وجدت إيميلين نفسها واقفة أمام مكتب والدها، تتنازعها أفكار كثيرة، والقلق يتدفّق في صدرها. لكن لم يكن هناك طريق آخر لحلّ هذه المعضلة.
همس زينون، وقد شعر بارتباكها:
“لا تقلقي… إنه ليس في المنزل الآن.”
حاولت إيميلين أن تبدو ثابتة، فأومأت برأسها، ثم أدارت مقبض باب مكتب والدها بيدين مرتجفتين.
أغلقت عينيها للحظة عند فتح الباب. فكرة التسلل إلى مكتب والدها وسرقة شيء ما، أمراً لم يخطر ببالها يوماً في الظروف العادية، لكنها الآن تعيشه حقيقةً.
خشية أن يراهما أحد، جذبت زينون بسرعة إلى داخل المكتب.
قال زينون وهو يلقي نظرة سريعة على المكان:
“الرسائل مكدّسة هناك.”
تراكمت على المكتب رزمة كبيرة من البريد، لعلها تراكمت خلال غياب والدها لأسبوع كامل.
اقتربت إيميلين من المكتب وبدأت بفرز الرسائل. كان قلبها يخفق كأنها ترتكب أول سرقة في حياتها. وربما كانت كذلك فعلاً.
وفي منتصف الكومة، لمحت ظرفاً أخضر مختوماً بختم جامعة روبيلك.
ترددت لحظة… ثم امتدت يدها وخطفته سريعاً.
ارتعشت أصابعها من وطأة الذنب، لكنها لم ترَ طريقاً آخر لتحقيق أحلامها. رغبتها كانت أقوى من خوفها، فدفعت الرسالة في جيب تنورتها.
وحين التفتت نحو زينون بتعبيرات متشابكة، ربت على رأسها ليهدئها.
“لا بأس.”
“…أعلم.”
“أنتِ لا تؤذين أحداً. كل ما تفعلينه هو أنك تحاولين السير في الطريق الذي تريدينه. المخطئون هم من يحاولون منعك.”
عبس زينون، كأنه يحمّل العالم كله وزر ما يقف في طريقها.
لم يكن خطأها… بل الظروف التي دفعتها لهذا.
ارتخت ملامحها بهدوء. في كلمات زينون دائماً شيء يوقظ القوة فيها، وكأن عينيه تحملان يقيناً ينساب إليها كلما تحدّث.
لعل هذا اليقين هو ما يدفعها للاستمرار.
قالت بإعجاب خافت:
“تفكيرك مختلف عن الآخرين.”
ابتسم زينون، ومالت شفتاه ابتسامة صغيرة:
“وهل يجعلني هذا غريباً؟ إن كان كذلك… فأنتِ غريبة أيضاً.”
“لا… بل مميّز.”
ابتسمت بلا تردد. من الغريب حقاً أيهما سيظهر في النهاية… هل العالم هو الغريب لأنه حاول إيقافها، أم زينون لأنه سار بعكس الجميع؟
النتيجة وحدها ستجيب.
راقب ابتسامتها الهادئة بنظرة مطمئنة، ثم شبك أصابعه بأصابعها.
“الآن بعد أن حصلنا على الرسالة… لنذهب.”
“نعم.”
كان عليهما المغادرة بسرعة؛ فقد يدخل كبير الخدم في أي لحظة.
لكن، وقبل أن يخطوا نحو الباب، دوّى اضطراب من الخارج.
تجمّدا معاً. أصوات مكتومة وخطوات تقترب.
“من القادم…؟”
أشارت إيميلين لزينون بالصمت، وأرهفت السمع.
وبعد لحظات، شحب وجهها.
وانسلَّ صوت مرتجف من شفتيها الباهتتين:
“والدي… عاد.”
اتسعت عينا زينون.
“ماذا؟ عاد فجأة؟”
لكن لم يكن هناك وقت للتوضيح. راحت إيميلين تبحث عن مخرج يخلّصهما.
الفرار عبر النافذة؟
مستحيل… المكتب في الطابق الثالث.
الاختباء؟
أين؟
كانت أفكارها تتهاوى بتوتر شديد.
“هل عاد أنطوني؟”
“نعم، سيدي.”
“حسناً… سنتحدث لاحقاً. لدينا ضيف كما ترى.”
اقتربت الأصوات… وتعلقت أنفاس إيميلين.
في تلك اللحظة، جذبها زينون من ذراعها.
أشار بعينيه نحو خزانة ضيقة في آخر الغرفة.
اتسعت عيناها، لكنها لم تفكر كثيراً. سحبت زينون معها، وانزلقا داخل الخزانة في اللحظة التي فُتح فيها الباب.
ضغطت يدها على فمها تكتم أنفاسها. كان قلبها يتسارع.
من خلفها، كانت تسمع نبضات قلب زينون تضرب صدره بقوة.
كان المكان ضيقاً للغاية، وأجسادهما متلاصقة، وجلست إيميلين مستندة إلى جسده.
ارتعشت يداها، فتنفست ببطء علّها تهدأ.
وجوده خلفها وحده كان يخفف خوفها.
دفعت قدماها باب الخزانة، فاضطرت إلى الرجوع للخلف. عندها صدر صوت تنفّس حار فوق رأسها.
“المكان… ضيق جداً.”
“…تحمّل قليلاً.”
“إيميلين، لا تتراجعين أكثر؟”
“الباب يضغط على قدمي… ماذا أفعل؟”
“هه… إذن على الأقل ابقي ساكنة… حسناً؟”
لامست أنفاسه الساخنة أذنها ووجنتها.
ثم أحاطها بذراعيه ليمنعها من الحركة. استند جبينه إلى كتفها.
دفء جسده اجتاحها من خلال ملابسها الرقيقة.
وقبل أن تنطق، ارتجفت لسماع صوت ينادي اسمها من الخارج.
“أين إيميلين الآن؟”
“زارها الشاب ترانسيوم قبل ساعات، ولعلها معه.”
“سأتغاضى عن هذا مؤقتاً… لكن أخشى أن تكتسب عادات سيئة.”
تنهّدت إيميلين في داخلها.
ويبدو أن والده منشغل بضيف ذي شأن.
هذا يعني… أنهما سيظلان محبوسَين هنا فترة طويلة.
مررت يدها برفق على رأس زينون وهو على كتفها، وهمست:
“زينون… هل أنت غير مرتاح؟”
كان هناك شيء غريب في سلوكه.
تنفّس طويلاً قبل أن يجيب:
“…إن بقينا قليلاً فقط… سأكون بخير.”
“ليس أمراً خطيراً، صحيح؟”
“على الأرجح… أنتِ أيضاً لستِ مرتاحة، فلا تقلقي عليّ.”
“إن كان الأمر كذلك…”
لكن كلماتها انقطعت حين شقّ صرخة امرأة حادّة الأجواء.
تجمّدت إيميلين.
ثم انطلقت ضحكة أنثوية ذات نبرة لاهية:
“لم أتوقع أن تكون تستدعيني بهذه السرعة، يا صاحب السمو.”
ضيقت إيميلين عينيها. كان الصوت مألوفاً… لكنها لم تتعرّف عليه تماماً.
في تلك اللحظة شدّ زينون ذراعيه حولها فجأة.
ثم جاء الحوار… كصفعة.
“لا يعلم أين أنتِ الآن، تقضين وقتك معي… وهو هناك، يعدّ حساباته وهو يفكر بك، دون أن يعرف أنك… أمامي مباشرة.”
“أليس كذلك، يا صاحب السمو،ياله من مغفل…”
شحبت بشرة إيميلين تماماً.
ثم دوّت أصوات واضحة:
حديث مرتفع..
صرير مكتب…
وضحكات امرأة…
وحين تجمعت تلك الأصوات… أدركت إيميلين الحقيقة كأنها هوت عليها من السماء.
التعليقات لهذا الفصل " 34"