مع اقتراب العطلة الصيفية والتخرّج، بدأت إميلين تشعر بتنامٍ غامض في الشكوك.
فقد كان أوّل الصيف، الذي بدا لطيفاً كنسيم الربيع، يفسح المجال الآن لحرارة خانقة. وفي ذلك الوقت بالتحديد، بدأ أناس من مركيزية ترانسيوم بزيارة قصر دوق ديلزايير.
لم تستطع إميلين فهم ما تراه.
كان يبدو وكأنّ هناك نوعاً من التبادل بين العائلتين.
“ما الذي يحدث هنا؟”
تبادل بين دوق ديلزايير ومركيز ترانسيوم؟
كانت قد سألت والدها عن الأمر في إحدى اللحظات النادرة التي جمعتهما، لكن جوابه كان: “ليس شيئاً مهماً، فلا تقلقي.”
جلست إميلين في غرفة دراستها، وتوقّف قلمها بينما استغرقت في التفكير.
لقد شعرت بأن أمراً كبيراً يقترب.
“لا يبدو وكأنه مجرد تصالح بسيط بين العائلتين.”
تصالح بين العائلتين؟ حتى كلب مارّ قد يضحك على الفكرة.
فقد كان سبب سوء العلاقة بينهما يعود جزئياً إلى مواقفهما السياسية المتضادة.
ومع أنّ موقع ولي العهد كان مستقراً، فإن مركيز ترانسيوم كان يدعم الأمير الثاني سيئ السمعة المعروف بأسلوب حياته المترف والمنحل.
وكان أحد أسباب انتقاد الناس للمركيز هو سوء تقديره.
لكن بما أن الفارق بين ولي العهد والأمير الثاني كان كبيراً، فقد كان الأمر محسوم النتيجة.
وكانت المشكلة في أنّ المركيز كان يشجّع الأمير الثاني، الذي غدا أكثر غروراً، يتصرف كطاغية صغير.
لهذا كان الدوق يكره المركيز بشدّة، ويعارضه في كل مناسبة، مما خلق بينهما شرخاً لا يمكن إصلاحه.
ضيّقت إميلين عينيها وقلبت صفحة دفترها المليء بالملاحظات.
وفي تلك اللحظة، سمعت طرقاً على باب غرفة الدراسة.
رفعت رأسها بتعبير هادئ.
وفي اللحظة نفسها، فُتح الباب ببطء، وأطلّ رجل ذو شعر مصفف بعناية من الداخل.
“مرحباً.”
بعد أن حيّاها بخجل، نظر حوله قبل أن يقول: “هل يمكنني الدخول؟ قلتِ إن بإمكاني ذلك أحياناً.”
“قلتُ إن بإمكانك استخدام غرفة الدراسة فقط عندما تحتاج إليها حقاً.”
“وأنا أحتاجها بشدّة الآن.”
بابتسامة ماكرة، دخل زينون ترانسيوم الغرفة.
رمقته إميلين بنظرة استياء، ثم عادت إلى دفاترها.
“ما الذي كنت أفكّر به؟”
كان ذلك في اليوم الذي حصلت فيه إميلين على المرتبة الأولى، متقدّمة على زينون، حين سمحت له باستخدام غرفة الدراسة.
حتى هي لم تستطع فهم سبب هذا السماح.
ربما كان حذرها منه قد خفت قليلاً. فلم تستطع رفض طلبه في ذلك اليوم.
بالطبع، كان السماح مشروطاً، فقط إذا كانت جميع غرف الدراسة الأخرى مشغولة.
جلس زينون، بثيابه المرتّبة، أمامها مباشرة.
تنهدت إميلين بهدوء وقلبت صفحة الكتاب.
ومن الجهة المقابلة للطاولة، سمعت صوت إخراج زينون لكتاب، وحفيف الصفحات البالية وهو يقلبها.
وبينما كانت تستمع، حاولت التركيز على عملها، لكنّها لم تستطع منع نفسها من النظر إليه من حين لآخر.
لم تفهم لماذا كانت تختلس النظر إليه. ومع ذلك، انحرف بصرها نحوه تدريجياً.
فقد كشفت كمّاه المرفوعان عن ذراعين قويّتين، وكانت يداه الكبيرتان والأنيقتان تقبضان على كتاب الدراسة البالي.
زينون ترانسيوم، الذي بدا دائماً لعوباً، لم يكن خفيفاً كما تظاهر.
فهو، مثلها، كان يدرس بجد، يسعى لتحقيق ما يريد.
وفجأة توقفت يده التي كانت تتحرك.
أطلق زينون ضحكة خافتة. “نظراتك حادّة جداً. لا أستطيع التركيز مع مراقبة متحمّسة مثلك.”
“…كنت فقط أودّ معرفة ما الذي تدرسه.”
كان ذلك صحيحاً، لكنه بدا أقرب إلى عذر ركيك، وكأنها ارتكبت ذنباً.
أسند زينون ذقنه إلى كفه وابتسم ببراءة.
وبشعور من الإرباك، سارعت إميلين إلى تغيير الموضوع.
“بما أننا هنا، سأطرح عليك شيئاً: مؤخراً، بدأ أناس من عائلتكم يزورون منزلنا كثيراً. هل تعرف شيئاً عن ذلك؟”
كان سؤالاً مرتجلاً، لكنه أيضاً سؤال يلحّ على بالها.
فكّر زينون للحظة، ثم أجاب بلا مبالاة: “يبدو أن والدي يريد الاستثمار في المشروع الجديد الذي يعمل عليه والدك.”
“…هل هذا صحيح؟”
“ليس محسوماً بعد. يبدو أنّ والدي يريد أن يضع قدراً كبيراً من المال مقارنة ببقية المستثمرين، وهم يتفاوضون على التفاصيل.”
كان هذا الاتجاه غير المتوقع كفيلاً بجعلها عاجزة عن الكلام.
فقد كان الدوق يتحدث أحياناً عن مشاريعه أمامها بشكل غير مباشر، لذا كانت تعلم بعض الشيء عن خططه.
وحين أغلقت فمها الذي كان قد فتح دهشة، سألت من جديد: “ولماذا يريد المركيز الاستثمار في مشروع والدي رغم سوء العلاقة بينهما؟”
ردّ زينون بخفة: “لو كان يدع الحقد يتدخل، فهل تظنين أنه كان سيصعد من رجل من العامة إلى مركيز ترانسيوم؟”
ربما كان ذلك فعلاً أبسط تفسير.
والآن، بات الدور عليها لتسأل نفسها، بصفتها ابنة الدوق.
لماذا قبل والدها الاستثمار؟ ولماذا يتفاوض مع المركيز؟
ولِم يمدّ الدوق، الذي علّمها دوماً صون الكرامة وعدم الانحدار إلى سلوك مُخزٍ، يده لرجل مشبوه كالمركيز؟
“لا مكان للكبرياء حين يتدخل المال.”
قال زينون ذلك في تلك اللحظة.
ربما قاله كتوضيح إضافي عن المركيز، لكن شعوراً بالارتباك كان يتزايد داخلها.
وكما أنّ المركيز مدّ يده لعائلة كان يناصبها العداء من أجل المال، فهل كان والدها هو أيضاً يصافحه للسبب ذاته؟
لقد كان والدها هو من علّمها دوماً آداب البلاط والالتزام.
وكانت أفعاله دائماً صائبة، تستحق الاحترام. ومنذ ولادتها، كان هو أساس حياتها.
فكيف يقبل الآن استثماراً ضخماً من شخص كان يزدريه؟ وكيف يقلب موقفه كقلب الكفّ؟
قبل شهر فقط، قال لها ألّا تقترب من تلك العائلة.
“…ربما لديه سبب آخر.”
حاولت إميلين أن تقنع نفسها بذلك.
وفي تلك اللحظة، ارتطم شيء بالنافذة، فأصدر صوتاً خفيفاً.
استفاقت من شرودها، ونظرت إلى النافذة. التفت زينون أيضاً،وهي تتمتم:
“قطة؟”
كان هناك هِرّ صغير يربّت على الزجاج بحيوية.
تنهدت إميلين تلقائياً. “ها هي مجدداً.”
“هل تعرفينها؟”
“لا. لكنها تظهر هنا أحياناً. أطعمْتها مرة أو مرتين، وصارت تعود باستمرار.”
حين شرحت ذلك بلا مبالاة، نهض زينون متجهاً للنافذة.
فتحها، وعاد بعد لحظات حاملاً الهرّ الصغير بين ذراعيه.
نظرت إليه إميلين باستغراب.
جلس زينون وهو يمسح فروة الهرّ بخبرة، ثم ضحك فجأة.
“إنها تشبهك.”
“ماذا؟”
واصل الضحك وهو يربّت على الهر.
كان الهرّ الأسود الصغير، الذي بدا كأنه يرتدي بدلة سهرة، يتقلّب على ظهره مستمتعاً بملامسة زينون.
وكانت عيناه الزرقاوان تتلألآن وهما تحدّقان به.
هل قال إنها تشبهها فقط لأن فراءها أسود وعينيها زرقاوان؟
“أخرج تلك القطة من هنا.”
مدّت إميلين يدها لدفع الهرّ بعيداً، لكن الهرّ فجأة التفت نحوها، وحدّق بها بعينين ضيقتين قبل أن يزمجر.
تجمّدت يدها في الهواء. وانفجر زينون ضاحكاً.
“أرأيتِ؟ إنها بالفعل مثلك. هذه النظرة.. تشبه الطريقة التي تنظرين إليّ بها تماماً.”
“ومتى فعلت ذلك؟”
“كل يوم.”
رمقت إميلين زينون والهرّ بضيق. ورغم أنها لم تُظهر ذلك، شعرت بوخز في قلبها.
“لقد أطعمته طوال هذا الوقت…”
يتدلّل على الغرباء ويزمجر عليها؟ قطّ ناكر للجميل.
عبست وهي تزيح نظرها عنه. فقد شعرت ببعض الحماقة لأنها جلبت في حقيبتها حلويات للقطط.
ومن الجهة المقابلة، سمعت خرير الهرّ وضحكات زينون.
“كلما نظرت إليه أكثر، وجدته يشبهك”، قال وهو يداعب ذقنه. “إنه لطيف.”
عند كلمة “لطيف”، انتاب إميلين شعور غريب.
كأن شيئاً ثقيلاً استقر داخل صدرها فجأة. ولم يكن حتى يتحدث عنها.
“هل يمكنني أن أطلق عليه اسماً؟”
“إنها ليست قطتي. افعل ما تشاء.”
“حسناً إذن، ميل.”
عند سماع الاسم، رفعت إميلين رأسها. كان زينون ينظر إلى الهرّ بنعومة.
“ميل” كان لقباً كانت أمها تناديها به حين كانت طفلة.
غير مدركٍ لذلك، قال زينون للهرّ بلطف: “مرحباً يا ميل.”
اغتسلت إميلين بمشاعر مبهمة بين الانزعاج والارتباك. وقلّبت صفحة كتابها بصمت.
بعد قليل، وضع زينون الهرّ على الطاولة، وقال:
“بالمناسبة، أنتِ لا ترتدين نظارتك اليوم. عادة ترتدينها أثناء الدراسة.”
التعليقات لهذا الفصل " 22"