عندما سمعت إيميلين الاسم الغريب من الخادم، أمالت رأسها باستغراب.
فبعد أن أُبلِغت بوصول عرض زواج لها، سألت عمّن أرسله، فجاءها الاسم الذي لم تسمع به من قبل.
“رسالة من دِينيل هيربا.”
“…أيمكن أن يكون الابن الأكبر لأسرة الكونت هيربا؟”
“نعم، هذا ما قاله الشخص الذي أحضر الرسالة.”
أومأت إيميلين قليلاً، وتسلّمت الرسالة التي قدّمها لها الخادم باحترام. فتحتها بلا اهتمام مستخدمة سكين الورق.
لم تكن قد دخلت المجتمع الراقي بعد، ولا حضرت أي مناسبة اجتماعية، ومع ذلك جاءها عرض زواج. بدا واضحاً أنهم تقدموا إليها لمجرّد اسم عائلتها.
`طموحهم كبير… لكنهم يبدون حمقى بعض الشيء.’
`لو أرادوا ضمان قبول العرض، لكان عليهم كسب ودّ أبي أولاً وتقديم شروط مناسبة، ثم الطَرق على باب مكتبه.`
سخرت إيميلين من سوء تقديرهم، ثم طوت الرسالة وأعادتها إلى الخادم.
وكما توقعت، كانت مجرد رسالة غزل فارغة، متخمَة بجمل منمّقة بلا أي مضمون حقيقي. كلمات يمكن أن تُوجَّه لأي فتاة أخرى بمجرد تغيير اسم المتلقية.
“اكتب ردّاً مهذباً بالرفض وأرسله.”
“حاضر يا سيدتي.”
وبعد انصراف الخادم، أخرجت إيميلين الدفتر الذي كانت تخفيه تحت إحدى الصحف.
قسّمت فيه بانتظام ما درسته قبل أيام، وما تخطط لدراسته اليوم.
`كان من المفترض أن يأتي زينون اليوم.`
في مرحلة ما، بدأت إيميلين تتطلع إلى الأيام التي يزور فيها زينون.
ظنّت أنها لن تعتاد على طباعه المفاجئة والمشاكسة مهما طال الوقت، لكن بعد أن جرفها تيار طباعه، وجدت نفسها تعرفه أكثر من أي شخص آخر.
`ويبدو أنه أصبح مرتاحاً معي أيضاً.`
بعد الكثير من الوقت معاً، صار زينون يظهر لها جوانب لم ترها من قبل.
فهو الذي يبدو مرحاً دائماً، تتحول ملامحه إلى جدّية حين يركز.
وأحياناً كان يكتفي بمراقبتها وهي تدرس، وعندما تلتقي عيناهما، يبتسم لها بهدوء.
`رغم ذلك، ما زال من الصعب معرفة ما يفكر فيه حقاً…`
ابتسمت إيميلين دون وعي، ثم أغلقت دفترها ونهضت. رغم أنه لم يصل بعد، قررت الذهاب إلى الصالون الذي يلتقيان فيه عادة.
جلست بهدوء تحتسي الشاي، فسمعت صوت فتح باب الصالون وإغلاقه.
`اخيراً وصل.`
من دون أن تظهر أي انفعال، وضعت فنجانها كما تفعل عادة. ثم وصلها صوت من خلفها مباشرة:
“مرحباً، إيميلين.”
كان زينون يطلّ على وجهها من فوق ظهر الأريكة، مبتسماً.
انبعثت رائحة ورد خفيفة من حضوره القريب، ولامست شيئاً غريباً في قلبها.
ارتجاف لطيف تسلّل إلى صدرها.
رفعت نظرها إليه وقالت: “يُفترض أن تُلقي التحية بشكل طبيعي.”
“لا أعرف ما هو الطبيعي.”
“أن تلقي التحية أولاً، ثم تجلس مقابلي، وتسألني كيف حالي… أما النظر إلى وجهي بهذا الشكل فهو غير لائق. فهل توقف عن ذلك؟”
ضحكت عيناه بمكر وقال: “أنت تنظرين إليّ أيضاً. لا بأس، انظري قدر ما تشائين.”
“……”
“حسناً، سأتراجع.”
لمّا رأت إيميلين حاجبيها ينعقدان، ابتعد أخيراً.
بعد تناول بعض المرطبات، توجها إلى غرفة الدراسة.
“بالمناسبة، ألا تشعر بالانزعاج من مجيئك إلى منزلي كل مرة؟”
“ليس حقاً. لو كان الأمر مزعجاً لما أتيت. ثم إنني آتي للدراسة معك، وهذا مستحيل أن يكون مزعجاً.”
“أنت تقول ذلك بسهولة. لم يعد هناك داعٍ لمدحي بعد الآن.”
“بل هناك داعٍ. فأنا ما زلت خارج تعريفك للصديق. وإذا كان هدفي الاقتراب منك، فمن الطبيعي أن أُحسن معاملتك.”
“لا.”
“…بماذا كنتِ تتغذّين لتصبحي بهذه العناد؟”
نبرة زينون المتدللة جعلت إيميلين تضحك بخفة، فابتسم لها بدوره.
“على أي حال، أنا سعيدة لأن الأمر لا يزعجك. مع ذلك، يبدو غريبًا بعض الشيء أنك أنت من يأتي دائمًا. ربما عليّ زيارة منزلك في المرة القادمة..”
“هاه… حقاً؟” اتسعت عينا زينون بدهشة ظاهرة.
لطالما كانت إيميلين فضولية بشأن حياته خارج لقائهما.
“إن جئتِ إلى منزلي… متى سيحدث ذلك؟”
“أثرت الموضوع لأناقشه معك.”
وبعد لحظة تفكير، أجاب بثقة: “لنخطط للأمر خطوة بخطوة. خلف ممتلكاتنا حقل كبير يؤدي إلى الغابة. الهواء هناك مثالي للقراءة. لنذهب معاً.”
“…الدراسة في الخارج؟”
“سيكون شيئاً مختلفاً وجميلاً. أفضل من البقاء محتجزين في الدراسة طوال الوقت.”
“حسناً، لنفعل ذلك.”
وافقت رغم أنها لم تجرب شيئاً كهذا من قبل. وبين كل الأمور التي خاضتها مع زينون، كان معظمها تجارب أولى.
بعد دخولهما غرفة الدراسة، بدأ كل منهما عمله.
وكالعادة، وجد زينون القطّ ميل مسترخياً، فداعبه قليلاً قبل أن يجلس بالقرب من إيميلين.
لو كانت إيميلين القديمة، لكانت ضاقت ذرعاً بجلوسه بقربها، لكن اليوم بات الأمر مألوفاً كأنه جرو صغير يحب الجلوس إلى جانبها.
امتلأت الغرفة بصوت تقليب الصفحات، واحتكاك سنّ القلم على الورق.
في تلك اللحظة، دخل خادم.
“سيدتي، هل لي بكلمة؟”
كان نفس الخادم الذي أحضر عرض الزواج هذا الصباح.
تحرك زينون بسرعة، وجذب بعض كتب إيميلين نحوه. وبفضل بديهته، استطاعت إيميلين أن تلتفت للخادم بهدوء.
“ما الأمر؟”
“الرد على عرض الزواج الذي أمرتِني بإرساله هذا الصباح… قُبل.”
“حسناً؟ أحسنت. يمكنك الذهاب.”
وبعد أن أثنت عليه بإيجاز، صرفته. ثم مدت يدها لتستعيد الكتب التي سحبها زينون.
لكن ما إن لمست الكتاب حتى ضغط زينون بمرفقه عليه وأسند ذقنه إلى يده، مانعاً إياها من أخذه. رفعت رأسها نحوه بحاجبين معقودين.
“ماذا تفعل؟”
“وصلك عرض زواج؟ ولم تدخلي المجتمع بعد… ممّن كان؟” سأل بامتعاض واضح.
حدّقت فيه للحظة، ثم أجابت ببرود: “من عائلة هيربا. يبدو أنه أراد أن يكون أول من يخطبني. رغم ثرائهم ونفوذهم وسمعتهم، إلا أنهم يبدون شديدي الحرص لدرجة غريبة.”
“…وكيف رددتِ؟” ألقى السؤال بصوت فقد جزءاً من حدّته. قبل قليل كان مستاءً، أما الآن فبدت ملامحه شبه منكسرة.
راقبت تغير ملامحه، ثم تنهدت وتخلت عن محاولة أخذ الكتاب. “أفضّل لو تترك كتابي.”
“لا تهربي من الموضوع. هل تفكرين فعلاً بالارتباط بهم؟”
“ما شأنك أنت؟ وما الذي يعنيه لك هذا؟ أعد لي كتابي بدل إضاعة الوقت.”
ظنّت أنه يماطل فقط لمضايقتها، فردت بنفاد صبر.
عندها، تجمّد وجه زينون، وقطّب حاجبيه قائلاً: “أهذا لأنه لا يهمّك أمري؟ ولأننا لسنا حتى صديقين؟ هل لا يحق لي أن أكون فضولياً؟”
“لا أعلم لماذا تتصرف هكذا… حسناً، افعل ما تشاء بالكتاب. وإن كنتَ فضولياً لهذه الدرجة، فاسأل دِينيل هيربا بنفسك. لستُ في مزاج يسمح بالرد.”
وبعبوس واضح، وقفت إيميلين. صوت احتكاك الكرسي بالأرض كان مزعجاً.
حدّقت به بحدة، ثم أدارت ظهرها وتوغلت بين الرفوف لاختيار كتاب آخر.
تبعها زينون بنظرة قلقة، ثم نهض ولحق بها.
وقف أمامها بينما كانت تبحث بين الكتب.
شعرت بوجوده فالتفتت نحوه ببرود.
“ماذا تريد الآن؟”
“إيميلين، هل أنتِ…”
توقف قليلاً، ثم ضحك بسخرية خفيفة.
في لحظة تغيّرت ملامحه، فارتسمت على وجهه ابتسامة مائلة ونظرة داكنة.
“قبل أن تُخطبي… هل سبق أن كنتِ في علاقة؟”
“…ماذا؟”
“هل سبق أن قبّلتِ أحداً؟”
اقترب زينون، وأسند يده إلى الرف بجانبها. كانت ملامحه كأنه يسأل بجرأة إن كانت تعرف شيئاً عن هذا النوع من التجارب.
التعليقات لهذا الفصل " 25"