5
الفصل الخامس: هل نتحدث؟
ضحكت إيميلين ضحكة جافة دون أن تشعر.
وهي مستلقية على سريرها، ظلت تفكّر طويلاً بما حدث اليوم. إيميلين، التي حافظت على المرتبة الأولى منذ دخولها الأكاديمية، سقطت إلى المرتبة الثانية.
تذكّرت وجه أنجل المصدوم عندما راجعت النتائج معها. شعرت بالغضب وعدم التصديق.
كيف حدث هذا؟ لو أن الطالب الذي كان دائماً ثانياً صعد للمركز الأول لكان الأمر مفهوماً. لكن… زينون ترانسيوم؟ من يكون أصلاً؟
“لماذا اسمه فوق اسمي؟”
عادت إلى ذهنها الأحاديث التي سمعتها عن زينون ترانسيوم.
كان رجلاً يحمل كثيراً من الألقاب:
المشاغب. وصمة العار في الطبقة النبيلة. زير النساء. الراسب الأبدي. أجمل رجل في القرن…
تجهمت عند آخر وصف.
من كل ما سمعته، زينون رجل يعيش كما يحلو له. لكن كيف لشخص رسب سنتين بسبب الدرجات المتدنية والغياب أن يحصل فجأة على المركز الأول؟
“هناك شيء غير طبيعي.”
كانت لإيميلين أسبابها لتحافظ على درجاتها العالية. أسباب دفعتها لتجاهل آراء الآخرين. لم تكن حتى قادرة على مصارحة والدها بها. كان حلماً ثميناً تحميه بروحها. لهذا، إن كان زينون قد غش، فهي مظلومة.
في اليوم التالي، قصدت معلمها مباشرة لتشرح له الوضع. استمع إليها بصمت قبل أن يطلق تنهيدة طويلة.
“ليدي ديلزاير، حتى أنا وجدت النتائج غريبة، وتأكدت بدقة إن كان الطالب قد غش، لكن لم أجد أي مخالفة.”
“لا يمكنني تصديق هذا. هو حتى لم يدخل قوائم المتفوقين من قبل. والآن فجأة يصبح الأول…؟”
لأول مرة في حياتها، انفجرت إيميلين بانفعال. الأمر غير مقبول بأي معيار. الامتحانات ليست شيئاً يمكن أن تتفوق فيه بمجرد الدعاء ليلة الامتحان. وصلت بها الشكوك إلى الغش، الفساد، الرشوة، تسريب الأسئلة… كل الاحتمالات السيئة.
ربما شعر المعلم بتوترها، فقال بلطف:
“ليدي ديلزاير، لا تغضبي… النتائج أُعلنت بالفعل. إن كان الأمر يزعجك كثيراً، يمكنني ترتيب شيء لك المرة القادمة، من أجلك فقط. لذا… لا تذكري أي شيء للدوق.”
“…ماذا؟”
“إن أردتِ المركز الأول، أستطيع بسهولة أن—”
“السيد فرانسيس!” ارتفع صوت إيميلين.
تفاجأت من حدّة نبرتها، فخفّضتها قائلة بهدوء أكثر:
“هل أنت جاد فعلاً؟ معي أنا؟”
“بدوتِ منزعجة جداً…”
تجمّد وجه إيميلين. كان الناس يرون تمسّكها بالمركز الأول مجرد دلال. لم يضغط عليها أحد بشأن دراستها لأنها ابنة دوق، فقط لا أكثر.
قبضت على أسنانها.
“رجاءً، تجنب إعطاء مثل هذه الاقتراحات… حتى لو كان مزاحاً. أنا لم آتِ لأطالب بالمركز الأول. بل جئت لأناقش صحة النتائج.”
تنهدت بحدة، ثم تابعت:
“لن أذكر شيئاً لوالدي، بشرط أن تكون النتائج فعلاً خالية من الفساد.”
تركت المعلم المتحير خلفها، واكتفت بإيماءة صغيرة قبل أن تغادر. أي فحص أجراه كان غير مقنع. خصوصاً بعدما عرض عليها إعطاء المركز الأول بسهولة… مما يجعل الثقة به أصعب. وماركيز ترانسيوم معروف بثروته الكبيرة أيضاً.
لم تعرف إيميلين ما عليها فعله. اجتاحها شعور بالعجز.
والدها لم يهتم يوماً بدرجاتها. قد يغضب لأن ابن الماركيز حصل على المرتبة الأولى قبلها، لكنه لن يتدخل لأجلها هي. لو كان الأمر بسبب شجار أو مشكلة أخرى لتدخل، لكن درجات؟ ولأجل ابنته وليس ابنه؟ لا.
“أرسلتك هناك لتخالطي الناس، لا لتدرسي مثل أخيك!”
كانت تلك كلمات والدها عندما عادت لأول مرة تحمل المرتبة الأولى.
قدمت له نتيجتها بفخر، متوقعة أي كلمة تقدير. كان دائماً يقول إنها ذكية، تفهم عشرة أشياء من واحدة، وكان يفتخر بها. لكنها لم تتلق سوى توبيخه، وكأن تفوقها خطيئة. قال لها إن ذكاء الفتاة عيب عند الزواج.
لكن إيميلين التي أحبّت الدراسة والقراءة أرادت الحفاظ على تفوقها لتدخل الجامعة. رغبت بمديح بسيط، فحققت المرتبة الأولى مجدداً.
وفي ذلك اليوم، ضربها والدها لأول مرة، سائلاً إن كانت قد فقدت عقلها.
كان الأمر صادماً.
وبذريعة القلق على صحتها، مُنعت من المدرسة. أُغلقت عليها غرفة فارغة، وأُجبرت على التفكير بخطئها.
خطؤها كان حلمها غير الواقعي بالجامعة. ضياع وقتها على دروس لا فائدة منها، بينما كان عليها التركيز على أن تكون زوجة صالحة جميلة.
وحين “ندمت بعمق”، أُطلق سراحها.
لكن لو كانت ستتخلى بهذه السهولة، لما حلمت من البداية.
في مجتمع يتوقع من المرأة أن تكون ظلاً لزوجها، كانت الدراسة هوايتها الوحيدة، والجامعة حلمها الأكبر.
وفي النهاية، لم تجد سوى الكذب لتحمي حلمها. احتضنت تقرير درجاتها وقالت لوالدها بحنان:
“هل يُعقل أن عقلي الحاد، الذي ورثته منك، يضعف فجأة؟ كل ما في الأمر أنني ركزت على إعطاء مثال جيد في الصف، ولم أدرس أي شيء إضافي. أنت تعرف كم انشغلت بالكمان مؤخراً.”
واقترحت أن المعلمين يتملقونه برفع درجاتها.
اختلقت الأعذار حتى أصبحت سخيفة. ومع الزمن، وبعد عام كامل من التمثيل، هدأت شكوكه.
كانت رتبتها الأولى ثمرة نضال طويل، وكذبة ثقيلة حملتها لتحمي حلمها الوحيد.
خرجت من المبنى، تسير على الطريق الحجري الذي تلون بأحمر الشمس الغاربة.
كانت ورود إلفارتو الصيفية متفتحة على جانبي الطريق الضيق.
نظرت إلى الشوارع التي يغمرها الضوء البرتقالي، وتمتمت في قلبها:
“لن أترك هذا الأمر.”
توقفت فجأة. رائحة الورود التي يحملها الهواء أصبحت أثقل.
إلى يسار الطريق، كان يقف شخص مسنداً ظهره إلى عمود إنارة.
عرفته فوراً.
رجل عاقد ذراعيه، مغمض العينين، واقف بصمت. لم تكن تعرفه إلا من الإشاعات، ولم تره إلا مرتين أو ثلاثاً من بعيد، لكنها ميّزته فوراً.
الملامح التي كانت تتخيلها صارت واضحة، كقطع لغز اكتملت فجأة.
تنفست بعمق رائحة الورود، وتجاوزته بثبات قدر ما استطاعت.
“أريد مواجهته الآن… لكن الوقت متأخر.”
لو تأخرت أكثر سيتذمر والدها. ثم إنها لا تملك دليلاً بعد على أنه غش. لا يمكنها اتهامه هكذا.
جفّ حلقها، فشدّت قبضتها على حقيبتها.
“هاي.”
جاءها صوت منخفض.
توقفت في وسط الطريق.
كانت قد تجاوزته بخطوة واحدة فقط.
“هل يناديني؟”
استدارت ببطء. الرجل الذي كان يبدو غارقاً في عالمه، وقد أغمض عينيه، فتحهما الآن.
نهض زينون واقترب منها. في طرفة عين، صار واقفاً أمامها مباشرة.
تساءلت للحظة إن كان ما يحدث واقعاً.
“نحن لا نعرف بعضنا أصلاً…”
لم تكن تعرفه إلا من القصص والعيون التي تلاحقه. لكنه عن قريب بدا مختلفاً تماماً عما تخيلته.
كان طويلاً… طويلاً جداً لدرجة أنها اضطرت لرفع رأسها لتراه. ظنت أن شخصاً بمثل هذا الطول سيكون متكبراً، لكن وعلى عكس الشائعات، بدا مهذباً. على الأقل في مظهره الخارجي.
لكن ما لم تتوقعه أبداً… كانت عينيه.
كانت عيناه الخضراوان، اللامعتان كالورق الطازج، تحملان نظرة صافية… أقرب لبراءة صبي.
وبينما كانت تتأمل وجهه بلا وعي، تحركت شفتاه المرسومتان بدقة.
“مرحباً، ليدي ديلزاير.”
أعادها الترحيب القصير إلى الواقع. كانت على وشك الرد، لكنها أعادت كلماته في رأسها.
مثلما كانت تراه من بعيد… لا بد أنه رآها أيضاً. لهذا يعرف اسمها…
لكن هل تجرأ… وتحدث معها بهذه الأريحية؟ تضايقت تجاهه وتخطّت التحية مباشرة.
“هل تريد شيئاً مني؟”
“مم، ليس شيئاً محدداً… لكن بدا وكأنك تبحثين عني.”
“ماذا؟”
“لهذا انتظرت. تأخرتِ في الخروج.” قالها متذمراً بلطف، مع ابتسامة خفيفة، من دون أي علامة استياء حقيقية.
لم تفهم إيميلين شيئاً. ما علاقتها به أصلاً ليقف ينتظرها ويمازحها؟ لم تتعامل معه يوماً. بدت مصدومة.
لاحظ ارتباكها فتكلم أولاً:
“سمعت أنك كنتِ تبحثين عني.”
“…من قال ذلك؟” سألت بحدة.
“معلم اللغة الغالية، السيد فرانسيس، قال إنك تشكين أنني غششت.”
ابتسم زينون ترانسيوم وهو يكمل:
“هل نتحدث؟”
تطاير شعره الذهبي في الهواء بخفة، حاملاً معه رائحة الورود.
المترجمة سيران💮.
التعليقات لهذا الفصل " 5"