شخصًا لا علاقة له بشيء.
“هل يمكنني إجراء مقابلة معكِ في المستقبل؟ أنا من معجبيكِ.”
“إن كنتَ تتحدث عن قصة فارس الفجر، فأنا…”
“لا.”
جاء رده بلغة “ليانغ”، جافًا وصلبًا دون أي تغيير في نبرته، كأن كلماته قد رُسمت بخط مستقيم.
“أنا من معجبي الآنسة “آنيس بيلمارتييه”.”
وكأنما كان قد لحق بها فقط ليقول هذه الجملة، وما إن أتمها حتى أدار ظهره وألقى عليها تحية الوداع، ثم بدأ بالابتعاد.
بقيت “آنيس” وحدها في الطريق، مشدوهة وهي تنظر إلى ظهره المتواري، مشدودة بمشاعر مبهمة لم تستطع تفسيرها.
⚜ ⚜ ⚜
لم تكن “ماري” تخرج من غرفتها إلا نادرًا.
إذا لم يطرق أحد بابها لدعوتها للطعام، فإنها لا تخرج إلا للذهاب إلى الحمام، وحتى حين تفعل، لم تكن تتحدث كثيرًا كما اعتادت من قبل.
ورغم أن معدل كلامها بدأ يزيد قليلًا، إلا أنها كانت لا تزال تصاب بالذعر عند سماع الأصوات العالية، وكانت تعض شفتيها كلما رأت وجه “ليونارد” كما لو كانت تكتم دموعها، وأحيانًا كانت تبكي فجأة دون أي سبب واضح.
ولم تكن تبتسم أبدًا.
وكأنها نسيت تمامًا كيف ترسم حتى أضعف ابتسامة.
بالطبع، البالغون الذين كانت تراهم مؤخرًا – ولم يكونوا سوى “آنيس” و”ليونارد” و”مارين” و”ستيفانيا” – كانوا جميعًا يدركون تمامًا حالتها ويتفهمونها، ولم يجبرها أحدهم على التظاهر بالقوة أو يطلب منها التوقف عن الحزن.
لكن نظراتهم كانت تحمل الكثير من الأسى.
كانوا يراقبونها بحزن وهم يمسدون شعرها بصمت أو يحتضنونها، و”ماري” لم تكن صغيرة إلى الحد الذي يجعلها تجهل معنى تلك النظرات.
كانت الطفلة ذات العشرة أعوام، التي فقدت والديها في سن مبكرة لكنها نشأت في كنف أخ أكبر اعتنى بها بكل حب، تجد نظرات الشفقة هذه غريبة ومزعجة.
كانت تشعر بالحزن والألم، تبكي حين تتذكر أنها لن ترى شقيقها مجددًا، وتشعر بالضيق حين تستلقي تحت الغطاء في الليل، فتتذكر كيف قضت يومين ونصف مدفونة وسط أكوام الأغطية الثقيلة التي حاصرتها.
لكن إدراكها أن الآخرين يرون هذا الحزن بوضوح جعلها تشعر بمزيد من الانزعاج.
في بعض الأحيان، شعرت أن نظراتهم وكأنها تقول: “يجب أن تواصلي الحزن، لا يمكنكِ التوقف بعد.”
لذا، لم ترغب في مقابلة أحد، لم ترد أن تلتقي أعينهم، حتى رؤية “آنيس” أو “ليونارد” كانت ترهقها، إذ كان التفكير في توقعاتهم تجاه مدة حزنها أمرًا يؤلمها.
وهكذا، بدأت “ماري” تنعزل أكثر فأكثر في غرفتها.
كان هذا يثير قلق “آنيس” و”ليونارد”، لكن لم يكن في يدهما حيلة.
في النهاية، كان كل من في هذا المنزل قد فقد عائلته بالكامل، ومع ذلك لم يشعروا أنهم قادرون على مشاركة مشاعرهم حول هذه المأساة لم يكن بوسعهم إخبار “ماري”: “نحن أيضًا فقدنا أسرنا، لذا نحن نفهم ما تشعرين به.”
لذلك، اختارت “آنيس” أن تترك لها المساحة، لكن “ليونارد” كان لديه شيء يود قوله لها، ليس تعاطفًا أو مشاركة في الحزن، بل شيئًا آخر تمامًا.
شيء قد يكون أقرب إلى رغبته الشخصية، لكنه شعر أنه لا بد أن يقال.
في المساء، حين خرجت “آنيسس” ولم تكن قد عادت بعد، كان “ليونارد” جالسًا على الأريكة في غرفة المعيشة، يحدق في باب غرفة “ماري” المغلق، غارقًا في التفكير.
الصمت كان يملأ المنزل، لم يكن هناك سوى صوت عقارب الساعة.
أغمض عينيه للحظات، وكأنه يغفو قليلًا، فغمره ضوء باهر بألوان زاهية، رأى ثوبًا يتطاير بخفة واقتربت منه ضحكات مرحة كصوت كرات زجاجية تتدحرج.
كانت السماء زرقاء، والهواء مليئًا بعطر الأزهار.
“عمي! لقد صنعتُ لك تاجًا من الزهور في الحديقة!”
“ليونارد! هل يمكننا صنع تاج ملكي من الزهور؟”
انظري، حتى الآن، عندما أغمض عيني، لا يزال المشهد واضحًا تمامًا.
ابنة أخي، بابتسامتها المشرقة، وهي تحمل إكليلًا من الزهور النادرة، وتلك الفتاة الصغيرة من الجوار التي كانت تملأ سلتها بالأزهار البرية وتتساءل إن كان بإمكاني صنع تاج ملكي لها.
كان “ليونارد” يدرك جيدًا أنه كان يرى “ماري” بعيون متأثرة بصورة ابنة أخيه “لويز” كانت فتاة في مثل عمرها، مشرقة بالحيوية مثلها تمامًا ولو أنكر أنه كان يراها بهذه الصورة، لكان ذلك محض خداع للنفس.
نعم، لقد كان يعطف على “ماري” لأنها كانت تذكره بـ “لويز”، وهذا لا شك فيه حتى أنه كان أكثر ضعفًا أمامها من شقيقها “مارسيل”، الذي كان يتفانى من أجلها.
ولكن ما الذي جعلني أؤمن بالثوار؟ ألم أذهب لإنقاذ “لويز” و”فرانسوا”؟
كلما زاد الندم الذي يعتصره، بدأت “ماري” تتحول في نظره من مجرد فتاة تذكره بـ “لويز” إلى شيء آخر—وسيلة تكفير حيّة كان يعلم أن هذا خطأ، لكن مشاعره غلبت منطقه.
أحيانًا، كان لسانه يكاد ينطق باسم “لويز” أو “فرانسوا” وهو يخاطب “ماري”.
ولكن منذ أن فقدت “ماري” شقيقها “مارسيل”، لم يعد يراها كصورة عن “لويز” الصغيرة والمسكينة بل صار شخصًا آخر يشغل أفكاره أكثر منها.
نعم، كان يفكر في “آنيس”.
“آنيس”، التي فقدت شقيقها العزيز ولم يُسمح لها حتى بالبكاء في جنازته “آنيس”، التي اضطر هو نفسه لمنحها الإذن بالبكاء “آنيس”، التي فقدت والدها الوحيد، ولم تجد سوى النحيب بحرقة “آنيس”، التي بعد أيام قليلة فقط من ذلك، سمع منها كلمات “لا تبكِ بعد الآن”.
في الحقيقة، أفكاره في الآونة الأخيرة كانت دائمًا تدور في هذا الاتجاه كلما حاول تحليل مشاعره، وجد نفسه يعود إلى “آنيس”، وكأن الأمر كان حتميًا منذ البداية.
هل كان هذا ثمن الراحة التي وجدها في التهرب من الأسئلة التي لم يسألها والكلمات التي لم يقلها؟
عندما وصل إلى هذه النقطة في أفكاره، وقف ببطء من على الأريكة واتجه نحو غرفة “ماري”.
كان المنزل صغيرًا، وخطواته واسعة، فلم يستغرق الأمر سوى بضع خطوات حتى وصل إلى باب الغرفة الخشبي، الذي بدأ الطلاء عليه بالتقشر قليلًا.
طرق الباب بلطف، ثم استدار وأسند ظهره عليه وجلس على الأرض.
لم تأتِ أي إجابة من الداخل، لكن سُمع صوت حفيف خافت.
قال بهدوء: “إن كنتِ لا تستطيعين الخروج، فلا بأس سأتحدث معكِ من هنا.”
عندها توقف صوت الحفيف فجأة، وحلت محله خطوات خفيفة لحذاء منزلي يقترب من الباب.
لكنه لم يُفتح.
على أي حال، لم يكن من اللائق له الدخول إلى غرفة فتاة صغيرة، حتى لو سمحت له “ماري” بذلك.
وفي الواقع، لم يكن واثقًا من قدرته على مواجهتها مباشرة أثناء الحديث الذي كان ينوي قوله.
في قرارة نفسه، لم يكن متأكدًا مما إذا كانت كلماته ستساعد “ماري” حقًا أم لا وكان يعلم أن قول شيء غير مؤكد ليس صوابًا.
ولكن رغم ذلك، لم يستطع كتمانها.
ربما كان مجرد شعور بالواجب كراشد، بأنه يجب عليه أن يقدم لها شيئًا يتجاوز المواساة العادية.
وربما، كان ذلك مجرد اعتراف ضمني بذنب يحمله في قلبه.
ناداها بصوت هادئ وثابت:
“ماري…”
• نهـاية الفصل •
حسـابي انستـا [ i.n.w.4@ ].
التعليقات لهذا الفصل " 36"