نزلت إيميلين من العربة ثم التفتت خلفها.
“لقد قضيت وقتا جميلا اليوم.”
ورغم وجود زائر غير مرغوب فيه، ابتسمت وهي تبتلع الكلمات التي كادت تفلت من لسانها.
“كان يوما ذا معنى بالنسبة إلي أيضا. تفضّلي بالدخول، فنسيم المساء بدأ يبرد.”
“سأفعل. عد إلى منزلك بسلام يا كونت رينييه.”
بعد تبادل التحيات، استدارت إيميلين دون تردد.
وبينما كانت تعبر البوابة وتمشي قليلا، وصلت إلى مسامعها أصوات ابتعاد العربة.
امتد أمامها الطريق المضاء بمصابيح ذات وهج برتقالي خافت على طرفي الشارع الغسقّي. أطرقت وهي تسير بهدوء في الممر الممتد من البوابة.
رائحة ورود الصيف التي حملتها النسمات راحت تلامس حواسها بإلحاح.
وللحظة، ذكّرتها برائحة مشابهة امتزجت بدخان السيجار… ذكرى ليست بعيدة، لقاء المكتبة، لا لحظة من زمن غابر.
وبينما كانت تكفهر ملامحها أمام هذا الخاطر المزعج، لاحظت شخصا قادما من الاتجاه الآخر فتوقفت.
“آه… إيميلين. يبدو أنك عدتِ الآن فقط. سمعت أنك خرجتِ اليوم مع الكونت رينييه.”
“…نعم، أخي. وأين أنت ذاهب؟”
“لمجرّد نزهة صغيرة.”
تأملت إيميلين أنتوني بثوبه الخفيف، وهو يربّت على كتلة الفراء بين ذراعيه بابتسامة رائقة. لكن القط الهادئ الظاهر بدأ فجأة يتململ ويحاول الإفلات.
“أوه…”
وحين حاول أنتوني تثبيته، لم يحصد سوى خدوش قبل أن يتركه أخيرا.
هبط ميل على الأرض، نفض فراءه، ورماه بنظرة ساخرة قبل أن يبتعد متكبّرًا.
تمتم أنتوني بضيق: “أنا جزء من هذه العائلة أيضا، ليس من المعقول معاملتي هكذا.”
“ميل لا يحبني أحيانا أيضا.”
“لكن أنتِ التي أحضرته للبيت. على الأقل يتعامل معك بلطف.”
ضحكت إيميلين بخفة. لم تستطع الاعتراف بأن مزاج القط هو الذي يحدد مصير علاقتها معه، وأنها كثيرا ما شعرت أنها أدنى منه في ترتيب المنزل.
كانت قد أخذت هذا الهر الشارد شفقة، لكنه الآن يتصرّف وكأنه المالك الحقيقي للبيت.
“…ربما لأنه قضى وقتا أطول معي، فاعتاد علي. أما أنت فلم يمض على عودتك للمنزل إلا قليل، لذلك يجدك غريبا. مع الوقت ستتفاهمان.”
وقف ميل على مقربة من إيميلين. ورغم يقينها أنه سيتجاهلها، مدت يدها نحوه.
والمفاجأة أنه اقترب منها طوعا. شمّ يدها بتركيز جعلها تميل برأسها باستغراب.
ثم دار حولها عدة مرات، يتفحصها كما لو أنه يتأكد من هويتها، قبل أن يعود ليدفع رأسه في يدها، يخرخر ويداعبها بحنان.
تجمّدت إيميلين وكأن شيئا غريبا لمسها.
ما الذي دهاك فجأة؟
القط الذي لم يُظهر أي مودة سابقا، انقلب الآن كائنا متلهفا للاهتمام، حتى إنه استلقى على ظهره واحتك بها متدللا.
مرتبكة، حملته بين ذراعيها، ولا تزال غير مصدقة هذا التحول.
النظرات التي كانت تلقيها غيرة على أنتوني، أصبحت الآن من نصيبها. بدا المشهد مضحكا.
حينها قال أنتوني: “بما أننا التقينا، ندخل معا؟”
“حسنا.”
وبينما تداعب فراء ميل الناعم، تبعت أخاها عائدة إلى القصر.
“كيف تسير أمورك مع الكونت رينييه؟”
“على ما يرام.”
“جيد. هل تذكرين مرشح الخطوبة السابق؟ ابن مركيز هانوفر الأكبر. أتذكر أنك وجدته غير مناسب تماما. أنا من اقترح الكونت رينييه على والدي.”
“…سمعت أنه درس في الجامعة بفترة وجودك هناك.”
“نعم، كنا مجرد معارف، لا أكثر. لكنه مناسب، فظننت أنك ستعجبين به. شخصيا وجدته مزعجا قليلا.”
رفع أنتوني حاجبه وهو يثرثر.
“على كل حال، ما دام يرضيك فهذا المهم. يبدو أنه اختيار أفضل من ذلك الرجل.”
“…”
أجابت إيميلين بابتسامة صامتة.
لسنوات كانت تسمع العبارات ذاتها من والدها وأخيها.
زينون ديلزاير كان يلهو بك فقط.
مشاعرك نحوه كانت مجرد تمرّد.
كانوا يرون أن تركيزها على دراستها وأحلام الجامعة جعلها تختار زينون لأنه الأكثر استفزازا.
وحتى هي لم تكن قادرة على تحديد حقيقة مشاعرها حينها، لكن عائلتها اختارت المعنى عنها، ووضعته في فمها.
“صدقت… كنتُ حمقاء وقتها.”
تمتمت كأنها تحدث نفسها.
لم تكن تصدّقهم تماما، لكنها أدركت لاحقا أن الاعتراف لهم يمنح قلبها فرصة للاختباء من الألم.
حين تتبنى روايتهم، تسلم من الجروح، وتحفظ كرامتها.
وإن أقنعت نفسها بما يقولونه، فسيصبح زينون مجرد عابر خافت في ذاكرتها.
كانت تداعب ميل شاردة، متجاهلة النظرة الغريبة في عيني أنتوني.
—
في تلك الليلة، جلس رجل على أريكة واسعة، يلتقط إحدى الصحف المتراكمة على الطاولة ويقلب صفحاتها.
“زينون ديلزاير…”
ضيّق ماثياس عينيه باستغراب خفيف، كأن أمامه مسألة لا ترضيه. كان شعره الداكن المبلل، بعد استحمامه، ملتصقا برأسه قبل أن يدفعه بكفه الواسعة إلى الخلف.
تصفح صفحات الشائعات، حيث يظهر اسم زينون كثيرا في عناوين مثيرة. ورغم أنه نادرا ما يهتم بهذه التفاهات، إلا أن الأمر مختلف هذه المرة.
كان يشك بوجود علاقة بين خطيبته وزينون، ذاك الذي لا ينفك يجر وراءه الفضائح.
“لا شيء…”
بعد أن قلب عدة صحف قديمة، ألقى بها على الطاولة، فلم يجد أي خبر يربط بين إيميلين ديلزاير وزينون.
لو وُجدت فضيحة كهذه، لهزّت العاصمة. بل كان ماثياس، وهو غير المهتم بالثرثرة، سيعرف بها.
ومع العداء الطويل بين عائلتي ديلزاير وترانسيوم، كان غيابها مفهوما.
“إذن ما الذي كان يقصده؟”
استعاد لحظة ظهور زينون خلال موعده مع إيميلين. ورغم أن زينون بدا كأنه يستهدف ماثياس، كانت عيناه تتسللان إلى إيميلين كلما غفلت عنه.
مفارقة عجيبة… كان المفترض أن يكونا عدوين لدودين، ومع ذلك كانت نظرات أحدهما تحوي شيئا يشبه الحنين.
طبعا، خطيبته تلك بدت كأن وجود زينون يثير اشمئزازها.
“ومع ذلك… هناك أمر غير مريح.”
ما يجمعهما، كما يعتقد، مجرد دراسة في مدرسة النبلاء قديمة، ومحاولة شراكة تجارية فاشلة بين العائلتين. فإن كان زينون يحمل مشاعر من طرف واحد…
ضحك ماثياس بسخرية من الفكرة. ثم بدأت تعابيره تتغير ببطء.
زينون، بسمعته الفوضوية وافتقاره للانضباط، لم يكن خصما يستحق القلق. ولا أحد سيصدق أن إيميلين الرصينة قد تختاره.
والعداء بين العائلتين لا يزال مشتعلا، وأي ارتباط بإسم زينون سيشوه سمعتها.
ومع ذلك… كان هنالك ما يزعجه:
“أنشطة زينون التجارية في الخارج…”
لماذا لا توجد معلومات واضحة عنها؟
كان يُشاد به في تلك البلاد كرجل أعمال واعد، وتورط في صفقات غامضة، وحصل على علاقات قويّة، وحتى تم احتجازه مؤقتا عند عودته من قبل العائلة الملكية نفسها.
لماذا حاولت عائلة ملكية أجنبية احتجاز زينون؟ ولماذا احتاجوا إليه أصلا؟
التقط ماثياس صحيفة أخرى، يبحث في المقالات التي نُشرت في فترة عودة زينون. وبينما يقلب الصفحات، توقفت يده فجأة.
كان المقال يقول:
[العائلة الملكية في بيتينارد تقيم علاقات مع شركة دفاع ناشئة
يُقال إن التبادل يتم تحت إشراف الحرس الملكي، والتفاصيل سرية.
ويُذكر أن الشركة الجديدة على صلة بدولة لونا ليني، بما يشير إلى احتمالات تعاون جديدة بين البلدين…]
“…لا يعقل.”
ضحك ماثياس ضحكة جافة.
كان التوقيت مطابقا تماما لفترة دراسة زينون في الخارج.
رغم كثرة إشاعات الفضائح حوله، كانت سنواته الأربع تلك تمثل فراغا غامضا.
ولو كانت له صلات فعلية بعائلة ملكية، لما بقي العداء بين الدوق ديلزاير والمركيز ترانسيوم على حاله.
وإن كان الدوق نفسه لا يعرف حقيقة زينون… فهذا يعني أنها مخفية عمدا.
لكن المهم الآن: سمعة زينون الملطخة ما زالت تهدد سمعة إيميلين.
هز ماثياس رأسه، وأطفأ المصباح. التحقيق في صفقات زينون سيستغرق وقتا، لكنه شعر ببعض الارتياح: لا فضيحة تجمعه بإيميلين.
—
وجاء الصباح بعد ليلة طويلة.
استيقظ ماثياس مبكرا، وتجهّز، ثم جلس يشرب شايه وهو يقرأ صحيفة جديدة قُدمت إليه.
وما إن وقعت عيناه على العنوان الرئيسي، حتى تجمّد.
ضحكة ساخرة انطلقت من بين شفتيه، وعيناه الذهبيتان تقرآن بحدّة:
[العلاقة العاطفية الجديدة لزينون ديلزاير تكشف: إيميلين ديلزاير! هل ستكون هذه بداية مصالحة بين العائلتين؟]
التعليقات لهذا الفصل " 55"