“زينون، سواء كنت تعرف عن علاقة والدي أم لا، فأنا بحاجة إلى التحدث معك عنها بشكل مباشر.”
لم يكن هناك جدوى من الافتراضات.
وأخيرًا، تمكنت إيميلين من التخلص من كل عوامل التشتيت والتركيز فقط على الدراسة.
أن تلتقي به دون أن تفقد رباطة جأشها. أن تصبح شخصًا أفضل قادرًا على حل هذه المشكلة يومًا ما.
وللوفاء بوعدها لزينون.
..
“اليوم أيضاً… لم يأتِ.”
تمتمت إيميلين في خاطرها وهي تحدّق من النافذة نحو العتمة الهابطة، ثم أدارت ظهرها بخطوات مثقلة بالحزن. كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل منذ زمن، وكانت الإرهاق يضغط على جسدها ضغطاً حاداً.
مرّ أسبوع كامل منذ علمت بانهيار مشروع التعاون الذي كان والدها يعقد عليه آماله.
وخلال ذلك الأسبوع، كانت تنتظر فرصة للحديث مع زينون… فهناك أسئلة كثيرة لم تجد لها جواباً.
لكن زينون لم يأتِ إليها. لا فجراً، ولا منتصف الليل، ولا مرة واحدة طيلة الأسبوع.
سقطت إيميلين على السرير، ثم تقلبت جانباً كأنها تستسلم للتعب.
“أنا آسف.”
ما معنى اعتذاره ذلك اليوم؟ تلك الكلمات التي تركها وراءه وهو يواسيها… هل كانت تعني ما فهمَته حقاً؟
استعادت لحظة مواجهتها له، وجهاً لوجه، فغطت عينيها ونظرت إلى السقف.
كان واضحاً أن العلاقة بينهما أصبحت أكثر تعقيداً من قبل. والأسوأ أن العلاقة بين العائلتين ازدادت سوءاً أيضاً.
ومع ذلك… شيء واحد كان مطمئناً:
بعد أن أصبح مشروع والدها على حافة السقوط، تأجلت خطبتها لوريث ماركيز هانوفَر إلى أجل غير معلوم.
استغلت ذلك وصرّحت بمعارضتها للزواج.
لكن دوق ديلزاير تجاهل كلامها، بحجة انشغاله التام.
أنا مرهقة… كيف أستطيع أن أُنهي هذا الزواج؟
تقلبت، وسحبت اللحاف الصيفي الخفيف حتى عنقها. قبل أيام فقط كان وجود لحاف يبدو ضرباً من الجنون بسبب الحر، أما الآن… فالبرد يتسلل إليها رغم غطاءها.
يبدو أن الصيف الطويل قد وصل أخيراً إلى نهايته.
—
في الصباح الباكر، خرجت إيميلين إلى المقهى للقاء صديقاتها.
“كيف حالكنّ؟”
قالتها وهي تجلس وتنزع قبعتها ذات الحافة البيضاء التي ارتدتها اتقاءً للشمس.
الوردة الوردية الزاهية المثبتة عليها سلبت اهتمام الحاضرات لثوانٍ… ثم اختفى أثرها.
وبمجرد أن حيّتها أنجل بلطف، انطلقت أحاديث الصديقات من حولها.
“نحن بخير طبعاً. ماذا عنكِ يا سيدة ديلزاير؟”
“يبدو أنّ الكثير يحدث حولكِ هذه الأيام… هل أنت بخير؟ سمعتُ أن والِدكِ حاول جاهداً إنقاذ المشروع لكنه لم ينجح. خفت أن يكون الأمر أوجع قلبك.”
تلقّت إيميلين كل هذه الكلمات المليّنة بابتسامة باهتة.
لم تكن تشعر بشيء مما يصفونه، لكنها أجبرت ملامحها على الابتسام.
“أقدر اهتمامكنّ، لكن المسألة ليست بتلك الخطورة. لا داعي للقلق.”
“بل تستحق الغضب! ماركيز ترانسيوم وقح فعلاً. وافق على التعاون ثم تخلى عن الاتفاق حين لمح مشروعاً أفضل، وكأن شراكتكم عبء، ودفع التعويضات ورحل!”
“حقاً… لا يوجد شخص أكثر جرأة منه في هذا العالم!”
ضحكت إيميلين ضحكة صغيرة رغماً عنها.
والدها بارع في كل شيء… حتى في تزييف الحقائق وترسيخها في عقول الناس.
يا لغرابة الصمت الذي صدر من جهة آل ترانسيوم…
هل لعب والدها على الرأي العام؟ الأمر مريب.
“ما بالكِ؟” سألتها إحدى صديقاتها.
هزّت كتفيها:
“لا شيء… تذكرت قطتي فقط. أطعمته بنفسي هذا الصباح، فردّت المعروف بدلال لطيف.”
ضحكت وهي تعضّ على أسنانها من الداخل.
ذلك الفروّي الصغير أطاحها أرضاً بمجرد أن حاولت مداعبته. ولا تزال يدها تؤلمها من ضربته.
قط لا يعرف صاحبه… ممن ورث طبعه الحاد؟
“هاه؟”
فجأة، أطلقت رينا، ابنة الكونت أدلي، شهقة دهشة وهي تحدّق عبر النافذة الكبيرة.
ثم صاحت:
“انظرن! إنه زينون ترانسيوم!”
تصلبت إيميلين وهي تهمّ بوضع فنجانها. ثم نظرت بسرعة.
ورأته.
وتقاطعت نظراتهما للحظة، لحظة بدت كأن الزمن فيها توقف.
وبينما تجمّدت في مكانها، كان زينون أول من استعاد وعيه… فصرف نظره سريعاً وتابع طريقه بصمت.
“أين؟ دعيني أراه.”
“يا إلهي، إنه حقاً هو.”
“لكن… ملامحه كأنه تشاجر مع أحد. كما هو متوقع من آل ترانسيوم. طبيعتهم الجامحة… يا للهول!”
انزلقت الكرسي من تحت إيميلين حين نهضت فجأة، وصوته ارتطم بالأرض بقسوة، فأخرس الجميع.
نظرت رينا إليها مشدوهة.
“سيدة ديلزاير…؟”
“آسفة… تذكرت شيئاً مهماً. أخرج قليلاً.”
“لا بأس… بالتوفيق.”
“شكراً. وبالمناسبة… كل الناس قد يتشاجرون أحياناً، أليس كذلك؟”
“أ-أجل…؟”
“بل أنا تشاجرت مع قطتي اليوم. قلتُ قبل قليل إنه كانت لطيفاً، لكن الحقيقة أننا نتعارك يومياً. نخدش بعضنا بانتظام.”
“أنا لم أقصد الإساءة…”
“أعرف. فقط… آسفة لأنني حاولت التظاهر بأنني ألطف مما أنا عليه.”
ابتسمت ابتسامة باردة، وتركت رينا شاحبة.
ثم خرجت.
كانت كلمات صديقتها عن آل ترانسيوم كطعنة في صدرها… فالإهانة موجهة لزينون، وليس لغيره.
وبمجرد أن خرجت من المقهى، أسرعت تبحث عنه.
لكن في اللحظة الصغيرة التي ضيعتها في الكلام… كان قد اختفى.
شدّت فستانها وبدأت تركض.
ركضت بلا هوادة… حتى انقطع نفسها.
أين ذهب؟
وقفت تلهث بقسوة، والناس ينظرون إليها باستغراب.
لكن الألم الحقيقي لم يكن في صدرها… بل في الطريقة التي تركها بها زينون، وكأنه يهرب منها.
لماذا ابتعدت؟ كنت تعرف أنني سألحق بك. لماذا لم تنتظر؟
هل أصبح لقاؤهما مستحيلاً؟
هل وصلت الأمور إلى نقطة اللاعودة؟
بحشرجة نفس تثقل صدرها، بدأت تسير مجدداً وتنادي.
“زينون!”
رفعت صوتها تمزّق الحشود.
“زي…”
وقبل أن تكمل، خرج رجل من زقاق مظلم إلى يمينها، ووضع يده على فمها، وجذبها للداخل بسرعة.
كان الزقاق ضيقاً، عتمته كثيفة ورائحته رطبة.
تجمدت لثوانٍ مع المفاجأة، ويدها تتحسس اليد التي تغطي فمها… يد رجل، كبيرة، قوية.
وذراعه الأخرى تحيط بها من الخلف.
وبينما تتسارع أنفاسها… وصلها عطر زهري تعرفه جيداً، خفيفاً وهادئاً… من دون أثر السجائر.
التعليقات لهذا الفصل " 41"