كانت عينا إيميلين الزرقاوان ممتلئتين بالارتباك والصدمة، ترتجفان بعنف. لا تزال تتذكر بوضوح صدمتها عند رؤيتها لأول مرة بيلينا، عشيقة المركيز.
منذ صغرها، علّمها والدها أن الاحتفاظ بعشيقة فعل مخزٍ وقديم ووضيع. وكان يقول دائماً إن وُلد طفل غير شرعي من مثل هذه العلاقة، فسيبقى وصمة لا تُمحى من الحياة. ولهذا السبب، انغرست في معتقدات إيميلين فكرة أن العشيقات كائنات وضيعة.
لكن الآن… عشيقة؟! ومن بين الجميع… عشيقة للمركيز الذي كان والدها ينتقده دائماً ويصفه بالفُحش؟
وقفت إيميلين مكانها، وعلى وجهها صدمة جعلت نظراتها تتوه بلا هدف، بينما عادت أصوات الخادمات تخترق مسامعها من جديد.
“أشكّ أنه كان يجهل أن الأمور ستؤول إلى هذا…”
“ساندي، لا تقفزي إلى الاستنتاجات. لا أحب أن أقول هذا ونحن نعمل هنا، لكن النبلاء الذين يبدون في غاية الرقي والنقاء غالباً ما تكون حياتهم الخاصة… قذرة. كلما امتلكوا أكثر، ازداد جشعهم.”
“بينيكا، لا ينبغي أن تقولي هذا.”
“أعرف، لكن يبدو أنك لا تدركين كيف يكون النبلاء حقاً… دعينا ننهي هذا الحديث.”
“نعم، يجب أن نلتزم الصمت… حتى لو نتحدث بيننا، لو سمعت الآنسة أو لو خرج الأمر من هنا، فسنُعدّ في عداد الموتى.”
انتهى الحديث بتنهد من الخادمات. ظلّت إيميلين ممسكة بحافة الدرابزين، غير قادرة على الحركة.
ثم خطرت لها فجأة فكرة مزعجة.
ماذا عن زينون؟
فكرت بالأمر بجدية. لا يمكن أنه لم يتعرّف إلى صوت بيلينا، الصوت الذي بدا مألوفاً جداً في تلك اللحظة.
وبينما كانت تغوص أكثر في أفكارها، سمعت صوتاً خلفها ينادي:
“آنسة؟”
كان أحد الخدم قد لمحها. التفتت الخادمات اللواتي كن ينظفن الدرج العلوي بسرعة نحو مصدر الصوت.
“متى عدتِ؟ السيد ميلتون الذي رافقكِ عاد منذ فترة، وكنت أتساءل، لكن يبدو أنك وصلتِ مبكراً.”
“…لقد عدت للتو. أودّ أن أستريح، فحضّروا لي حماماً.”
خشية أن تقع الخادمات اللاتي تجسست على حديثهن في مأزق، تظاهرت إيميلين بعدم سماع شيء.
“حالاً يا آنسة.”
أومأت إيميلين وصعدت الدرج نحو الطابق الثاني. شعرت بنظرات الخادمات على ظهرها، لكنها حافظت على هدوئها وسارت بثبات في الممر.
—
بعد استحمامها، تلقّت إيميلين رسالة من أحد الخدم قبل العشاء بقليل.
كانت فكرة رؤية والدها على مائدة العشاء كافية لجعل نفسها تتثاقل، ففتحت الرسالة بلا اكتراث.
لكن عينيها توقفتا فجأة.
“رسالة من أخي؟”
ضيّقت إيميلين عينيها قليلاً. لم تكن مقرّبة من أخيها، ولم يكن بينهما تبادل للرسائل عادة.
حصل على كل ما كانت تتمنى الحصول عليه دون أي عناء، وهذا وحده جعله من أصعب الناس للتعامل معه.
مندهشة، فتحت الرسالة.
[مرحباً يا أختي العزيزة. سأعود إلى المنزل قريباً، ولديّ بعض الأخبار المسلّية لأخبرك بها. آمل أن تبقي بخير إلى ذلك الحين.]
…ماذا؟
بعد قراءة الرسالة القصيرة، بقيت إيميلين تحدّق في الورقة بصمت.
أخبار مسلّية؟ ماذا يعني؟
أسوأ توقيت ممكن. لم تكن في مزاج يسمح لها بالتفكير في “أخبار” كهذه.
نظرت إلى الرسالة مرة أخرى. بدت وكأنها كُتبت بنيّة ما، لكن لم تستطع فهم تلك النيّة.
وفي النهاية، ألقتها بإهمال على طرف مكتبها وغادرت غرفتها.
حان وقت العشاء. وقت مواجهة والدها.
بخطوات ثقيلة، توجهت إلى غرفة الطعام، حيث وجدت الدوق جالساً بالفعل.
“هل كان يومك لطيفاً يا أبي؟”
تظاهرت بالتماسك وهي تراقب تعابير وجهه.
لم يجب، بل اكتفى بإيماءة عابسة، وهو ما لم يكن غريباً عليها الآن بعد أن عرفت ما حدث.
“لنبدأ.”
“نعم. شكراً على الطعام.”
بدأ برنارد الطعام، ولحقت به إيميلين.
استمر الهدوء لبعض الوقت قبل أن تجد هي فرصة للحديث.
“أبي، خلال خروجي اليوم… صادف أنني سمعت شيئاً. سمعتُ أن المركيز انسحب من المشروع التجاري الذي كان يعمل عليه معك.”
حافظت على توازن صوتها قدر الإمكان، تراقب تعابيره. وكما توقعت، ازداد عبوس وجهه عمقاً.
“هكذا جرت الأمور. لا شأن لك بذلك.”
“أفهم. إذن ليس الأمر مهماً.”
“…نعم، صحيح.”
على الرغم من قوله، ازدادت قسوته في الملامح. شعرت إيميلين بالحنق يعود إليها.
شدّت قبضتها على السكين وقالت:
“…وهناك أمر آخر سمعته. قد يبدو سخيفاً، لكنهم يقولون إن لعشيقة المركيز علاقة بكل ما حدث. وهناك شائعة أن أحداً من منزلنا… قام بأمر غير لائق معها، فانسحب المركيز من المشروع.”
صمتت بعدها، ونظرت مباشرة إلى والدها.
وما إن التقت عيناهما… حتى تغيّرت ملامحه واشتعل الغضب في وجهه.
وفجأة دوّى صوته:
“من أين سمعتِ هذا الهراء؟! ولماذا ترددينه؟!”
تجمدت إيميلين مكانها. احمرّ وجه برنارد بشدة، كمن تلقّى إهانة لا تُحتمل.
“هل تعنين أن جهودي التي امتدت لسنوات انهارت بسبب أمر تافه كهذا؟ كيف تجرئين على ذكر شائعات تُهين اسم عائلتنا؟!”
وقبل أن يواصل، سارعت إلى إنهاء الحديث:
“أنا آسفة يا أبي. لم أفكر جيداً. كنت أعلم أنها مجرد شائعات.”
لم يكن شخصاً من المنزل… بل أنت.
خفضت رأسها معتذرة، وهي تكتم غضبها.
أما الحقيقة… فهي أنها رأت خيانته بأم عينها.
وكان الصوت الذي سمعته هناك، بلا شك، صوت عشيقة المركيز.
“سأقوم بما أستطيع للتعويض عما بدر مني يا أبي.”
رمشت بعينيها وكأنها بريئة، لكن برنارد انصرف بنظره عنها بكره واضح.
“لا داعي لذلك. وماذا ستفعلين أنت؟ إذا فهمتِ خطأك، فلا تكرري ذكره. إنه مجرد فخ نصبه ذلك الرجل الحقير لتشويه اسمنا.”
كان حقده على المركيز واضحاً. تماماً كما توقعت… العداء بين العائلتين ازداد سوءاً.
“سأفعل يا أبي.”
“سأنشغل كثيراً الفترة القادمة، لذا تناولي عشائك وحدك.”
“حسناً.”
أجابته بهدوء وعادت للأكل، تحاول خنق الغضب الذي يتصاعد بداخلها.
“أنت حقاً أناني للغاية.”
لم يسبق أن رأته بهذا القدر من القبح.
تجاهله لحقيقة ما فعله، وطريقة تعامله معها وكأنها عديمة القيمة… جعلتها تشعر بالقرف.
ومع ذلك تناولت طعامها في صمت.
—
“هاه…”
ما إن عادت إلى غرفتها بعد العشاء حتى أطلقت تنهيدة طويلة.
“سأتذكر ذلك.”
كونها لم تتمكن من قول شيء سوى هذا، جعلها تمقت نفسها. شعرت وكأن شيئاً يخنقها داخل صدرها.
ظلت متكئة على باب غرفتها طويلاً، رأسها منكس، ثم تحركت أخيراً.
بخطوات متعبة، توجهت إلى مكتبها، سحبت كرسيها، وأخرجت كتاباً كانت تخفيه في درج المكتب.
كان كتاباً للتحضير لامتحان دخول الجامعة.
فتحته بعزم. كان هذا الشيء الوحيد الذي تستطيع فعله الآن.
كانت ترغب في مواجهة والدها وفضح خيانته، لكن… كانت تخشى كل ما سيتبع ذلك.
والدتها… التي يزورونها أسبوعياً.
خشيت أن تعرف الحقيقة. خشيت أن يدمّر الخبر قلبها الضعيف وهي لم تكمل تعافيها. كانت ابتسامتها وقت الزيارة الشيء الوحيد النظيف في حياتهم.
لم تستطع أن تحطم قلب شخص عزيز… فقط لتخفف ألمها هي.
أغمضت عينيها بقوة، وزفرت، ثم نظرت إلى كتابها. أجبرت يدها المرتجفة على الإمساك بالقلم.
حتى لو كان هذا الشيء الوحيد المتاح…
حتى لو كان بائساً أن يكون ردها الوحيد هو “الدراسة” بلا أي صلة بما يحدث.
لكن ما دامت عاجزة عن تغيير الواقع الآن… فلتفعل ما تستطيعه.
أن تبقى مصدومة بلا حركة، تنتظر معجزة… سيكون تصرفاً أحمق.
“تماسكي يا إيميلين. الامتحان قريب. لو أصبحتِ أفضل… قد تتغير الأمور.”
القوة لحماية من تحب. القوة لمعاقبة من يخطئون. الثقة لتقول رأيها دون خوف. ربما ستحصل على كل ذلك.
حاولت جمع عزيمتها، وشدت قبضتها على القلم، تجبر يدها الشاحبة على الحركة.
حتى لو ارتجفت حروفها، ظلت تكتب… وتكتب.
لأنني وعدتك.
حتى ولو كان وضعها بائساً… عليها أن تستمر.
“زينون… سواء كنت تعرف بخيانة والدي أم لا… يجب أن أحدثك بنفسي.”
التعليقات لهذا الفصل " 40"