“اشتقت إليك… لكن لماذا لا تكفّ عن الظهور أمامي مصاباً؟ لماذا تأتي إليّ دائماً وأنت مجروح…؟”
“…آسف.”
أحاط زينون رأسها الصغير بكفّيه، وبدأ يفتح قلبه شيئاً فشيئاً.
“كنت أعرف المرأة التي كانت مع والدك في ذلك اليوم. لكن… لم أستطع أن أخبرك.”
من صوته وحده، أدركت إيميلين ثقل الذنب الذي يسكنه. كان صوته مشبعاً بالعذاب، وكأنه كان يحمل أوزاراً لا تُحتمل بمفرده.
زفر زينون بمرارة، وكأنه عقد عزمه على إنهاء هذا الحديث مهما كلّفه.
“عرفتُ الأمر لأول مرة وقتها.”
كان الارتجاف في صوته دليلاً واضحاً على صدقه.
“إن كنتُ جرحتكِ بفعلتي، فأنا آسف. في البداية… كنت مرتبكاً. كنتُ أستطيع المجيء إليك وكأن شيئاً لم يحدث لأنني كنت قلقاً عليك… لكن بعد ذلك، عندما رأيتك تتألمين بسبب شخص يرتبط بي، شعرت بالخجل. شعرت أن مجيئي فقط من أجل راحتي فعلٌ أناني.”
داعب شعرها الداكن بلطف، ثم ابتعد قليلاً. كان وجهه، وهو ينظر إلى إيميلين، محمّلاً بتعابير معقدة.
“لا بد أنك تكرهين رؤيتي.”
“…لا.”
حدّقت إيميلين في وجهه الملبّد بالعتمة، بينما ارتسمت على شفتيه ابتسامة حزينة باهتة.
“لو كنت مكانك، لاشمأززتُ من شخصٍ مثلي.”
“قلت لك إنني اشتقت إليك. أعرف أن لا ذنب لك في أي من هذا… ولهذا أنا هنا.”
عادت الحياة إلى عينيه اللتين خمد بريقهما.
فوجئ للحظة… ثم ضحك بخفوت.
“…هاه.”
“لم تكمل حتى سماع ما قلته، ومع ذلك تضحك؟”
“لا… أنا آسف، لكن… لا أستطيع منع نفسي. أنا سعيد… سعيد جداً.”
وانفجر ضاحكاً عدة مرات، ضحكة مشوبة بالامتنان والارتياح… وبقليل من الألم.
“عادةً، الجميع يلومونني على كل شيء لمجرد أن لي صلة بالأمر. كلّ شخص عرفتُه فعل ذلك. لكنك أنتِ… لا تفعلين.”
“هم الغرباء، لا أنت.”
“نعم… هذا صحيح. شكراً لك. وبرغم قولك إنه ليس خطئي… ما زلت أشعر بالأسف.”
عندما سمعته تعتذر مرة أخرى، قطبت إيميلين حاجبيها بخفة وقالت بنبرة مازحة:
“إن كنتَ آسفاً إلى هذا الحد… تعال لرؤيتي مجدداً.”
“حسناً. سأجيء إليك أينما كنتِ. في الحقيقة… خرجت اليوم لأنوي إرسال رسالة لك.”
“رسالة؟”
“نعم. لم أجرؤ على رؤيتك، خاصة وأنا مصاب، ففكرت أن أكتب لك بدلاً من ذلك. لكن انتهى بنا الأمر أن التقينا هكذا.”
كان وجهه، الذي بدا معتماً منذ لقائهما، مشرقاً الآن. رفعت إيميلين طرف شفتيها بابتسامة صغيرة.
“لو بقيت في مكانك، لما كنتُ سأتبعك، كما تعلم.”
“ما كان الأمر بيدي. أردت أن أظهر لك وجهي النظيف والوسيم، لكن… ها هو مشوَّه الآن.”
وأشار إلى جروحه بتعبير متذمّر جعلها تنفجر ضاحكة.
“لا تقلق. ما زلت وسيماً حتى دون أن تحاول.”
لأيام، كان قلبها المضطرب يجد السكينة بكلمات قليلة منه. لم يكن هناك من يملأ ذلك الفراغ بداخلها سواه.
“لنلتقِ مجدداً الليلة. خرجتُ بلا تخطيط، ويجب أن أعود الآن.”
“حسناً… سأتي بالتأكيد. وعد.”
“أنت لست طفلاً… لكن حسناً، وعد..”
ابتسمت وهي تنظر إليه.
وعلى الرغم من أنهما لم يكونا واثقين مما يخبئه المستقبل، لم تشعر إيميلين بالخوف ما دامت قادرة على النظر إليه.
كانت تؤمن تماماً بأن علاقتهما ستثمر.
لقد اتكأت على يقينه… ولذلك لم تخشَ شيئاً.
—
هبّت نسمة باردة عبر النافذة المفتوحة قليلاً.
جلست إيميلين إلى مكتبها تقلّب صفحات كتاب أحضرته من المكتبة. بين حين وآخر، كانت تلقي نظرة نحو التراس. المشهد نفسه: الأشجار، الحديقة، والسماء الليلية.
أغمضت عينيها بغصّة خفيفة.
“لا بأس… لم يمضِ وقت طويل منذ أخبرت الخدم أنني سأخلد إلى النوم.”
رغم طمأنتها لنفسها، لم يهدأ القلق في صدرها.
قلّبت صفحة أخرى… ثم رفعت عينيها نحو الشرفة للمرة ثالثة. هذه المرة، اتسعت ابتسامتها.
نهضت بسرعة، أطفأت المصباح، واتجهت نحو الشرفة.
على الأرضية الحجرية البيضاء… كان هناك طائرة ورقية صغيرة.
مرّ أسبوعان منذ بدأ زينون يأتي إليها بهذه الطريقة.
اقتربت من السور وانحنت تنظر إلى الأسفل. كان واقفاً هناك، يرفع رأسه نحوها… ينتظر.
وبمجرد أن رآها، فتح ذراعيه لها، يبتسم ابتسامة مشرقة.
“زينون…!”
قفز الفرح في قلبها، فصعدت فوق السور دون تردد.
“سيضمن ألا أقع… لن أصاب بمكروه.”
كانت تثق به ثقة عمياء.
في البداية، اعتبرته فعلاً طائشاً لا يليق بسيدة، وخطرةً إن رآها أحد.
لكن… الوحيد الذي كان يراها هو زينون.
وإن كان ما تفعله لا يليق بسيدة… فلتذهب تلك القواعد إلى الجحيم.
قفزت من الشرفة دفعة واحدة، فأمسك بها زينون بثبات.
جعلها شعور السقوط ترتعش، وينبض قلبها بجنون.
“مرحبا.”
حيّاها زينون بصوت خافت وهو لا يزال يحملها.
أشرق وجهها بابتسامة ناعمة، فوضعها على الأرض برفق.
“اشتقت إليك يا إيميلين.”
“وأنا أيضاً.”
تبادلا كلمات هادئة وابتسامات غارقة بالحنين.
ثم وضعت إصبعها على شفتيها علامة الصمت.
ولكي تتأكد من قدرتها على العودة دون أن ينتبه أحد، تفقدت الحبل المؤلّف من قماش ومنديل مربوطان معا، الذي كانت تُنزِله من الشرفة. وبعدها التفتت إلى زينون
كان الحبل مخفياً بين شجيرات صغيرة، مربوطاً بإحكام بحيث يصعب على أي أحد اكتشافه.
“هيا… بسرعة.”
أمسكت بيده أولاً. تقدما بخطوات خفيفة نحو بوابة القصر. وما إن تجاوزاها حتى ركضا، يداً بيد، بين الأزقة المزدحمة خوفاً من أن يُكشف أمرهما.
وبعد أن ابتعدا بما يكفي، توقفا ليلتقطا أنفاسهما.
“إلى أين تريدين الذهاب الليلة؟”
“أحببت المكان الذي ذهبنا إليه آخر مرة.”
“أيّهم؟ برج الساعة؟ الساحة عند النافورة؟”
“برج الساعة.”
“بالضبط المكان الذي كنت أفكر فيه. كأنك تقرئين أفكاري.”
سارا بين الناس كأي عاشقين تحررا من القيود.
“متى سيعود والدك؟”
“قريباً على الأرجح. وعندما يفعل، سأخبره صراحة أنني لا أريد الخطوبة بالسيد الشاب من هانوفر.”
“افعلي ذلك.”
تأرجحت أيديهما المتشابكة بإيقاع لطيف أثناء سيرهما.
وحين مرّا ببائع قبعات، انجذبا إليه بلا اتفاق.
“هذه تليق بك.”
“ماذا…؟”
ضحك زينون، واضعاً قبعة ضابط زرقاء كبيرة على رأسها.
حدّقت في المرآة بدهشة. ما الذي يدفع أحدهم إلى بيع قبعة كهذه؟
“إذن جرّب هذه. أظنها ستناسبك.”
وضعت على رأسه قبعة قش، كردّ فعل انتقامي صغير.
لكن بدلاً من الانزعاج، حدّق فيها بعيون تلمع بالمرح، ثم نظر في المرآة..
“هل تليق بي؟”
“…قليلاً.”
“تعلمين… فكرت. عندما نتزوج، يمكننا الانتقال إلى الريف. نعيش حياة بسيطة بلا ضغوط. ربما نزرع شيئاً ما…”
“نزرع؟ هل تطلب مني أن أصبح مزارعة فجأة؟”
توسعت عيناها صدمة، بينما هو ضحك وكأنه توقع ردّها.
“قد يكون الأمر ممتعاً.”
“…لن يصدق أحد حينها أنك سيد نبيل.”
أزالت القبعة من رأسه ورتّبت خصلات شعره الشقراء برفق قبل أن تستدير.
وبعد أن اشتريا قبعات لن يرتدوها أصلاً، أصرّ زينون على حمل الكيس حتى لا يثير الشبهات.
وصعدا معاً إلى قمة برج الساعة، يراقبان السماء الليلية والمدينة من الأعلى، ويتبادلان الأحاديث حتى وقت متأخر.
وعندما عادا إلى القصر… كان الليل قد بلغ عمقه.
“إيميلين.”
رغم قولها إنها ستكون بخير، أصرّ زينون على مرافقتها حتى غرفتها. وعند الشجرة التي يتسلقها ليصل إلى نافذتها، أشار لها بيده.
“ماذا هناك؟”
اقتربت منه، فركع وأشار إلى قاعدة الشجرة حيث تتشابك جذورها السميكة.
“هل تعلمين بوجود تجويف هنا؟”
“تجويف؟ أين؟”
اقتربت تنظر، فوجدت فجوة صغيرة بين الجذور.
“كيف اكتشفت الأمر؟”
“لاحظته حين سقطت من الشجرة آخر مرة.”
“…وماذا عن ذلك؟”
“فلنستخدمه لتبادل الرسائل سراً. في الأيام التي لا نلتقي فيها، يمكننا على الأقل الكتابة.”
“وكيف ستصل الرسائل؟”
“هذا سر، لكن… لدى والدي بعض الخدم المزروعين في منزلكم. معظمهم ذوو مراتب منخفضة. سنستخدم أحدهم.”
“ماذا؟ وكيف تضمن أنه لن يفضح الأمر؟”
“لماذا تظنينهم يختبئون في منزلك؟ من أجل المال، طبعاً.”
كان واضحاً أنه يخطط لرشوتهم.
“ما رأيك؟ أريد رؤيتك حتى في الأيام العادية… ولو برسالة.”
“…افعل ما تشاء. اذهب الآن. لقد تأخر الوقت.”
“حسناً.”
“انتبه لنفسك.”
اختفى زينون عن نظرها. التفت إليها بين حين وآخر ليحيّيها بإيماءة مبالغ فيها جعلتها تكتم ضحكتها.
وحين نظرت إلى قاعدة الشجرة مرة أخرى… سمعت صوتاً مألوفاً خلفها.
“إيميلين؟”
تجمّدت في مكانها. التفتت ببطء… لتجد شخصاً تعرفه جيداً.
هبط قلبها إلى قدميها. وعفويّاً، خطت خطوة للخلف محاولة إخفاء آثار وجود زينون.
التعليقات لهذا الفصل " 43"