بعد وقت قصير، وبعد أن ودّع إيملين، عاد الخادم إلى جانب زينون.
“لقد غادرت الآنسة.”
“رأيت ذلك أيضاً.”
“…ما زال هناك الكثير من العمل المتراكم. هل ستكون بخير؟”
“أنا من تعجّل في شراء هذا المكان، لذا لا خيار لدي. يجب أن أنجزه.”
التقط زينون الملف الذي كان يراجعه قبل وصول إيملين.
بسبب الشراء المستعجل، تراكمت جبال من العمل، ولم يتلق بعد تسلّماً كاملاً للأمور. ولأن أولويته كانت سحب المقالات المتعلقة بإيملين، لم يكن مرافقته للوضع إلا أمراً لا مفر منه.
روبرت، خادمه القديم الذي رافقه حتى في دراسته بالخارج، تمتم بتذمر: “أخذوا أموالنا وتركوا لنا هذه الفوضى. يا لهم من متطفلين.”
“سأطرد ذلك اللعين.”
“نعم، يجب عليك. لم نعطهم حفنة نقود فحسب…”
أطلق زينون ضحكة مرهقة وهو يقلب الأوراق.
كان يدفع للصحفيين حتى يضمن ألا يظهر اسم إيملين ديلزاير إلى جانب اسمه في أي مقال مهما حدث.
لكن أحدهم خالف الاتفاق ونشر تقريراً كهذا دون علمه.
تنهد زينون بخفة. وبينما كان يقلب الأوراق، سأله روبرت بحذر: “أنهيت الحديث أسرع مما توقعت.”
“كان هناك شيء أردت التأكد منه، لكن حين رأيت أنني سأحصل على الإجابة بسرعة… خفت.”
زينون، وهو يقول هذا، بدا مرهقاً ومستنزفاً. وبعد لحظة، ظهر على شفتيه ابتسامة حزينة. كان الأمر يتكرر معه دائماً.
حتى في أسوأ حالاته، يكفي أن يتذكر لحظة واحدة من قبل أربع سنوات حتى تتغير ملامحه.
وبتعابير ثقيلة، أنهى أفكاره:
يبدو أنني كنت الوحيد العالق في الماضي.
م.م:تحسون في طرف ثالث سبب انهاء علاقتهم؟..بمنو تشكون؟
—
بعد مغادرتها مبنى الصحيفة، طلبت إيملين من السائق إيقاف العربة قبل أن تصل إلى المنزل.
ربما لأن لقاءها بزينون ترانسيوم أفسد صفاء ذهنها، كانت أفكارها تتشابك، وكانت بحاجة لتصفية رأسها.
بعد أن أعفت السائق، نزلت مع خادمتها وبدأت تمشي.
لم يكن قصر ديلزاير بعيداً، فقررت أن السير قليلاً سيساعدها.
أمسكت المظلة التي فتحتها لها خادمتها، وسارت بهدوء تتأمل الطريق.
كان كل ما حولها يتلظى بحرارة الصيف.
ثم توقفت فجأة.
على الجانب الآخر من الشارع، داخل زقاق ضيق، رأت شخصاً تعرفه جيداً.
هي أيضاً بدت وكأنها تعرفت على إيملين، فعقدت عينيها بدهشة.
“الآنسة ديلزاير؟”
كانت أول من اقترب منها.
“يا لها من صدفة أن أراك هنا، الآنسة ديلزاير.”
“أه… سررت برؤيتك، الآنسة لاريسا…”
حيّتها إيملين بقلب متوتر قليلاً.
وفي داخلها، أطلقت تنهيدة مأزومة: يا لي من غافلة… كيف لم أفكر أنني قد أصادف أحداً هنا؟
ربما لأن زينون أربكها، لم تكن تفكر بوضوح. والآن وهي ضمن فضيحة مرتبطة به، أي شخص تعرفه سيجرّ عليها أسئلة لا ترغب بها.
“الآنسة ديلزاير، هل أنت بخير؟ ملامحك شاحبة…”
“لا بأس… وأنتِ؟ من أين قادمة؟ تبدين وحدك.”
بادرت إيملين بتغيير الموضوع بسرعة.
ابتسمت لاريسا ابتسامة خجولة وقالت: “هناك مكتبة أمرّ عليها أحياناً.”
“مكتبة؟ أنتِ أيضاً؟ أنا أزور المكتبات كثيراً. كيف هي تلك المكتبة؟”
“أحب الذهاب إليها. واسعة، وتحتوي على الكثير من الكتب، وهادئة. آه… لكنها ليست في غاية النظافة.”
“أفهم.”
شعرت إيملين باهتمام طفيف تجاه المكتبة التي تحدثت عنها لاريسا.
لم تكن ترغب بالعودة لمكتبتها المعتادة، فهي لا تعلم متى قد تصادف زينون ترانسيوم هناك.
ليست مستعدة للتخلي عن مكتبتها المفضلة، لكن الأفضل الابتعاد عنها مؤقتاً.
لم تكن تتوقع أن لاريسا أيضاً محبة للكتب.
وبينما تفكر بذلك، شعرت بمسحة من الود. فلاريسا كانت تطلب منها توصيات كتب أحياناً، لذا الأمر لم يكن غريباً تماماً.
“والآنسة ديلزاير… من أين أنتِ قادمة؟ تبدين متعبة.”
“آه…”
حاولت تجنّب هذا السؤال تحديداً، لكنها اضطرت للإجابة.
“أتيت من مكتب الصحيفة.”
“بسبب ذلك المقال، أليس كذلك؟”
“نعم. كان مليئاً بالمعلومات الكاذبة. أعلم أنه بدا مفصلاً بما يكفي ليصدقه البعض، لكن…”
“لا، أنا أصدقك يا آنسة ديلزاير.”
وأثناء حديثهما، أمسكت لاريسا يد إيملين فجأة. رمشت إيملين بدهشة.
“…أحقاً تقولين ذلك؟”
“بالطبع. نحن نعرف بعضنا منذ زمن. وأنا أصدقك. ثم إن ذلك المقال لم يتضمن حتى صورة واحدة.”
“…شكراً.”
تفاجأت إيملين قليلاً من صدقها، لكن ابتسامة هادئة ارتسمت على شفتيها.
ابتسمت لاريسا أيضاً باطمئنان وقالت بنبرة مشرقة: “هل نكمل الطريق معاً؟”
“يسعدني ذلك.”
وبينما كانتا تسيران في طريق واحد تحت سماء صافية، واصلتا الحديث بخفّة.
“الآنسة ديلزاير، هل تعرفين الآنسة فندين؟”
“بالطبع.”
خطيبة زينون ترانسيوم.
كتمت إيملين الضيق الذي ارتفع في صدرها. كانت قد حاولت إخراج فكرة زينون من رأسها، لكن اسمه عاد يخترق أفكارها مجدداً.
“تصرفاتها مؤخراً غريبة. سمعتي أنها تواصلت بنفسها مع الآنسة هنبرتون. وقبلها، أرسلت رسالة إلى الآنسة فيليا.”
“الآنسة فندين… تواصلت مع فيليا وهنبرتون؟”
تقلصت عينَا إيملين قليلاً.
الفتاتان المذكورتان كانتا على علاقة وثيقة بها، وينتمين إلى دائرة آل ديلزاير.
أما الآنسة فندين، ابنة أحد أبرز داعمي آل ترانسيوم، فتنتمي للمعسكر المقابل تماماً.
فلماذا تقتحم فجأة دائرة إيملين؟
“هذا غريب فعلاً.”
“أليس كذلك؟ ليس هذا فحسب، بل ألحت كثيراً لتُدعى إلى الحفل القادم في قصر الآنسة هنبرتون.”
“حقاً…؟”
كادت إيملين تتنهد.
إن حضرت خطيبة زينون الحفل، فمن الطبيعي أن يحضر هو معها.
وبالكاد تخلّصت من لقاء اليوم معه، وها هو القدر يلوّح بلقاء جديد.
‘هل يكون زينون من طلب منها هذا؟’
مع تصرفاته الأخيرة، قد يكون هذا ممكناً جداً.
أهو بائس؟ أم مثير للشفقة؟ لا… هو مثير للاشمئزاز. يستخدم خطيبته كما لو كانت أداة.
وتساءلت إيملين في داخلها:
ما مدى سذاجة تلك الفتاة كي لا تفهم شيئاً؟
أيعاملها زينون كما عاملها هي ذات يوم؟
أيعطيها الكلام نفسه؟ الوعود نفسها؟ تلك الكلمات التي بدت وكأنه سينتزع النجوم لأجلها؟
“إذن، اضطرت الآنسة هنبرتون لتوجيه الدعوة لها في النهاية؟”
“نعم، كانت مُلِحّة للغاية.”
“فهمت.”
أجابت إيملين باقتضاب. كانت منهكة بالفعل من سلسلة أحداث اليوم. ذكر اسم زينون وحده كان كافياً لاستنزاف ما تبقى من طاقتها.
‘ربما يجب أن أتزوج الكونت رينييه بأسرع وقت.’
رغم كل هذا الاحتقار الذي تكنه لزينون، لا تزال تفكر فيه مراراً.
ربما التعجيل بالزواج هو أفضل طريقة لتخليص نفسها منه نهائياً.
“لأنني اشتقت إليك. ولأنني أردت التأكد.”
حين يحدث ذلك، سيتوقف عن تمتمة الكلمات التي لا معنى لها.
مع ذلك، ما الذي كان يحاول التأكد منه بالضبط…؟
وأثناء حديثها الخفيف مع لاريسا، وصلت إيملين إلى المنزل.
بعد توديع لاريسا، دخلت القصر بخطوات متعبة.
وفي اليوم التالي، تماماً كما وعد زينون ترانسيوم، نُشر في الصحيفة بيان يوضح أن المقال السابق كان مبنياً على معلومات ملفقة.
وحين تأكدت إيملين من ذلك، بدأت بالاستعداد للخروج.
فحتى بعد انتهاء المشكلة، بقي أمر آخر يتوجب عليها فعله: لقاء خطيبها لمناقشة ما حدث.
التعليقات لهذا الفصل " 58"