في اليوم التالي، خرجت إيميلين من المنزل وهي تحمل المظلّة التي ناولتها لها إحدى الخادمات.
كان هناك نشاط واحد فقط مُجاز لها ومحبوب عندها. مهربها الوحيد… وهوايتها الوحيدة:
زيارتها الأسبوعية لمكتبة الكتب.
بعد أن فقدت فرصة دخول الجامعة وأُطلق سراحها من الحبس المنزلي، توسّلت إلى والدها أن يمنحها حرية صغيرة كهذه، فوافق على مضض.
ولولا تلك الزيارات، لكانت الوحدة قد التهمتها تمامًا… أكثر مما فعلت أصلًا.
الطقس… مثالي اليوم.
وعند بوابة القصر، رمقت الشجرة الملتصقة بالجدار بنظرة مستاءة… الشجرة ذاتها التي اتكأ عليها زينون قبل أيام، قبل أن يصعد إلى عربة نقلها.
راقبت المناظر تتبدّل من خلال نافذة العربة… ولم تشعر إلا وقد وصلت.
في زقاق هادئ من وسط مدينة إلفارتو، وقفت مكتبة بثلاثة طوابق، اعتادت زيارتها منذ سنوات.
كان المكان متقشّفًا قليلًا، تفوح منه رائحة غبار لطيف، لكن هدوءه كان مأوى لقلبها.
أربعة أعوام وهي تأتي إليه.
“أهلًا بك.”
رنّ جرس صغير يعلوه طائر معدني عندما دفعت باب الخشب والزجاج. ابتسم لها صاحب المتجر بحرارة.
بادلتَه إيميلين إيماءة رقيقة… ودخلت.
صعدت الدرج الخشبي إلى الطابق الثاني، لتبدأ رحلتها المعهودة بين الكتب.
أصابعها تمرّ على العناوين… تختار ما يجذبها، وتفتح الصفحات بفضول طفولي.
كانت تستمتع بنشاطها الوحيد.
لكن مزاجها تعكّر قليلًا حين تذكّرت سخرية خطيبها قبل أيام… حين قال إنّ نوع الكتب التي تقرؤها “متقدّم أكثر مما ينبغي”.
هذا جديد…
وبينما كانت تتفحّص الرفوف، لفت انتباهها اسم كاتب بدأت تتعلق بأعماله مؤخرًا. أشرقت ملامحها، ومدّت يدها نحوه… لكنّها توقفت.
الرفّ كان أعلى من أن تصل إليه.
رفعت قدميها، حاولت… بلا فائدة.
تنهدت بمرارة وخفضت يدها.
لكن قبل أن تستسلم، امتدت يد كبيرة من خلفها… وانتزعت الكتاب بسهولة.
جاء صوت منخفض وسلس خلفها:
“هذا الذي تريدينه؟”
تجمّد قلبها. وبعد لحظة، رفعت رأسها لترى رجلًا طويلًا يحدّق بها.
تجمّدت إيميلين. لقاؤهما هنا… كان آخر ما تتوقعه.
لاحظ هو ارتباكها، فمال قليلًا برأسه قبل أن يمد يده نحو كتاب آخر.
كان يتحرك ببطء مقصود… ومع حركة يده، انتشرت رائحة خفيفة لسيجار فخم، الرائحة ذاتها التي قطع وعدًا أن يقلع عنها يومًا ما… فقط لينال رضاها.
“إن لم يكن هذا… فربما هذا يناسبك.”
أعادها صوته إلى الواقع.
كانت محاصرة بين جسده العريض والرفوف، فانسحبت خطوة إلى الجانب بسرعة، وقلبها يخفق بعشوائية.
رفعت رأسها وحدّقت في زينون.
“ما الذي تظن نفسك فاعله؟ هذا تصرّف غير لائق.”
“مساعدة شخص في حاجة… تبدو غير لائقة؟ قاسية قليلًا، أليس كذلك؟”
ابتسم بلا مبالاة.
حدّقت فيه بدهشة. “كان عليك أن تعرض المساعدة… ثم تبتعد. من الوقاحة أن تحاصر امرأة بين الرفوف.”
“كنت واثقًا أنك سترفضين إن سألتك. فتصرّفت بما يناسب.”
إجابته اللامبالية جعلت وجهها يظلم.
“قل لي… لم تتبعني إلى هنا، أليس كذلك؟”
“أبدًا. جئت أبحث عن هدية، ثم صادفتك. ألن تأخذي الكتاب؟”
لوّح به وهو يبتسم بمرح.
وبالفعل… كانت بيده حقيبة صغيرة مذهّبة، ما يدلّ أنه لم يكذب بشأن شراء هدية.
لكن رغم ذلك، بقيت تنظر له بحدّة.
“شكرًا على مساعدتك… لكنني لست بحاجة لصدقتك.”
استدارت ورحلت.
تنفست بقلق… لماذا عليها مقابلته هنا تحديدًا؟
كان من الظلم اتّهامه بأنه تبعها… فهو من عرفها على هذه المكتبة في ليالٍ قديمة، عندما كانت أحاديثهما لا تنتهي.
وهي لم تأتِ إليها إلا بعد أن دلّها عليها.
خطوات ثقيلة تبعته.
استدارت بحدة.
“…لماذا تتبعني؟”
“أتبعك؟ أنا ذاهب إلى القسم الذي أزور دائمًا. اتّضح أنه نفس طريقك.”
وأشار إلى الرفوف التي قصدتها.
للأسف… ذوقهما في الكتب متشابه.
نظرت إليه بنفاد صبر… لكنه كان صادقًا هذه المرّة.
حاولت تجاهله. عبثًا.
“هذا سيّئ.”
“……”
“كاتب هذا الكتاب أصبح مخرفًا.”
“……”
“وهذا… مضيعة نقود.”
كلماته كانت كأظافر تضرب على لوح خشب.
لم تعد قادرة على التركيز.
أغلقت الكتاب أمام وجهه بشيء من الغضب، واستدارت.
فجأة تحرك زينون نحو رفٍ آخر، وكأنه يتظاهر بتصفّحه.
“اللورد ترانسيوم.”
“نعم؟”
أعاد الكتاب إلى مكانه ونظر إليها.
قالت بحدّة:
“ما الذي تحاول فعله؟ تظهر فجأة، وتتصرف كأننا… أصدقاء. من منحك تلك الجرأة؟”
“لسنا أصدقاء إطلاقًا. لكن لدي سؤال.”
“لا.”
“إن أجبتِ عليه… سأجيب على سؤالك.”
صمتت.
وهو اعتبر الصمت موافقة.
اكتسى وجهه بابتسامة ماكرة… هي ذاتها التي كانت تزعجها قبل أعوام.
“من بين كل مكتبات المدينة… لماذا جئتِ إلى هذه؟ هل… تذكّرتِ أيامنا؟”
“لا تتوهم. لماذا أتذكّر شيئًا تافهًا؟ أي ذكريات أصلًا؟”
تجمد وجهها من القرف.
تأمل تعبيرها… ثم انحنت شفتاه بابتسامة غريبة.
“معك حق. ذكريات بلا معنى… طفولية، سخيفة، ندم، وحتى… شيء تتمنين محوه فور ظهوره.”
برد صوته… فارتعشت نظرتها للحظة، وكأن سهمًا أصاب قلبها. لكنها تماسكت.
“نعم.”
أخفض رأسه وضحك بخفوت.
ثم رفعه… وفي عينيه شرارة شقية مائلة للجنون.
“حان دوري لأجيب.”
وأخرج سيجارًا.
عندما تجهم وجهها، ابتسم.
أشعل السيجار… ونفث دخانًا أمامها عمدًا.
“ظننت أننا قد نتحدث في المرة السابقة. أما اليوم… فقد جئت لأشتري كتابًا. وتصادف أني التقيت بك. الشخص الذي سأهديه الهدية… مقرب منك. صدفة لطيفة، أليس كذلك؟”
رفعت حاجبًا بشك.
لكنه تجاهل شكها، ثم انفرجت شفتاه بابتسامة عميقة، كأن ذكرى خطرت بباله.
ابتلع شكوكها كما يبتلع الدخان الهواء.
“أوه… وأردت أن أجيبك عن ذلك أيضًا. القبلة تلك الليلة… حدثت فقط لأن رؤيتك أعادت لي شيئًا من الماضي. كنّا متوافقين. ذهنيًا… وجسديًا.”
“ه…”
ارتجفت شفتيها.
“بصراحة؟ أظن أننا ما زلنا متوافقين. كدت أقول ذلك… للتو.”
لوّح بالسيجار.
تلاشى جزء من رؤيتها وسط الدخان.
“أنت مجنون…”
اهتزاز صوتها فضح ارتباكها القديم.
خطرها… وفوضى مشاعرها… عادت كلها.
“تنحَّ.”
دفعت زينون بعنف، واندفعت خارجًا.
اختفى أي مزاج للقراءة أو الشراء.
شعرت بنظراته خلفها… لكنه لم ينطق.
وذلك الصمت كان أشد إيلامًا من أي كلمة.
نزلت الدرج بسرعة.
وعندما وصلت أسفلًا، ناداها صاحب المكتبة.
“آنسة… خذي هذا، من فضلك.”
ناولها رزمة مغلّفة.
كان كتابًا.
لكاتب أجنبي اسمه كافين شوتريمر… كانت تعشق أعماله يومًا.
ابتسم البائع وقال:
“نادر جدًا. لم يُترجم بعد، ومخلصوه يخطفونه فورًا. شخص ما حصل على نسخة، وأبدى سعادة كبيرة حين علم أنك جئتِ اليوم.”
“…من؟”
“أنتِ التقيتِ به قبل قليل، أليس كذلك؟ تركه عندي… عندما ظهر وجهك، ابتسم كأنه التقى صديقًا قديمًا. هل تحدثتما؟”
“آ…”
لم تجد كلمات، فاكتفت بإيماءة.
كانت المكتبة مليئة بذكريات تجمعه بها.
صاحبها يتذكّر وجوههما… ويظن أنهما ما زالا على علاقة طيبة.
هل من الممكن… أن تكون الهدية التي ذكرها… ليست هذه؟
تذكرت الحقيبة الأخرى بيده.
الهدية التي قال إن صاحبها “شخص قريب منها”.
تسلل شعور غريب إلى صدرها.
من الذي سيهديه كتابًا؟ ولماذا؟
وما الذي يعنيه بكلماته؟
التعليقات لهذا الفصل " 51"