–
كان في صوتها ارتجاف خافت، يكشف توتراً لم تستطع إخفاءه.
ظهور شقيق إيملين الوحيد، أنتوني ديلزير، لم يكن متوقعاً على الإطلاق.
بعد كل تلك المدة، ما يزال أنتوني يحتفظ بالشعر الأسود الأملس والعيون الزرقاء الحادة التي ورثها عن والدهما.
“هل كان هناك أحد هنا؟”
“ماذا تعني يا أخي؟”
ابتسمت إيمالين بابتسامة مصطنعة، متظاهرة بالهدوء، بينما كان صدرها ينقبض قلقاً.
تساءلت في سرّها ما إذا كان قد رآها مع زينون.
غير أنّ أنتوني قال بنبرة يغشاهـا الفضول:
“ظننت أنني سمعت صوتاً.”
“صوتاً؟ على كل حال، متى وصلت؟ مرّ وقت طويل.”
وبما أنه لم يبدُ عليه أنه شاهد شيئاً، تصرفت إيملين ببرود محسوب، كأن شيئاً لم يحدث.
“وصلت في وقت أبكر. لكن أخبروني أنك كنت نائمة… لماذا أنتِ في الخارج؟”
كان أطول منها بكثير، ورفع نظره نحو الشجرة التي كانت تقف أمامها.
ارتبكت إيملين قليلاً، فاقتربت منه خطوتين، لتزيد المسافة بينها وبين الشجرة.
قالت بهدوء:
“استيقظت ولم أستطع العودة للنوم، فأحببت أن أمشي قليلاً. بالمناسبة، والدي سافر في عمل.”
“أعلم. أرسلت خبراً بعودتي، فردّ بأنه سيعود قريباً. قال إنه يريد إقامة احتفال بما أنني عدت.”
“…حقاً؟ في الآونة الأخيرة، لم يكن والدي بحالة تسمح له بالمناسبات… ومع ذلك يريد احتفالاً؟”
“وما الذي يفترض أن يكون أهمّ مني؟ عدت إلى المنزل.”
ابتسم أنطوني باستخفاف كأن الأمر بديهي.
طوال الحديث، كان شعور بالضيق يخنق صدر إيمالين.
رغم أنهما نشآ في المنزل نفسه، إلا أنّ حرية أنطوني كانت دائماً أكبر. ثقته بنفسه لا تتزعزع، وقد دخل الجامعة التي كانت تحلم بها دون أي عائق.
كانت تشعر بأنها أصغر… أقل… بلا شيء أمام حضوره.
ولمّا لاحظت تغيّر ملامحها، ابتسمت مجدداً قهراً.
“سأدخل الآن يا أخي. بدأ الجو يبرد. نتحدث غداً.”
“حسناً، إلى الغد.”
ورغم أنها بدأت الوداع، كان هو من التفت وغادر أولاً.
راقبته يمشي مبتعداً، ثم تبعته بعد أن أخذ مسافة كافية.
عضّت شفتها بخفة.
“لا يبدو أنه لاحظ شيئاً… يبدو أنه تجاوز الأمر.”
مجرد تذكّر تلك النظرة المتسائلة من الليلة الماضية جعلها تتنفس براحة، مقنعة نفسها بأنه لم ير شيئاً مهماً.
هزّت عنها ذلك التوتر الحاد، محاولة التركيز على أفكار أكثر طمأنينة.
—
في صباح اليوم التالي، وبقلب لا يزال مضطرباً، كتبت رسالة وخرجت من المنزل.
تذرعت بأنها تريد السير وحدها، فصرفت الخادمة التي لحقت بها، ثم اتجهت نحو الشجرة التي اختارتها وزينون مكاناً لتبادل الرسائل السرية.
“لقد اتفقنا البارحة فقط على استخدام هذا المكان… فهل سيجد رسالتي قريباً؟”
مع أنها لم تتوقع أن يمر على الرسالة سريعاً، وضعتها في جوف الشجرة بعد أن تأكدت من غياب أي أحد.
دفعتها إلى الداخل جيداً حتى لا تظهر من الخارج.
“قد يشك أخي… عليّ أن أُعلِم زينون بألا يأتي بضعة أيام، احتياطاً.”
لم يكن لديها وسيلة أخرى للتواصل، لذا لم تملك خياراً سوى الاعتماد على تلك الشجرة.
نظرت إليها بقلق، ثم استدارت لتعود.
—
وفي اليوم التالي، عادت إلى الشجرة، فإذا برسالة لم تكن لها. اتسعت عيناها قليلاً.
لم تكن تلك الرسالة التي تركتها.
فالورقة الجديدة كانت بلون أخضر داكن، ظاهرةً قليلاً من تجويف الشجرة، بخلاف أوراقها ذات اللون البيج الفاتح.
ارتسمت على وجهها دهشة ممزوجة بفرح خافت.
ولمّا مدت يدها لتلتقط الرسالة، جاءها صوت من خلفها:
“هنا مجدداً؟”
تجمدت نصف ثانية، ثم التفتت. ولما رأت من يكون، اعتدلت وقفتها.
“…أخي أنتوني.”
ارتج قلبها بين ضلوعها. حاولت أن تبدو هادئة، وهي تثبّت نظرها عليه.
لماذا صار يظهر فجأة هكذا؟ وجوده العابر هذا كان يبعث في جسدها قشعريرة.
كان أنطوني قد وضع يديه في جيبيه، يحدق بالشجرة الكبيرة.
قال بصوت منخفض:
“الشجرة التي زرعَتها أمّنا أمام غرفتك… كبرت كثيراً.”
“…نعم، كذلك.”
ترك عبارته معلّقة، وساده صمت ثقيل.
تمنّت من كل قلبها ألا يلاحظ الرسالة المختبئة عند جذور الشجرة، فقبضت يديها بتوتر واضح.
وبعد لحظة، قال:
“أعتقد أن أمّنا كانت ستؤيد أي اختيار يروق لك يا إيمالين. كما كانت تفعل دوماً.”
كلماته كانت تحمل ظلّ تلميح… جعل جسدها يتجمّد.
حدّقت فيه بصمت.
“لكن والدي مختلف قليلاً. تعلمين ذلك. وأظن أنه يجب عليكِ الالتزام برغبة الأب.”
“…وما الذي تقصده؟ متى خالفتُ رغبة الأب أصلاً؟”
“لم أقل إنك فعلتِ. مجرد نصيحة. صرتِ راشدة الآن، فلا تتشبثي بأفكار طفولية. أشياء قد تسيء لسمعة العائلة… لا تفعلي هذا النوع من الأمور.”
اهتزت عيناها من الصدمة. كان ما يزال ينظر إلى الشجرة.
“هل رآني… في تلك الليلة؟”
في اللحظة التي بلعت فيها ريقها، التفت أنطوني نحوها.
عيناه الزرقاوان، المطابقتان تماماً لوالدهما، ثبتتا عليها مع ابتسامة خفيفة.
حاولت إيملين جاهدة تمالك نفسها. فتحت شفتيها الشاحبتين لتقول شيئاً، أي شيء.
لكن ابتسامته اتسعت، وضحك بخفة.
“لماذا هذا الوجه؟ كأنك ارتكبتِ جريمة. وصلتني أخبار أنكِ أنكرتِ خطوبتك أمام الآخرين لأنك لا تريدين الزواج بابن مركيز هانوفر.”
“……”
“لا تقلقي. لن أخبر والدنا بأمر كهذا. وما المشكلة؟ ذلك الأحمق لا يطاق أصلاً. أنا أيضاً لن أرغب به لو كنت مكانك.”
هز رأسه متضايقاً.
ومع كل كلمة كان يقولها، بدأت قسوة ملامحها تلين قليلاً، ورمشاها يرتعشان.
“إذن… كان يتحدث عن شيء آخر تماماً…”
ابتسم أنتوني ابتسامة ساخره خفيفة حين لاحظ ارتباكها.
“لكن، ماذا ستفعلين؟ هو اختيار الأب. فلا تخلقي متاعب. أفعال تسيء لسمعة العائلة… تلك مشكلة حقيقية.”
“ومتى قد أفعل شيئاً كهذا؟”
ضحك بخفوت، ثم استدار ليمشي، قائلاً بصوت منخفض وهو يمر قربها:
“لنجلس على الشاي. سأغادر المنزل غداً قبل عودة الأب، لذا سأغيب لفترة.”
“إلى أين؟”
“أصدقاء. هناك من يحتاجني.”
نطقت كلماته بشيء من الضجر، فتبعته بعد أن وقفت لثوان.
—
بعد شاي قصير مع أنتوني، عادت إيمالين إلى غرفتها ومعها رسالة زينون.
“الحمد لله أنه لا يبدو على علم بشيء…”
جلست على مكتبها وفتحت الرسالة، ولم تستطع كبت ابتسامة تسللت على شفتيها.
كانت الرسالة تقول:
“إذن لن نستطيع أن نلتقي لبعض الوقت. لقد بدأت أعاني قلة النوم لأنني أفتقدك…
لا أظن أنني أستطيع التحمل أكثر. اختاري أنتِ يوماً، وأخبريني متى يمكنني رؤيتك مجدداً.
ذلك سيجعل الأمر أسهل عليّ. حتى وأنا أكتب هذه الكلمات، لا أستطيع التوقف عن التفكير بك.”
بين سطور رسالته، شعرت إيملين بحرارة تملأ قلبها. وبعد أن فكرت قليلاً، أمسكت القلم وكتبت:
“ما رأيك بعد ثلاثة أيام؟
اليوم عرفت أن أخي سيغيب عن المنزل بدءاً من الغد. سيكون الوقت مناسباً.
هو عادة منشغل، ولم يكن يهتم بي كثيراً، لذا لا أظن أنه سيلاحظ شيئاً.
مع ذلك، كن حذراً عندما تأتي.”
عادت إلى الشجرة ووضعت الرسالة كما اقترح زينون.
ورغم أن يوماً واحداً فقط مرّ منذ أن رأته آخر مرة، وجدت نفسها تتلهف للقاءه.
مع خوف صغير يضطرب في داخلها، لكنها أقنعت نفسها بأن أنتوني ليس ممن يتدخل في حياتها، وأن الأمر لن يعنيه.
“لا أستطيع الانتظار لرؤيتك يا زينون.”
وعادت إلى غرفتها، ترتّب الزهور، علّ النهار يمضي أسرع.
—
في وقت لاحق من ذلك اليوم، كانت تتصفح الجريدة بعين مدققة.
لفت انتباهها خبر حول انهيار شراكة تجارية بين عائلتين نبيلتين، وقد أثار ذلك ضجة كبيرة.
فالتحالف بينهما كان غريباً من الأساس نظراً لاختلاف آرائهما السياسية، والآن تشير المقالات إلى أن العلاقة بينهما بلغت حد القطيعة التامة.
تنهدت بضيق وألقت الجريدة جانباً.
“اقترب موعد وصول زينون…”
وقفت وبدأت تتمشى في الغرفة، متوترة.
كانت الأنوار مطفأة، للإيحاء بأنها نائمة، ولتسهيل دخول زينون بلا أن يلمحه أحد.
وبينما تنظر نحو الشرفة تحت ضوء القمر، لفت نظرها شيء… طائرة ورقية صغيرة.
كانت تلك إحدى شفراتهما الخاصة… إشارة لا يفهمها سواهما.
لم تكن تحمل أي كتابة، لكن معناها أعمق من أي عبارة:
لقد وصل.
أشرق وجهها وركضت نحو الشرفة.
“زينون…!”
وما إن رآها حتى تسلّق الشرفة بخفة.
وحين التقت أعينهما، تشابكت أيديهما فوراً، ودخلا غرفتها سريعاً.
أُسدلت الستائر بصوت خافت، مانعةً حتى ضوء القمر من التسلل إلى ذلك العالم الصغير الذي يجمعهما.
التعليقات لهذا الفصل " 43"