خرجت إيميلين في النهاية من المكتبة وهي تحمل الكتاب الذي قدّمه لها زينون.
كانت أفكارها مضطربة.
وما إن صعدت إلى العربة المنتظرة قرب الطريق حتى خفّضت بصرها نحو الكتاب.
“مُغتصِب العالم الكامل…”
هكذا كان عنوان الكتاب الذي قدّمه لها.
مرّرت عينيها على العنوان، ولم تستطع انتزاع بصرها عنه لوهلة، كأن شيئاً يجذبها. أخذت نفساً طويلاً دون أن تشعر.
مُقتحم يعبث بعالم تحكمه القيود والقوانين، فيخلخل نظامه ويهزّ كل شيء بلا رحمة… مُغتصِب عالمي المثالي.
مرّت العربة تحت جسر حجري، والتهمها الظلام لثوانٍ فتوارى العنوان عن ناظريها.
وحين عاد الضوء، لم تعد تنظر إلى الكتاب.
بين شوارع إلفارتو التي تفيض بورد الصيف، أغمضت إيميلين عينيها وهي تحتضن ذلك الإهداء الغامض.
تردّد صوت ما من عمق ذاكرتها، كأنه تسجيل قديم يعود ليقتحم وعيها قبل أن تتمكن من صده.
“كيفن شوتريمر… أليس ناقداً لاذع اللسان لا يرحم أحداً؟ غريب أنك تحبين كاتباً يشبهك في طباعه… لا، لا أسخر. فقط… أظن أنني بدأت أحبه أيضاً. كيفن شوتريمر. أنت تحبينه، أليس كذلك؟”
رنّ الصوت البهيج وكأنه ينتمي إلى زمن مضى.
استعادت الذكرى لحظة، ثم دفعتها بعيداً.
—
طوال أيام عدّة، ظلّت إيميلين تقلّب صفحات الكتاب الذي أعطاها إياه زينون ترانسيوم.
كانت النوايا الملتبسة وراء الهدية تُثقِل قلبها، فتبقى الأسئلة معلّقة وتبطئ قراءتها.
“ما الذي يقصده بهذا؟”
كانت تفكّر يومياً بالرجل وبالشخص الذي يفترض أنه أهدى الكتاب إليه، بينما تحدّق في الصفحات المكتوبة كلها بلغة أجنبية.
ورغم أنه غير مترجم، فإن براعـتها في اللغات جعلت قراءته يسيرة.
غير أن الجهد الذي بذله زينون للحصول على إصدار جديد لكاتبها المفضل من الخارج بدا غريباً جداً. ولم يفارق ذهنها القلق حول هوية صاحب الهدية الحقيقي.
لماذا شعرت بأن وراء ذلك مخططاً ما؟
وحين أثقل الصداع رأسها، طوت الكتاب أخيراً. عندها فقط التقطت أذنها صوت عجلات عربة تقترب.
التفتت نحو النافذة.
كانت عربة بيضاء تشق الطريق نحو قصر ديلزايير بسرعة.
راقبتها بصمت، ثم أغلقت النافذة بنفور، وابتعدت دون اكتراث.
أدخلت الكتاب ذي العنوان المشؤوم إلى زاوية بعيدة من مكتبتها وغطّته بقطعة قماش.
فمهما كانت جنسية الكاتب، فهذا مملكة يحكمها ملك ذو سلطة مطلقة. وتلقّي كتاب يحمل هذا العنوان بحد ذاته أمر غير مريح، خصوصاً وهي ابنة شقيق الملك.
“مع أن محتوى الكتاب ينتقد سخافات المجتمع أكثر مما يناقش فكرة الاغتصاب السياسي… إلا أن العنوان وحده كافٍ للحذر.”
كانت نوايا زينون في الحصول على هذا الكتاب لغزاً لم تتوصل لحلّه.
وحين جلست على الأريكة محاولة تهدئة ذهنها، وصلها خبر غير متوقع.
“ما الأمر؟”
“السيد يطلب حضورك. السيد الشاب عاد.”
“…عاد أخي؟”
انعقد حاجبا إيميلين دون إرادة منها، لكنها سرعان ما أصلحت تعابير وجهها.
نهضت ومشت نحو الباب.
“حسناً، قادمة.”
رافقت الخادمة نحو غرفة الجلوس. ومن بعيد، وصلها صدى ضحك صاخب.
أغمضت عينيها لحظة قبل أن تدخل بابتسامة مهذّبة.
“وصلت يا أبي.”
حيّت دوق ديلزايير أولاً، ثم التفتت نحو الأريكة الأخرى حيث جلس أنتوني.
رفع رأسه نحوها وهو مستلقٍ بلا مبالاة وقد عقد ساقاً فوق أخرى.
“إيميلين، مضى وقت.”
“نعم، أخي. مضى وقت. كان ينبغي أن تخبرني بتخرجك. كنت سأأتي.”
قالت ذلك بلطف وهي تجلس مقابله.
كان قطّ صغير قد تبعها دون أن تشعر، وجلس بجانبها على الأريكة.
ضحك أنتوني بخفّة، وقال: “لا داعي لذلك. كثيرون حضروا دونك.”
مدّ يده نحو القط، ميل، ولكن الأخير ضربه بمخلبه بتذمر.
تجمّد أنتوني لحظة ثم رمقه بنظرة ضجر.
“يقولون الحيوانات تشبه أصحابها، لكن ميل لا يشبهك أبداً، أليس كذلك؟”
اهتز قلب إيميلين لكلماته.
هناك شخص، على النقيض تماماً من أنتوني، قال لها يوماً إن ميل يشبهها.
عاد أنتوني للحديث مع والده وكأن شيئاً لم يحدث.
“أخبروني أنني حصلت على أعلى الدرجات. كما توقعت، أبي، فأنا ذكي مثلك.”
“بلا شك. وسيُسجّل اسمك قريباً في قائمة المتخرجين الفخريين من جامعة روبيلك.”
“سمعتُ ذلك. بعد يومين سينتهون منه.”
“جيد، ينبغي أن أزور المكان لأراه بنفسي. يا لابني المشرّف.”
تعالت الضحكات.
جلست إيميلين بصمت، تهمس بين حين وآخر: “مبارك لك”، وهي تبتسم بخفوت كمن يسمع من وراء باب.
روبيـلك… الجامعة التي تخرج منها أنتوني.
نظرت إليه بالكثير من الغصة والغيرة.
ذلك الحلم الذي كان يسكن قلبها، صار حقيقة أمامها ولكن لشخص غيرها. لشخص حرمها إياه.
“لولا أن أخي تدخّل…”
لم تستطع حتى خوض الاختبار.
بينما هو تخرّج بتفوّق، ينعم بثناء الأب الذي لا ينتهي.
كرهت إيميلين أنتوني.
كانت تعلم أن الحلم أصلاً لم يعد بوسعها الوصول إليه، ولكنها رغم ذلك كانت تمقته.
ومع هذا، أُلقي اللوم عليها وحدها أمام الجميع.
هي المخطئة دائماً.
كتمت مشاعرها بكل ما تملك.
قبضتاها تؤلمانها.
“إظهار مشاعري لن يغيّر شيئاً. سيجعل الأمور أسوأ.”
التقطت أنفاساً ضحلة وارتشفت من الشاي محاولة تهدئة قلبها.
“إيميلين.”
ناداها الدوق فجأة، وقد غادر صوته المرح وظهر بدلاً عنه ثقل غريب.
“نعم يا أبي.”
“يبدو أنك تنسجمين جيداً مع الكونت رينييه.”
“نعم، نحن متفاهمان. وأشعر بأن بيننا انسجاماً ضرورياً.”
ابتسمت بهدوء.
كان ثقل نبرة الدوق كلما ذكر الخطوبة دليلاً على أهميتها لديه.
هزّ رأسه راضياً.
“جيد. أحسنت. لا أريد أي متاعب هذه المرة. لدينا ما يكفي من الفوضى مع عودة ذلك الوغد.”
تصلّبت إيميلين للحظة.
تابع الدوق بصوت غاضب: “آمل أنك أدركت حماقتك الآن. لا تتورطي معه مجدداً. عائلته عار. انظري، مشكلات ابنه لا تنتهي…”
هزّ رأسه بازدراء.
“يبدو أنه ورث سفاهة أبيه.”
ثم التفت إلى أنتوني وقد أشرق وجهه من جديد.
“على عكس ابني الذي لم يسبب لي المتاعب.”
“…هه، بالتأكيد. إيميلين، اسمعي كلام الأب.”
“نعم يا أخي. كما قلت لكما… ذلك الرجل خدعني ولعب بمشاعري. الآن… يعيش حياته مبتسماً مع خطيبته كأن شيئاً لم يكن.”
تبادل الأب والابن الكلمات ذات الرائحة المسمومة، وكأنها نصائح.
وأخيراً، قالت إيميلين بابتسامة مهذّبة:
“أشكركما على اهتمامكما، أبي… أخي.”
بمجرد خضوعها، عاد الجو ممتلئاً بالضحكات والحديث الخفيف.
لكن داخلها كان الهواء الراكد يضغط على صدرها كأنه ماء فاتر يعلو ببطء.
“يا لابني المشرّف، المرة القادمة سأ…”
“بالطبع يا أبي. لم أفعل سوى واجبي، ومع ذلك…”
تلاشت أصواتهما في مسامع إيميلين.
مرة أخرى، أحاط بها ذلك اللحن الخافت الذي يرافق وحدتها.
وفجأة أدركت أمراً.
تلك الموسيقى الخانقة التي كانت تلتف حول عالمها… توقفت للحظة مؤخراً.
وتوقفت تحديدا بعد لقائها بزينون ترانسيوم.
التعليقات لهذا الفصل " 52"