إميلين أسرعت إلى الشرفة، تنظر إلى زينون بملامح مصدومة، بينما كان يرفع سبابته إلى شفتيه.
ولم يطل الأمر حتى نزل بسرعة من الشجرة.
لم تستطع إميلين أن تبعد عينيها عنه، وقد شعرت بدوار خفيف. كان من حسن الحظ، كما فكرت، أن الشجرة لم تكن عالية جدًا.
زينون، وهو يرفع رأسه لينظر إليها، بدا مرتبًا على نحو مدهش بالنسبة لشخص صعد شجرة ونزل منها لتوّه.
وبما أنّ غرفتها تقع في الطابق الثاني، فقد مالت إميلين إلى الأمام لتنظر إليه من فوق.
“…ما الذي يُفترض بنا أن نفعله الآن؟”
إميلين، التي لم تفكر إلا في الخروج من الباب الأمامي من دون أن ينتبه الخدم، أدركت غريزيًا ما سيحدث تاليًا.
كان الأمر يبدو كما لو أنّ شيئًا غير معقول سيقع، شيئًا… لا يمكن تصديقه.
وبالفعل، أمال زينون رأسه إلى الخلف لينظر إليها، ثم فتح ذراعيه. وابتسم مرددًا بصوت خافت من دون أن ينطق: “سألتقطك.”
استوعبت إميلين ما عناه، فصُعقت.
الآن؟ تقفزين الآن؟
أنا؟
ورغم أنّ المكان لم يكن مرتفعًا للغاية، فإنّ هذا الفعل كان ينافي كل ما تؤمن به إميلين.
أيّ سيدة محترمة تتسلّق عبر نافذة؟
وفوق ذلك… هل ستنجو من الإصابة؟
وبهذا المعدل، سينتهي بهما الأمر يقفزان فوق جدار القصر بعد الوصول إلى البوابة. هزّت إميلين رأسها بسرعة.
أمال زينون رأسه متعجبًا، وتلفّظ بصمت: “لا شيء يستدعي الخوف.”
حرّكت إميلين عينيها في ضيق. شعر زينون الذهبي كان يتطاير تحت النسيم وهو ينظر إليها من الأسفل.
وبعد لحظة تردد، قالت: “الأمر ليس خوفًا فقط، هذا…”
“لا أحد يراك، فلم لا؟”
“أتعلم أنّك رجل؟”
لو قفزت فعلًا من الحاجز، فقد يرى شيئًا بسبب الريح…
وفوق كل ذلك، أرادت إميلين أن تبدو بأبهى صورة أمام الشخص الذي تُعجب به.
وكأنّه قرأ أفكارها، انفجر زينون ضاحكًا.
“أنت جميلة كيفما فعلتِ.”
“…أنت حقًا تعرف ما تقوله.”
“سأغلق عينيّ إذن. وسأتمكن من التقاطك مع ذلك، فلا تقلقي… انزلي.”
أغمض زينون عينيه وفتح ذراعيه أوسع مما سبق. نظرت إميلين إلى رموشه المنخفضة تواضعًا، ثم نقلت نظرتها إلى الحاجز.
حتى لو لم تكن ستموت إن سقطت… إلا أنّ الأمر كان مرعبًا قليلًا.
وبينما كانت مترددة، متشبثة بالحاجز، سمعت صوته يتسلل من الأسفل كأنّه همسة شبح:
“لا تخافي.”
لم تستطع رؤية شفتيه لأنه تحدث في لحظة كانت فيها مشتتة، لكنها لمحت الكلمات بوضوح.
بعد تفكير، اتخذت إميلين قرارها.
فمن الصعب جدًا أن تتراجع الآن… وفوق كل شيء، كانت تريد الذهاب لرؤية الألعاب النارية مع زينون.
بحزم، جمعت تنورتها وجلست فوق الحاجز.
ورغم كلّ مخاوفها، وثقت بزِينون.
انتقلت إلى الموضع الذي ظنّت أنه قادر على التقاطها فيه، ثم أخذت نفسًا عميقًا.
وندَفَعت من الحاجز وقفزت.
اخترق الهواء جسدها بقوة، وكانت لحظة السقوط حادة وصادمة. خفق قلبها بعنف.
وقبيل أن تغمض عينيها تمامًا، لمحته يفتح عينيه قليلًا ليتأكد من اتجاه سقوطها.
ثم خطا خطوة ليضبط موقعه بدقة.
ولم يطل الأمر حتى استقرت إميلين بين ذراعي زينون الدافئتين والمألوفتين.
غمرتها المفاجأة، فطبقت ذراعيها حول الدفء الذي أمسك بها. وفي اللحظة نفسها، أحاطت ذراعاه القويتان خصرها ووركيها، ثابتتين لتدعيمها.
شعرت به يعدّل توازنه لحظة واحدة. ثم وقف مستقيمًا بثباتٍ كامل.
لقد أمسك بها بأمان.
وإميلين، المتشبثة به مثل أرنب مذعور، رفعت رأسها بخجل لتنظر إليه.
“مرحبًا.”
حيّاها بصوتٍ مازح.
حدّقت به للحظة، ثم انفجرت ضاحكة على نحو متأخر.
بعد أن صارت بأمان بين ذراعيه، بدا الخوف الذي شعرت به سخيفًا، وغمرها شعورٌ غريب بالانتشاء.
ابتسمت إميلين وسط الهواء البارد وأضواء الحديقة الناعمة.
“…بصراحة، لا أعلم من أين أبدأ في تعداد الأخطاء التي ارتكبتها الليلة.”
من وقاحته إلى أفعاله المجنونة…
تنهدت إميلين كما لو أنّ صداعًا ألمّ بها، لكن ابتسامتها بقيت مرسومة.
وضعها زينون على الأرض برفق.
“هل نذهب؟”
“قبل أن يُمسك بنا أحد. بسرعة.”
“حسنًا.”
وتشابكت أيديهما وهما يشقان طريقهما نحو بوابة القصر، متجنبين الأنظار.
وبالفعل، كان على إميلين أن تتسلق الجدار بنفسها. وبمساعدته، اجتازته بطريقة ما.
طوال الوقت، لم يغادرها ذاك التفكير… هذا جنون.
“يبدو أنّ الألعاب النارية بدأت. لنسرع.”
لكن بينما تركض يدًا بيد مع زينون نحو الساحة، مندفعة بحماسه، اختفت كل تلك الأفكار.
ما المشكلة؟ لمرة واحدة؟
طالما لم يعلم أحد، فلن تكون هناك مشكلة.
وبهذه الأفكار، أدركت إميلين شيئًا فشيئًا طعم الحرية.
الريح التي تداعب شعرها، وتلك الخطوات الخفيفة، كانت تمحو الثقل عن قلبها.
وحين انفجرت الألعاب النارية أخيرًا في السماء، شعرت بامتلاءٍ عارم.
وفي الساحة المكتظة، بينما كانت تنظر إلى السماء، سألها زينون: “ليست سيئة، أليس كذلك؟”
“بلى.”
لم تكن فقط “ليست سيئة”…
كانت مذهلة.
أكثر جمالًا من أي منظر فاخر رأته طوال حياتها.
وتحت الألعاب النارية، نظرت إميلين إلى زينون المبتسم بمشاكسة.
وبرغم أنه هو الذي اقترح القدوم، إلا أنه كان ينظر إليها أكثر من نظره إلى السماء.
لم تستطع فهم تصرفه، فأطلقت ضحكة صغيرة. والحقيقة أنها هي الأخرى كانت تنظر إليه أكثر مما تنظر إلى الألعاب النارية، وهو يتوهج تحت ألوان السماء.
هل شعرت يومًا بهذه الطريقة تجاه أي شخص؟ لم تعش ذلك من قبل، لكنها الآن تعرف كيف يكون.
مدّت يدها ولمست وجنته بلطف، مضاءة بوميض الألوان.
ومال زينون بهدوء نحو لمستها. كان الابتسام الرقيق على شفتيه يجعل قلبها يخفق.
يا لها من غرابة.
في البداية، كان كل ما يفعله يثير غضبها… والآن؟ لا شيء منه يزعجها.
كانت تشعر بالرفق في نظرته وفي أفعاله. والآن فقط استطاعت رؤيته حقًا.
وفجأة، قال زينون وهو ينظر إليها: “أنت جميلة.”
كان صوته أشبه بالهمس التلقائي، أو كأنه يغوص في أعماق قلبها.
بدت أفكاره متطابقة مع أفكارها. مختلفان… لكن متشابهان في الكثير.
أطلقت إميلين ضحكة خفيفة بلا معنى. وبدلًا من الرد، اقتربت أكثر.
وبالوقوف على أطراف أصابعها، حتى كادت أنفها تلامس أنفه، نادته بهدوء:
“زينون.”
“نعم.”
“شكرًا لك.”
لأخذها إلى هنا.
وانفرجت شفتيها بابتسامة مشرقة مليئة بالبهجة.
“وأيضًا… أنا أحبك.”
اعترفت بخجل، وقبّلت شفتيه. وكأنه كان ينتظرها، التقت شفتاهما بثقلٍ متبادل.
خفق قلبها بصوت أعلى من دوي الألعاب النارية في السماء.
كانت تلك الليلة بلا شك أعظم مغامرة في حياة إميلين ديلزاير.
وأروع مغامرة عاشتها مع زينون.
كان هذا جنونًا حقًا.
فالمرء لا ينبغي أن يكون سعيدًا إلى هذا الحد.
وربما، فقط ربما، كانت حياتها الرتيبة هي الجنون الحقيقي طوال الوقت.
وفي تلك اللحظة، بينما كانت الألوان المتعددة تمزق ظلام السماء، شعرت للمرة الأولى أنها تعيش حقيقةً.
—
في ظهيرة اليوم التالي، جلست إميلين قرب النافذة، تحتسي الشاي بعقلٍ يغلب عليه النعاس، وعيناها شاردتان نحو الخارج المضيء.
“آنسة، هل أنت بخير؟”
قطع صوتٌ خافت شرودها، فالتفتت تنظر.
كانت الخادمة التي أحضرت الشاي تحدّق فيها بقلق.
أملت إميلين رأسها قليلًا. “…ما الأمر؟”
“لا شيء، ولكنك عادة تستيقظين باكرًا، واليوم نمتِ طويلًا، وقد قلقت… خصوصًا أنك ذهبت للنوم مبكرًا ليلة البارحة. هل تشعرين بتوعك؟”
“أظنّ أنني عانيت من صعوبة في النوم البارحة، لذا أشعر ببعض التعب. لكنني بخير، فلا تقلقي.”
ابتسمت إميلين مطمئنة. ويبدو أنهم لم يكتشفوا أنها عادت متأخرة الليلة الماضية.
وبعد أن أنهت شايها، صرفت الخادمة وجلست إلى مكتبها. وسحبت دفترًا سميكًا من أعماق الدرج.
كتبت تدوينة البارحة التي لم تستطع كتابتها من شدة التعب، ثم انتقلت إلى الصفحة التي تتضمن جدولها.
كان تاريخ امتحان القبول في جامعة روبيلك المرموقة، المقرّر بعد شهر، مكتوبًا هناك، وتحتَه خطّ ودائرة.
“بفضل زينون تمكنت من الدراسة باستمرار.”
في الأيام التي لا يأتي فيها، كانت تدرس سرًا في غرفتها متظاهرة بأنها تعمل على التطريز.
“لقد اقترب الموعد بالفعل.”
اشتعل قلبها بالحماسة.
ما كان يخيفها سابقًا، خوفًا من ردة فعل والدها، بات الآن مريحًا… لأنها تعرف أن زينون سيكون معها.
وتذكرت فجأة ما قاله زينون ذات يوم وهما يدرسان في المكتبة:
“أضمن لكِ، عندما تدخلين روبيلك، ستكون المنح والجوائز والمراتب الأولى كلها لك. طالما لن أذهب بالطبع.”
وعندما رمقته بنظرةٍ مشككة، أدار وجهه وهو يحكّ رقبته بخجل.
ثم قال بتردد:
“ولكن، من يدري؟ ربما أتصرف بحماقة حينها… فهل تأتين معي؟ إلى جامعة روبيلك.”
ثم تبع ذلك بابتسامة خجولة. بدا وكأنه يتطلع إلى مستقبل يجمعهما هناك.
“لنذهب ونسأل والدك. وإن لم يوافق، سأركع معك. كيف يمكنه الرفض وأنت بهذا الإخلاص؟”
“سنلتقي هناك. وعد.”
أصرّ زينون على الإمساك بيدها وربط الخنصرين، وختم الوعد بختم صغير.
كان فعلًا طفوليًا، من الأشياء التي يفعلها الأطفال.
ومع ذلك، ضحكت إميلين. لقد كانت ممتنة لإصراره.
وفوق ذلك، كان تمسّكه بالوعد لطيفًا على نحو غريب.
“أؤكد لك، إن ركعت أمام والدي دون تردد… فلن يُسمح لك بدخول منزلنا ثانية.”
“كنت… أفكر في التشبث بقدمه أيضًا. كان ذلك سيصبح كارثة.”
وحين تذكرت ملامحه الجادة، لم تستطع إلا أن تضحك. وجود شخص داعم وغريب الأطوار مثله جعل قلبها يلين.
وتحت كلمة “امتحان القبول”، كتبت اسم زينون ترانسيوم.
لم تستطع النخلص من شعورها أنه بوجوده، ستستطيع إقناع والدها..
وبعد لحظة، كتبت كلمة أخرى قبل أن تطوي الدفتر.
وعد.
التعليقات لهذا الفصل " 32"