كانت أيملين عاجزة حتى عن تذكّر كيف عادت إلى المنزل في الليلة الماضية.
قلبها ظل مضطربًا، وحتى عندما تمددت على فراشها، ظلت تقلّب نفسها دون أن يغمض لها جفن. ومع حلول الصباح، كانت قد قضت الليل كلّه بلا نوم.
كانت الإرهاق يثقل جسدها بينما تحتسي الشاي بوجه عابس قليلًا.
“ما الذي أصابني؟ أنا أعلم أن زينون ليس بذلك النوع من الأشخاص.”
لا بد أن ما رأته بالأمس لم يكن إلا موقفًا بدا مضلّلًا، بينما هو في حقيقته لا يعني شيئًا. وربما كانت قد تخيّلته أصلًا، فالليل يلهو بالعين المرهقة.
في الآونة الأخيرة كانت تبقى مستيقظة حتى ساعات متأخرة للدراسة استعدادًا للامتحان.
“اليوم يوم مهم… تمالكي نفسك.”
كان عليها أن تحصل على إذن والدها لعلاقتها بزينون.
عاد برنارد ديلزايير إلى مقر الدوقية وقت الظهيرة. وبما أنهم سيتناولون الطعام معًا، جلست أيملين مع العائلة حول المائدة. استقبلهم والدها، الذي غاب عنهم مدة، بحرارة.
“مرّ وقت طويل… كيف حالك يا أنتوني؟ رؤيتك في المنزل تُدخل السرور إلى قلبي.”
كان لا يزال متعبًا من هموم العمل، لكن وجهه أشرق ما إن رأى ابنه. حدّقت أيملين فيه بعدم تصديق.
ابتسم أنتوني وهو يمزح، يحرّك الكأس بين أصابعه، وعلى وجهه بسمة واسعة أبرزت غمازتيه.
“لنأكل أولًا. لا بد أنك متعب من رحلتك.”
“…نعم. تفضّل، يا أبي. لقد تأكدت من أن تُحضّر الأطباق المفضّلة لديك.”
“وجودكما يريح قلبي فعلًا.”
ومع أول لقمة تذوّقها برنارد، بدأ الطعام. بقيت أيملين متوترة، تراقب اللحظة التي قد يفتح فيها أنتوني الموضوع الذي تخشاه.
ولم يحدث ذلك إلا بعد انتهاء الطعام، بينما كانوا يحتسون الشاي، حين تكلّم أنتوني كأنه تذكّر شيئًا للتو.
“أبي… صادفتُ أمرًا مذهلًا مؤخرًا.”
في تلك اللحظة شعرت أيملين أن الوقت قد حان. قبضت يدها تحت الطاولة.
إن لم تُعلن رغبتها الآن وتقنع والدها، فسيجري بها القدر نحو طريق لم ترده يومًا.
عليها أن تعترف بحبها لزينون مهما كان الثمن.
توهّج التصميم في عينيها بينما تابع أنتوني قائلاً بابتسامة خفيفة:
“هل تعرف لماذا عدتُ إلى المنزل، رغم أنني لا أفعل ذلك حتى في الإجازات؟ لأن أحد أساتذتي أخبرني بشيء صدمني لدرجة أنني عدت فورًا.”
لكن حديثه لم يكن ما كانت أيملين تتوقعه.
نظر أنتوني إلى والده قبل أن يقول:
“يبدو أن أيملين تقدّمت لامتحان القبول في جامعتي. هل علمت بذلك يا أبي؟”
“ماذا؟ ماذا تقول يا أنتوني؟”
“عندما سمعت الخبر لأول مرة لم أصدق أن أختي قدّمت فعلًا. لكن الأستاذ أراني قائمة المرشّحين… وكانت هي هناك. أول متقدّمة أنثى في تاريخ الجامعة.”
انتقلت نظراته بعدها إلى أيملين، وعلى شفتيه بسمة باهتة.
تجمّدت هي في مكانها، وكأن صاعقة ضربتها.
شحُب وجهها تمامًا ولم تستطع الحفاظ على رباطة جأشها. ارتعشت عيناها اتساعًا.
وبنبرة يبدو فيها التظاهر باللطف، قال أنتوني:
“أيملين… يبدو أن والدنا لم يكن على علم. ما سبب وجود اسمك في القائمة؟ أخبرينا الحقيقة.”
“م-ماذا تقول يا أخي؟ لا بد أن هناك خطأ…”
“هيا، أيملين.”
قاطعها بنبرة حادة، جعلت صوتها المرتجف يتبدد.
“هل ظننتِ أنني لن أتحقق؟ رأيتُ رسالة طلب التأكيد بختم أبي.”
تعثّر صوتها وهي تحاول الرد.
“هذا… أخي…”
“أوه، وهل لهذا علاقة بزينون ترانسيوم؟ يبدو أنه أيضًا تقدّم للامتحان.”
امتلأت عيناها بالاضطراب.
في هذا الوقت الحرج… حين لم تسعفها الكلمات…
التفتت إلى والدها. كان وجهه صارمًا، أشدّ قسوة مما تتخيل.
“لماذا يُذكر اسم ذلك الفتى هنا؟”
فأجاب أنتوني غير آبه:
“لأنني رأيت زينون ترانسيوم يغادر غرفة أيملين ليلًا. في منتصف الليل. ومن الواضح أن علاقتهما ليست مجرد صداقة…”
“أيملين!”
دوّى صوت برنارد كالرعد. حتى الخدم الواقفين بعيدًا ارتجفوا.
واجهها والدها بحدة لم ترها منه قط.
“هل فقدتِ صوابك؟ كان زينون في غرفتك؟ وفي الليل؟”
“أ-أبي…”
لم تستطع سوى الهمس. حاولت جاهدة ترتيب أفكارها بعدما باغتهم الوضع مبكرًا أكثر مما توقعت.
لكن هذا الاعتراف كان مصيرًا لا مفر منه.
رغم ارتجاف جسدها وأنفاسها المتقطعة، أجبرت نفسها على الكلام.
“أنا وزينون… نحب بعضنا. أنا أحبه حبًا كبيرًا… ووعدنا بالزواج…”
“لقد جُننتِ! جنون كامل!”
طنّ صوت حاد عندما رُميت الملعقة المعدنية تجاه الطاولة وارتدت عنها.
“لديكِ خطيب مناسب مُعدّ لكِ، ومع ذلك تلتقين رجلًا كهذا! هل تدركين حجم الخسارة التي سببتها عائلته لنا؟ انسحب المركيز من تعاوننا، وكل جهدي يكاد ينهار! ثم تقولين إنك تريدين الزواج من فاسق كهذا؟ تريدين إذلال العائلة؟”
حدّقت به أيملين بذهول.
تصرفه هو الذي أفسد الاتفاق، ومع ذلك يتحدّث كأنه بلا ذنب!
هل كان يعتبرها عدوًا إضافيًا لأنها لم تقف معه؟
ارتعشت من الغضب.
“كيف تقول ذلك يا أبي…؟ هل تظن فعلًا أنني أنا من جلب العار للعائلة؟”
“أيملين، لا ترفعي صوتك على والدك!” قال أنتوني متدخلًا.
لكنها تجاهلته.
بللت الدموع عينيها وهي تواجه والدها بيأس وحزن وخوف.
“زينون كان الشخص الوحيد الذي آمن بأحلامي… الأحلام التي سخرتما منها أنت وأخي. هو أول من أخبرني بأنها أحلام جميلة… أول من دعمني. لا أستطيع العيش من دونه…”
“أيملين!”
ارتطم كف الدوق بالطاولة بقوة.
أطلق صوته المزمجر:
“ألا تفهمين أنك تلطّخين اسم العائلة؟ رجل وضيع الأصل؟ لن أسمح أبدًا بعلاقتك به! انتهى الحديث!”
ثم التفت نحو الخدم.
“اصعدوا بأيملين إلى غرفتها. ولا تدعوها تغادر.”
اتسعت عيناها رعبًا.
“أ-أبي! أرجوك… الأسبوع القادم…”
كان ذلك موعد امتحان دخول جامعة روبلك.
وكونها محجوزة يعني أنها لن تستطيع التقديم.
أغرقت الدموع وجهها وهي تركع أمامه.
“أرجوك… هذا حلمي منذ الطفولة. درستُ دون توقف… ليلة بعد ليلة… أرجوك لا تسلبني هذا…”
ارتعشت رموشها بينما انهمرت الدموع.
كان هذا حلمها الوحيد… وزينون وعدها أن يلتقيا هناك.
فجأة قال أنتوني بنبرة خفيفة كأنه يعتذر:
“أيملين، إن كنتِ تتحدثين عن امتحان القبول… فأنتِ للأسف لم تعودي مؤهّلة.”
تجمّدت.
“م-ماذا… تعني؟”
رفعت رأسها نحوه مذهولة.
كان الخدم يمسكون بذراعيها، لكنها لم تقاوم من قوة الصدمة.
“أنتِ لم تحصلي على إذن الأب. وبدونه، لا تُعتبرين مستقلة، ولا يحق لك اتخاذ القرارات. للأسف… انسِ الأمر.”
التعليقات لهذا الفصل " 46"