مرّت ثلاثة أيام تقريباً منذ عودة أنتوني.
ورغم انشغاله، خصّص بيرنارد وقتاً ليعرّف وريثه الجديد، أنتوني، على الأعمال والمشاريع التي كان يتولى إدارتها.
أما إيميلين، رغم كونها ابنته أيضاً، فكان يمرّ يوم كامل دون أن تراه. يأخذ أنتوني معه نهاراً ثم يغادر مجدداً لأعماله مساءً.
ونادراً ما كانوا يتشاركون وجبة واحدة. والحقيقة أنّ إيميلين كانت تجد في ذلك نوعاً من الراحة؛ فغيابه أفضل من وجوده.
“…مقزّز تماماً.”
جلست عند النافذة، تحدّق ببرود إلى بيرنارد وأنتوني وهما يصعدان العربة معاً.
لم تستطع نسيان الأشياء الصادمة التي اقترفها والدها في الماضي. كان قد ساهم في تحطيم أحلامها، ووبّخها بقسوة، وارتكب أفعالاً مشينة لا تُعدّ.
والمثير للسخرية أنه رغم كل ذلك… ما زالت حياته هادئة بلا اضطراب.
أنتوني، الابن البار، كان يتجاهل كل ما فعله والده. أما والدتهم، غير العارفة بشيء، فكانت تواصل فترة نقاهتها كالمعتاد.
وبوقاحة لا مثيل لها، كان بيرنارد ديلزاير يأخذ إيميلين لزيارة والدتها من حين لآخر.
“حتى أنا أشعر بالذنب… كيف له أن يبقى بلا خجل؟”
كانت المرارة والحزن يعصران قلبها، لكنها كانت عاجزة تماماً أمامه.
وبينما تراقب العربة وهي تبتعد، اقتربت منها إحدى الخادمات.
“آنستي! الكونت رينييه أرسل لك هدية.”
“هدية؟”
سألت بلا اهتمام، وعينيها ما تزالان على المشهد خارج النافذة.
أما الخادمة فكانت تكاد ترقص من الحماس، وكأن الهدية لها شخصياً.
“أرسل قلادة ياقوت تتناسب تماماً مع لون عينيكِ يا آنستي.”
عندها فقط التفتت إيميلين. لم تجد الهدية مثيرة، لكنها لم تملك سبباً لرفضها.
“حسناً… أحضريها.”
عندما سُلِّمت لها العلبة، فتحتها دون تردد.
انفرج الغطاء المخملي ببطء، كاشفاً عن قلادة ياقوتية متألقة.
شهقت الخادمة بإعجاب وهي تتأملها.
“يا إلهي… تناسب عينيك تماماً يا آنستي. الكونت رينييه لا بد أنه أدرك الذكاء المنعكس في عينيك.”
ضحكت إيميلين بخفة، ولم تستطع منع نفسها. وعندما نظرت إليها الخادمة باستغراب، اكتفت بابتسامة عابرة.
لكن الحقيقة… كانت مجرد سخرية.
“الذكاء في عيني؟ هراء.”
ماثياس رينييه كان رجلاً ينظر إلى إيميلين باستعلاء.
لو لم يكن يحتقرها، لما أظهر ذلك الاشمئزاز حين ذكرت له اسم كتاب أحبّته بصدق.
دفعت العلبة نحو الخادمة وقالت:
“القلادة جميلة. هل أرسل معها رسالة؟ لا يمكن أن يكون قد اكتفى بهذا.”
“لم تصل أي رسالة يا آنستي. سألت الرسول لأن الأمر بدا غريباً، لكنه قال إن هذه هي الهدية فقط.”
رمشت إيميلين بدهشة. يا له من برود. ثم ضحكت بخفوت.
نهضت من مقعدها وقالت:
“لا بأس… سأرسل له هدية شكر غداً.”
قالت الخادمة بحماس:
“إذا أخبرتني بما ترغبين بإعداده فسأجهزه فوراً.”
“أوه؟ لابأس… احضري أي إكسسوار له نفس لون القلادة.”
“أي إكسسوار؟”
“نعم، أي شيء.”
“هل أكتب له بطاقة أيضاً؟”
“اكتبيها أنتِ. مجرد كلمات شكر بسيطة.”
ابتسمت إيميلين ابتسامة ناعمة.
فبما أنه أرسل لها هدية باردة بلا روح، فلا داعي أن تُظهر له أي اهتمام أكبر.
وبعد أن غادرت الخادمة مسرعة، تناولت إيميلين القلادة.
تألقت الجوهرة تحت ضوء الثريا.
وهي تحدّق بها، قالت بلا تعبير:
“إنها جميلة.”
جميلة… لكنها بلا معنى.
زينة بلا روح، تستحق ردّاً بلا روح أيضاً.
ارتدت القلادة بسهولة، وخفّ صوت ضحكة ضعيفة في حلقها. بدا لها كل ذلك مناسباً تماماً… هذا النوع من البرود يشبه علاقتها بماثياس.
انعكس وجهها في المرآة… فاتن، بارد، وكأنه دمية زجاجية.
“يا للسخرية… والعبث.”
مهما كانت الهدية ثمينة، فلن تضاهي شيئاً قديماً مستهلكاً تلقّته يوماً… شيء من ماضٍ مؤلم حاولت محوه مراراً.
يا للمفارقة… إيميلين ديلزاير لم تكن سوى كتلة تناقضات.
—
التقت إيميلين بـ ماثياس حاملة الهدية التي أعدّتها الخادمة.
وبعد أن قرّرا احتساء الشاي أولاً، قدّمت له صندوقاً مغلفاً بعناية.
“كونت رينييه، وصلتني هديتك. وهذا تعبير صغير عن امتناني.”
لمعت عيناه الذهبيتان نحو الصندوق للحظة، ثم استقرتا على القلادة حول عنقها.
“لم أقدم لك هدية لأتلقى واحدة، لكنني أقبلها بامتنان. القلادة تليق بك تماماً.”
“عندما وصلتني القلادة… بقيت أتأملها طويلاً لجمالها.”
ابتسمت بلطف، فبادلها ابتسامة دافئة.
فتح ماثياس الهدية أمامها.
كانت الأساور المخصّصة للأكمام… مرصّعة بأحجار زرقاء.
شعرت إيميلين بإحراج بسيط.
“هذا كثير قليلاً بالنسبة لطبيعة علاقتنا…”
فالهدية تحمل دلالة رومانسية واضحة.
قال ماثياس بلطف:
“الأحجار من النوع نفسه الذي يزيّن قلادتك.”
تفاجأت باختيار الخادمة، لكنها أخفت ذلك بسرعة. كانت قد قررت أن تحبّه، فلا حاجة لابتكار نفور إضافي.
“أعتقد أنها ستناسبك. أتطلع لرؤيتك ترتديها في لقائنا القادم.”
“بالطبع. أعجبتني كثيراً.”
احتسيا الشاي وتبادلا حديثاً خفيفاً. ثم خرجا من المقهى.
“هل ترغبين بالسير في الحديقة المقابلة؟”
“فكرة لطيفة.”
وضعت يدها على ذراعه، وسارا معاً.
كانت الحديقة مزدحمة بسبب الموسم الاجتماعي، والناس متجمعون هنا وهناك.
وبينما كانت إيميلين تفكر أن المكان اختيار جيد للظهور، توقفت فجأة.
عينــاها اتسعتا بدهشة… لأن هناك، في البعيد، رأت شخصاً تعرفه.
“آنسة إيميلين؟”
“كونت رينييه… هل يمكن أن نذهب إلى مكان آخر…”
قبل أن يتساءل ماثياس عن سبب اضطرابها، كان ذلك الشخص قد اقترب منهما.
“أوه… من لدينا هنا؟”
وبمجرد أن رأت ملامحه، اسودّ وجهها باليأس.
كان يرتدي ملابس خفيفة كمن خرج في نزهة، وشعره الأشقر مصفف بإهمال جميل، أما عيناه الخضراوان فكانتا تلمعان تحت الضوء.
اقترب بخطوات واثقة، وابتسامة مشرقة.
“لم أتوقع رؤيتكما هنا. مفاجأة لطيفة. رغبت منذ فترة بالتحدث إليك، كونت رينييه.”
والمفاجئ… أنه كان يتحدث إلى ماثياس وليس إليها.
حدق به ماثياس بشك:
“تقصدني؟”
“نعم، كونت رينييه.”
ابتسم زينون ومد يده للمصافحة.
كان تصرفه طبيعياً لدرجة أن ماثياس صافحه دون تفكير.
أما إيميلين، فكانت عاجزة عن الكلام. لم تصدق أن هناك من هو بهذا القدر من الوقاحة.
بعد المصافحة، التفت زينون إليها… ابتسامته ناعمة، مزعجة، وخطيرة.
“سمعت أنكما مخطوبان… يا لها من مصادفة، ليدي ديلزاير.”
أدار جسده نحوها بالكامل، متجاهلاً ماثياس.
ترددت نظراتها، فيما كان ينظر إليها بعينين تلمعان بتودد مقصود تماماً.
مد يده… يقصد تقبيل يدها.
“نعم… نلتقي مجدداً يا لورد ترانسيوم.”
تجاهلت يده… واكتفت بالكلام. لم تجرؤ أن تعطيه يدها، خشية ما قد يفعله أمام ماثياس.
خفض زينون بصره نحو يده الفارغة… ثم ضحك بهدوء.
وكأنه لم يُحرَج إطلاقاً، سحب يده وعاد لتلك الابتسامة المشرقة التي تلمع تحت الشمس.
“بما أننا التقينا صدفة… هل يزعجكما أن أنضم إليكما قليلاً؟”
التعليقات لهذا الفصل " 53"