3
الفصل الثالث: صاحب السَّعة
عند تلك الجملة التي بدت حادّة بعض الشيء، تردّد ماثيس لثوانٍ كأنه يشك بسمعه، لكنه سرعان ما ابتسم موافقًا. أليس حضورهما هذه الحفلة أساسًا لإعلان علاقتهما أمام المجتمع؟
فقد أخذت الطبقة الراقية تتقبّل شيئًا فشيئًا الزواج القائم على المودّة. النظرة السلبية تجاهه تلاشت منذ زمن، وكانا يخططان لتمثيل “حبّ نقيّ” بدلًا من تقديم ارتباطهما كتبادل مصالح فحسب. فالمظهر المدهش يجذب الأنظار أكثر، ويُجمِّل ما بين العائلتين من صفقات.
رفع ماثيس كفّه، يمسّ خدّ إيميلين برفق، وميلان خفيف في شفتيه زاد من انسجام التمثيلية. قال بنبرة مازحة:
“وماذا عن الآن… قبل أن تنطلق الألعاب النارية؟”
فأجابته بهدوء:
“أيّ وقت يناسبني.”
المهم إعلان علاقتهما أمام الجميع.
وحين تلقّى موافقتها، انحنى ليلامس شفتيها. شفاهه كانت باردة من نسيم البحر، لكن اللمسة نفسها بدت دافئة. قبلة بلا حرارة، بلا روح، بلا نبض متبادل… ورغم ذلك تشكّل بين شفتيهما احتكاك خفيف.
في تلك اللحظة دوّى صوتٌ مدوٍّ في السماء، وتفتّحت الألعاب النارية، تنثر ألوانها فوق الليل، وتضيء وجهيهما بضوء عابر.
فتحت إيميلين عينيها قليلًا وسط القبلة، تنظر فوق كتف ماثيس… وهناك كان زينون ترانسيوم.
شعره الأشقر يلمع بتوهّج الأضواء، لكنه لم يلتفت لشيء. عيناه ثابتتان عليها، بحدة لا تخطئها. وبعناد طفولي، لفّت ذراعيها حول عنق ماثيس، تعمّق القبلة بوضوح مُتعمَّد.
وبينما راقب الضيوف المشهد الرومانسي تحت الألعاب النارية بتنهيدة إعجاب… كانت إيميلين تسخر في داخلها:
“ممتع… تمامًا كألعابك يا زينون.”
وكان آخر ما رأته قبل أن تُغمض عينيها هو زينون وهو يطفئ سيجارته ببطء. ثم انغمست في القبلة، تدع نشوة صغيرة ترتفع في صدرها، إلى أن خمد ضوء السماء وخفتت حرارة اللحظة.
—
سَرَتْ ساعات الحفلة بسرعة حتى غاص الليل في سكونه.
السطح الذي لن يصل المرسى قبل الفجر صار أكثر هدوءًا، وكان ماثيس قد نزل لمناقشة العمل مع الكونت دونالد.
وقد يبدو تخليه عنها بلا لياقة، لكن الحقيقة أنها هي من رفضت مرافقة ماثيس لها إلى المقصورة. بقيت وحدها على السطح، نصف مترنّحة من الشراب، تنظر لبعض المتبقّين من الضيوف ثم نحو البحر.
جاء صوت الموج في الظلام… يدغدغ شيئًا في صدرها.
ابتسمت ابتسامة مُرّة.
“طعم مرّ… قليلًا.”
كانت تقصد القبلة. رغم أنها مجرد تمثيل، لم تتوقّع أن قبلة خطيبها لن تحرّك فيها ساكنًا.
ذبلت ابتسامتها.
لم يسبق لأحد أن حرك فيها ما حرّكه زينون ترانسيوم… لا قبله ولا بعده.
أغمضت عينيها تنهيدة طويلة…
وفجأة هبط دفء ثقيل على كتفيها. لامس قماشه بشرتها المكشوفة، يحجب عنها برد البحر.
فتحت عينها، ظنًّا منها أن ماثيس عاد. وكادت تضحك بخفة… لكنها توقفت.
تيبّست ملامحها.
لم يكن ماثيس.
وقبل أن تفهم، اقترب الرجل خطوة. خطوتان. حتى حاصرها بين ذراعيه، يديه على السارية.
انحبست أنفاسها، وعيناها اتسعت بهلع خفيف.
وعندما التقت نظراتهما… كان هو.
زينون.
“مرّ وقت طويل يا ليدي ديلزاير.”
صوته… الصوت الذي أحبّته يومًا، والذي همس لها بوعود كثيرة.
ارتبكت.
ترددت.
هل هذا حلم، أم عودة بلا منطق؟
بخلاف تحيته الهادئة، كان وجهه خاليًا من أي أثر للابتسام.
“زينون…؟”
نادته بذهول، فرفع يده إلى أذنها. ملامسة دافئة… غير واقعية.
مرّر إبهامه على طرف أذنها بلطف مباغت… ثم ضغط فجأة.
شهقت.
تشنّجت.
عرف مناطق ضعفها كما في السابق، وكأنه لم يفارقها يومًا.
استجمعت نفسها.
“ما الذي تفعله؟!”
حدّق بها، حاجباه يضيقان ببرود.
وحين تكلّم، كان صوته منخفضًا، رسميًا.
“يبدو أنّ ليدي ديلزاير غير سعيدة برؤيتي.”
لم تصدّق ما تسمعه.
هو؟ هو من يقول هذا؟
الرجل الذي تركها، تجاهل رسائلها، ثم خَطَبَ غيرها وهو بالخارج؟
“ابتعد.”
لمعت عيناها غضبًا، لكنه ضحك ضحكة قصيرة مُرة، وقال بصوت كالسيف:
“ما زلت عنيدة كما عهدتك.”
اقترب أكثر، نبرته تهديد خافت.
“هل ظننتِ أنني سأتخلى عنك بسبب بضعة أسطر في رسالة؟”
“ماذا؟”
“أو كنت تتوقعين أن تؤذيني بتباهيك بعشيقك الثمين؟”
لم تعرف ما ترد.
عيناه كانتا تغليان غضبًا لا يشبه غضبها.
هي من يجب أن تصرخ، هي الضحية.
هو القاطع، هو الخائن… لكنه يقف أمامها كأنه المتألم.
عاد يسحب أنفاسه بحدة، يقترب أكثر.
“استمتعتِ بمحاولاتك في تركي طوال هذا الوقت، صحيح؟”
أرادت الرد، لكنه قاطعها، نبرة صوته أكثر سوادًا:
“لكن ماذا أفعل؟ ما زلت قادرًا على الظهور في عالمك البهيّ وقتما أشاء. في اللحظات السعيدة تحديدًا. أتسلّل… وأُفسِد.”
ضغط على أذنها مرة أخرى، فاتسعت عيناها ألمًا.
اقترب إلى حد الهمس:
“وستدفعين ثمن كل جرح تركته في قلبي.
فأنت تعلمين… لستُ رحيمًا.”
ثم قبض على ذقنها بعنف… وخطف شفتَيها.
قبلة خاطفة… ثم غزو كامل.
شهقت، متجمّدة، لكن لا فائدة.
أنفاسه الساخنة غمرت فمها، صوته يختلط بأنفاسها.
حاولت الهرب، لكنه ازداد قربًا كلما قاومته.
وعندما تلاقت عيناهما… تجمّدت.
في نظرته سوادٌ أعمق من ليل البحر.
غضبٌ يبتلع غضبها.
قبلة خشنة، موجعة، صوت امتزاج الأنفاس مخزٍ.
ضعُفت مقاومتها.
والأسوأ… أنه يعرف أين يلمس وكيف يربكها.
كما يفعل دومًا.
ارتسمت تكشيرة ألم على وجهها.
آخر ما كانت تحتاج إليه هو هذا الجنون القديم يعود ليحاصرها.
وتحت كل هذا… غضبها كان يغلي.
وفي لحظة امتلأت بالمهانة… عضّت شفتيه بكل ما تملك.
طعْم الدم صدمها.
ارتدّ مبتعدًا، وأنفاسه ساخنة.
ثم…
صفعة.
صوتها شقّ الهواء.
ظلّ واقفًا، يحرك رأسه ببطء. لامس خده المحمّر. نظر إليها… وابتسم ابتسامة صغيرة مكسورة.
“ردّ قوي.”
ارتجفت أنفاسها، عيونها تلمع بالدموع.
“هل تلهو؟ أنت من فعل هذا كله، زينون!”
“نعم. تهوّرت. خصوصًا أنك تملكين رجلًا آخر الآن…”
توقفت كلماته، حادّة النظرة.
ثم ابتعد خطوة.
لكن صمته كان مليئًا بشيء لا يمكن تفسيره.
تمتم بصوت خافت، كأنه يشكي:
“ما زلتِ تظنّين أنني سهل.”
“…ماذا؟”
ومثل تناقض غريب… رفع خصلة من شعرها، يبعدها عن وجهها… بلا اعتذار.
حدّق بها طويلًا، بعينين قاتمتين، ثم استدار مبتعدًا.
يمشي… يبتعد… حتى اختفى.
وقفت في مكانها مصدومة، ثم خرج منها ضحكٍ بلا روح. كانت خاوية، تنحني على السارية وكأن جسدها بلا طاقة.
“معتوه…”
مسحت شفتيها بظهر يدها.
قلبها كان يركض بجنون، رغم كل ما حدث، رغم اشمئزازها من نفسها.
بردت شفاهها تدريجيًا.
وتجمّد كل شيء.
تنفّست بعمق، صوت موج البحر وحده يملأ العالم.
غلّفت عينيها بإحكام، تحاول الإفلات من كل هذه الذكرى التي هاجمتها مثل عاصفة.
المترجمة سيران💮.
التعليقات لهذا الفصل " 3"