الفصل الثامن: حضوره…
“…والدي؟ عاد مبكراً اليوم.”
“نعم، لذا عليك تناول العشاء معه بعد أن تبدلي ملابسك.”
“حسنًا، سأفعل.”
صعدت إيميلين إلى غرفتها وبدّلت ملابسها بمساعدة خادمتها. ارتدت فستانًا منزليًا مزيّنًا بدانتيل أبيض، وربطت خصلات شعرها السوداء في ضفيرة واحدة، شاعرةً بخفة تتسلل إلى جسدها أخيرًا.
نزلت إيميلين الدرج الواسع للقصر، كتفاها مستقيمان وظهرها مشدود، وتعبيراتها هادئة قدر الإمكان. كانت تحافظ على اتزانها الداخلي، وتمنح كل من حولها قدراً متساوياً من اللياقة، مستعدةً لتكون محور مجتمع سريع التغيّر. كانت تعاليم والدها ثابتة لا تتبدل، وإيميلين التزمت بها دون شكوى، وقد نشأت على مسؤولية إرضائه.
عندما دخلت غرفة الطعام، رأت رجلاً ذا ملامح باردة يجلس على رأس المائدة.
“أبي، لقد وصلت.”
“إيميلين، تفضلي. اجلسي.”
اقتربت منه، حيّته، وجلست على الكرسي الذي سحبه لها كبير الخدم. وبعد أن ارتشف الدوق برنارد قليلاً من النبيذ، التفت إليها قائلاً:
“كيف تسير أمور المدرسة؟”
“على ما يرام.”
“آمل أنك لم تسبّبي أي مشكلات.”
“بالطبع لا. أنت أدرى بذلك.”
أومأ دوق ديلزاير، وقد بدا راضياً. ورغم أن لقاءهما أصبح متباعداً بسبب كثرة سفره، فإن حديثهما ظل محصورًا في هذه الكلمات القليلة. لم يكن ذلك ناجمًا عن جفاء، بل كان هذا هو نمط حياتهما… تجنّب الكلام الذي لا فائدة منه.
وخلال صمت العشاء، قال الدوق مجددًا: “الأسبوع المقبل سنزور والدتك، لذا احرصي على إفراغ جدولك.”
“حسنًا. كيف حالها مؤخرًا؟ تقلقني لأنها لم ترد على رسائلي.”
“هي تستعيد قوتها تدريجيًا. ستكتب لك قريبًا، فلا تقلقي.”
“هذا مطمئن.”
كانت والدة إيميلين، دوقة ديلزاير، تعاني من اعتلالٍ في صحتها منذ سنوات، وعاشت في مكان أكثر هدوءًا لطلب الشفاء.
أحزنتها هذه الحقيقة كثيرًا، لكنها لم تستطع فعل شيء. لطالما كانت أمها ضعيفة منذ طفولتها. ولذا، كلما خلا جدولهم من الالتزامات، كانوا يزورونها مرة كل أسبوع حاملين لها الزهور.
تابع برنارد: “سنحضر أيضًا حفلة موسيقية مساء ذلك اليوم، فتذكّري ذلك.”
“حسنًا. أبي… هل يمكن للسيدة لاريسا وعائلتها أن ينضموا إلينا في ذلك اليوم؟”
“عائلة لاريسا…؟ لا بأس. أرسلي لهم دعوة. يبدو أنك تنسجمين جيداً مع صديقاتك.”
“إنهم أهل طيبون يستحقون القرب.”
“حُسن اختيارك يسرّني، وأنا فخور بك.”
“هذا من توجيهاتك يا أبي.”
ابتسم دوق ديلزاير لحديثها المطيع. كان ضحكه المنخفض محسوبًا، رغم عمقه، ويشي بوقارٍ معتاد. وإيميلين، وهي تراه راضياً، بادلتْه ابتسامة خافتة.
ثم، وهو يتذوّق رضاه برشفة نبيذ أخرى، قال: “بالمناسبة… زينون ترانسيوم، الذي يدرس في نفس عامك…”
توقفت يد إيميلين، التي كانت تقطع طعامها، فجأة عند سماع الاسم.
“…نعم، يا أبي.”
“يبدو أنه صار يواظب على الدراسة هذه الأيام.”
“هل يفعل؟ أظنني رأيته في الصف بين حين وآخر… لكنه لا يترك أي أثر، فلم أولِه اهتمامًا.”
قالت إيميلين كلامًا خاليًا من الحقيقة. لم تدرك أنها أفصحت أكثر مما ينبغي إلا بعد فوات الأوان. عضّت شفتها بقلق داخلي.
لم تكذبت؟
هذا أول كذب تقوله لوالدها في أمر لا علاقة له بدروسها. خرجت الكلمات منها بعفوية، بلا وعي. لكنها لو قالت الحقيقة، لكان عليها الاعتراف بمشاعرها الصغيرة تجاه زينون ترانسيوم، والاضطراب الذي يعتريها كلما فكرت به.
ورغم قلقها من الكذب، لزمت الصمت. لم تستطع احتمال الاعتراف بأنها منشغلة بذلك الفتى المشاغب.
فقدت شهيتها، وظلت تحرك السكين على طبقها بلا هدف. عندها قال برنارد بنبرة متشككة:
“سمعت أن زينون ترانسيوم حصل على المرتبة الأولى في كل امتحاناتكم الأخيرة. هل يعقل أنك لم تلحظي وجوده؟”
“……”
تصلبت كتفاها، وكأن الجليد اجتاح ظهرها. وبعد لحظة صمت، بحثت عن إجابة هادئة.
“سمعت بأنني في المركز الثاني مؤخرًا… لكنني لم أعلم أن ابن المركيز ترانسيوم هو من تفوق.”
شعرت بنظرات والدها المتشككة عليها، فابتلعت ريقها. سريعًا قالت شيئًا تعلم أنه سيرضيه.
“كنت منشغلة جدًا بدروس الغناء التي نتلقاها في المدرسة… ربما انصرفتُ إليها أكثر من اللازم، وفقدت تركيزي في الدروس. يبدو أنه استغلّ تلك اللحظة.”
حدّق فيها دوق ديلزاير لحظة إضافية قبل أن يومئ، وقد قبل تبريرها. وبدت عيناه راضيتين عنها.
تنفست إيميلين بهدوء، مرتاحة.
لم يحصل هذا كله لماذا؟
زينون ترانسيوم… لماذا يقلب حياتها الهادئة رأسًا على عقب؟
“هذا العمر مثالي لتغذية فنونك. أحسنتِ. لا يوجد زوج لا تسره عروس تستطيع إمتاعه بعد يوم شاق.”
“نعم يا أبي. سأضع ذلك في الاعتبار.”
استعادت رباطة جأشها ، وابتسمت ابتسامة مطيعة.
واصل برنارد تناول طعامه، لكنه تمتم بضيق: “مع ذلك… حصوله على المرتبة الأولى… أتساءل عن الحيلة السخيفة التي استعملها هذه المرة.”
“…بلا شك.”
“فتى محظوظ. استغل انشغال ابنتي عن دراستها.”
عجزت إيميلين عن الرد. لقد عرفت قدرات زينون بنفسها، وقد هزمها بوضوح. لم تستطع مجاملة والدها هذه المرة… لم تستطع إنكار الحقيقة مهما رغبت.
من بين جميع المشاعر التي اعتادت كتمانها، كان إخفاء شعور الإهانة أصعبها. لم يسبق لها أن عرفت مرارة كهذه. وزينون ترانسيوم هو السبب.
“إيميلين، احرصي على الابتعاد عن ذلك السافل.”
“…بالطبع، يا أبي.”
بعدها أنهيا طعامهما دون حديث يُذكر. عادت إيميلين إلى غرفتها واستعدت للنوم.
جلست على سريرها تمشط شعرها بنفسها، عيناها معلقتان على كتاب الموسيقى الموضوع على الحامل. كان هذا جزءًا من التمثيل أمام الخادمة، وجزءًا آخر ضرورة للحفاظ على درجاتها في الموسيقى حتى لا يساورها والدها الشك.
أخذت الخادمة الفرشاة منها ثم ودعتها.
“طابت ليلتك، سيدتي.”
“ليلة سعيدة.”
ساد الظلام بعد أن أغلقت الخادمة الباب. تظاهرت إيميلين بالنوم، تنتظر حتى اختفى وقع الخطوات في الردهة. ما إن أعتاد بصرها على الظلمة حتى جلست ببطء. تحركت بخفة، حريصة على أن لا تُحدث شباشبها صوتًا، ثم سحبت الستائر لتحجب ضوء القمر.
بعد أن غرق المكان في العتمة، أوقدت المصباح على مكتبها، فانساب ضوء خافت على أشيائها. جلست بوجه جاد.
…سأستعيده.
المركز الذي انتزعه مني.
وبضوء مصباح صغير فقط، فتحت كتبها ودفاترها. وفي سكون الليل، راحت خربشة القلم تملأ الغرفة الهادئة.
وفي أعماقها، لم تستطع إلا أن تفكر…
بينما كانت هذه الغرفة الوحيدة في القصر التي لا تزال مضاءة في هذا الوقت، فلا بد أن هناك في إلڤارتو غرفة أخرى… يعمل فيها زينون ترانسيوم حتى الفجر أيضًا.
فلنرَ من ينعس أولًا.
تحديًا لخصمها الذي لا تراه، قلبت صفحة كتابها بعزم لا يتزعزع.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 8"