الفصل التاسع: وعيٌ مُبالغ فيه
بعد انتهاء الدروس الصباحية، كان الوقت الذي يلي الظهيرة في مدرسة النبلاء التي ترتادها إميلين مخصّصاً للأنشطة الحرة. كان الفتيان عادةً يحضرون الدروس الاختيارية التي سجّلوا فيها، بينما تجتمع الفتيات في نشاطات اجتماعية لبناء الصداقات.
كانت إميلين تمضي بعد الظهر مثل بقية الفتيات، لكنها كانت تحضر دروساً إضافية عدة مرات في الأسبوع. في الحقيقة، كانت تشارك في الأنشطة الاجتماعية لأنها كانت واجب عليها، لكنها لم تكن تستمتع بالضوضاء أو التجمعات الصاخبة.
قالت وهي تهمّ بالمغادرة: “سأرحل إذن.”
فردّت إحداهن: “حسناً يا ليدي ديلزايير. عودي سريعاً لنتحدث عن الحياكة.”
تلقت إميلين وداعات لطيفة من صديقاتها وهي تتجه إلى قاعة المحاضرات. جلست في آخر الصف داخل القاعة الواسعة، ثم وضعت الكتاب السميك الذي كانت تحمله على الطاولة الخشبية.
لم تكن تحب الجلوس في المقدمة حيث تجذب الأنظار. وبما أنها طالبة تتصدر التصنيف دائماً، فقد كانت هدفاً لبعض الفتيان الذين يضمرون لها الضغينة. لحسن الحظ، كان معظم مدرّجات المدرسة مرتفعة، لذلك لم يكن الطلاب الأطول يحجبون اللوح عنها. وإن لم تكن مع صديقاتها، فهي تفضّل دائماً المقاعد الخلفية.
مسحت نظارتها وارتدتها، مركّزة بينما بدأت المحاضرة. كان الدرس مقرراً أن يستمر ثلاث ساعات كاملة. لكن قبل أن يمضي عشرون دقيقة على شرح المدرس الرتيب، بدأ الطلاب الذين يجلسون في الأمام يغفون واحداً تلو الآخر.
“يا للضعف.”
نظرت إليهم إميلين باستنكار ثم عادت لتدوين ملاحظاتها.
وفي خضم انغماسها بالمحاضرة، وقع الأمر. انفتح باب الصف فجأة بصوت قطع السكون. التفتت عيونها نحو مصدر الضجيج. فرأت شخصاً مألوفاً يغلق الباب بهدوء.
“أعتذر عن التأخر.”
انحنى باعتذار قصير قبل أن يمسح بنظره أنحاء القاعة. ثم التقت عينا إميلين بعيني زينون. أسرعت بتحويل وجهها بعيداً، وكأنها رأت ما لا ينبغي رؤيته. أعادت تركيزها على اللوح، لكنها أحسّت بوجود يقترب منها. وبعد لحظات، سُحب الكرسي المجاور لها بصوت احتكاك، وجلس زينون بالقرب منها.
في تلك اللحظة، وصل إليها عطر خفيف من الورد ينبعث من ملابسه. كان رقيقاً، لا يُلاحظ إلا لقربه الشديد منها.
“لماذا انت هنا؟”
قطّبت إميلين جبينها وحدّقت به. التفت إليها عندما شعر بنظرتها. تلاقى نظرهما في الهواء.
بادرت إميلين بالكلام بصوت منخفض قدر الإمكان: “لماذا تجلس بجانبي؟”
“ليدي ديلزايير، هل تظنين أن العالم يدور حولك؟”
“ها، متكبرة أنا؟”
“لم أجلس هنا لأنني أرغب بذلك. لربما كان عليك النظر حولك بدل التحديق باللوح فقط. هذا كان المقعد الوحيد المتبقي… بجانبك.” قالها زينون بانزعاج.
نظرت إميلين أخيراً حول القاعة الواسعة. كانت الغرفة مقسّمة إلى ثلاثة صفوف من طاولات واسعة تكفي لشخصين. وبعد تفقد كل مقعد، أدركت متأخرة أنه كان محقاً.
جميع المقاعد كانت مشغولة… عدا المقعد الذي بجوارها. حتى الطلاب الذين نادراً ما يحضرون كانوا نائمين على الطاولات.
جاءها صوته الساخر من جانبها: “كيف تشعرين الآن بعد أن تأكدتِ أنك فعلًا متكبرة يا ليدي ديلزايير؟”
“…لم أعلم أن كل المقاعد مشغولة.”
“إذن، بدون أن تتفقدي، افترضتِ أنني هرعت للجلوس بجانبك عمداً. من أين يأتيك كل هذا الثقة؟”
“أنت تتبعني طوال الوقت.”
“نصف ذلك كان محض صدفة. تماماً كما يحدث الآن.”
“حسناً، فهمت. إنها مجرد صدفة.”
تنهدت إميلين تنهيدة صغيرة. بدا لها أن الحديث مع زينون ترانسيوم يزيدها إنهاكاً. ربما كان ذلك بسبب الليالي المتواصلة التي قضتها في الدراسة. احتل الألم رأسها ببطء، وازدادت تعابيرها عبوساً.
شدّت قبضتها على القلم ونظرت إلى الأمام مجدداً. خلال الوقت القصير الذي تحدثت فيه معه، تقدمت المحاضرة كثيراً. والوقت لن ينتظرها. حاولت إعادة تركيزها، مصممة على تجاهل وجوده بأكبر قدر ممكن.
همس زينون: “ليدي ديلزايير، لا تبدين بخير اليوم…”
ازداد عبوسها ولم تجبه. ظنّت أنه سيتوقف بعد قليل إن تجاهلته.
“هل أنت مريضة؟ وتدرسين أيضاً رغم مرضك… هذا تفاني..”
تمتم وهو يحدّق بها. وما لبث صوته أن عاد.
“ليدي ديلزايير.”
“……”
“ليدي ديلزايير؟”
“……”
“إميلين ديلزايير.”
“…رجاءً.”
لم تستطع احتمال همهمته المتواصلة أكثر، فتكلمت أخيراً. كان صوتها بارداً كالمعدن.
“أغلِق فمك.”
كانت منزعجة أصلاً من الصداع، فانفجرت بخشونة غير معتادة. بدا على زينون الذهول للحظة، ثم أغلق فمه ببطء، وكأنه شعر بخيبة.
أخيراً، شعرت إميلين بأنها تستطيع التقاط أنفاسها مجدداً. كانت تستعد لقلب الصفحة في دفترها المكتظ بالملاحظات، حين حدث ذلك.
“حسناً إذن، إميلين.”
توقفت يدها. وانتقل نظرها من الكتاب إلى زينون.
“من الذي سمح لك بمناداتي باسمي…”
“لقد تحدثتِ إليّ بلهجة غير رسمية أخيراً، فظننت أنك بدأتِ تنفتحين علي.”
“أنظر، نحن لسنا صديقين. لا يوجد شيء اسمه انفتاح.”
“لماذا عدتِ لرسميتك من جديد؟ أعجبني حين كنتِ تتحدثين بعفوية.”
“أعجبك أنني أُهينك؟”
“أوه… كانت إهانة بالنسبة لك؟ يا لك من بريئة.”
“هذا مزعج، فلا تنادِني باسمي.”
“الأسماء وُجدت لتُستخدم. لدي حرية قول ما أشاء. أم أن فمي صار ملكك؟ منذ متى؟”
أسند زينون ذراعه على الطاولة وحدّق بها، غير آبه، يثرثر بلا حرج.
حدقت إميلين في فمه المزعج الصاخب باستهجان. ولو استطاعت لربطته وأغلقته تماماً.
“ماذا؟ أتريدينه؟ أستطيع أن أقدمه لك.”
قهقه وكأنه يستمتع باشمئزازها منه.
كاد أن يثير رغبتها في سد أذنيها. كيف يمكنه قول شيء فاحش بهذه البساطة؟ الفتيات اللواتي يدُرن حوله، هل يقعن في شراك هذه التفاهات؟ ربما يتجاهلن كلماته ويركّزن على وسامته فقط.
تجهمت إميلين بشدة. “أتمنى لو أستطيع العودة إلى ما قبل أن أسمع هذا.”
“هل تريدين سماعه مجدداً؟”
“لا، أريد أن أحشو فمك بالورق.”
عندها توقف ضحكه فجأة. ازدرت إميلين ببرود وعادت إلى تدوين ملاحظاتها.
وبعد وقت طويل قال بصوت خافت: “إن كنتِ منزعجة لهذا الحد، فيمكنك مناداتي باسمي أيضاً. وتحدثي بلهجة غير رسمية معي.”
لم تجبه. وبفضل صمتها، صمتَ هو أيضاً.
انتهت المحاضرة التي استمرت ثلاث ساعات، وغادر المدرس القاعة. شعرت إميلين بحرارة في رأسها بسبب التركيز الطويل. فتحت علبة نظارتها، وعندها قال زينون:
“أأنتِ تخلعين نظارتك؟”
كانت قد نسيت أمر وجوده بالكامل. ارتجفت قليلاً. جميع الطلاب غادروا، لكن زينون بقي في مكانه يحدق بها.
“…هل توجد مشكلة في ذلك؟”
“لا، إطلاقاً…”
كان يحدق بوجهها مباشرة، بنظرة شاردة. رمقته إميلين بنفاد صبر، ثم خلعت نظارتها ووضعتها في العلبة. نظرت حولها فرأت أن الطلاب الآخرين غادروا فور انتهاء الدرس، ولم يبقَ سوى زينون يراقبها.
‘هل ينوي ملاحقتي مجدداً…’
شعرت بالإحباط، وسارعت بجمع كتبها والنهوض. وما إن فعلت، قال زينون: “على فكرة، تبدين متعبة جداً اليوم…”
تجاهلت كلماته واستدارت. لكن فجأة، دار العالم من حولها. قبل أن تستوعب ما يجري، بدأت الرؤية تتلاشى، وجسدها يترنح. كأن وعيها انفصل عنها لحظة، مصحوباً بطنين حاد في أذنيها.
تألّمت وهي تلتقط أنفاساً مضطربة. ولحسن الحظ، بعد فترة قصيرة، تراجعت العتمة التي ابتلعت رؤيتها. عادت حواسها تدريجياً، بدءاً بالسمع.
“هل أنتِ بخير؟!”
كان أول ما سمعته بعد اختفاء الطنين هو ذاك الصوت القلق. بقي الصداع، فتمسكت بأي شيء قريب منها. شعرت بقماش دافئ، بحرارة تحته. تسرب إلى أنفها عطر الزهور والصابون، ممتزجاً برائحة سيجار خفيفة.
استعادت وعيها الكامل بعد لحظات. رمشت بذهول، تستوعب وضعها. أصابها الذهول بشلل مؤقت في عقلها.
“هل أنتِ واعية؟”
صوت جاء من جانبها… لا، من أسفلها تقريباً.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 9"