الفصل 21: أنتِ كافية بالفعل
عندما سمعت همسه البريء، لم تستطع إميلين أن تُبعد عينيها عن زينون.
حدث أمر غريب؛ إذ أصبحت أكثر فضولاً تجاهه.
إن كان زينون يتمرّد بالطريقة نفسها التي تتمرّد بها هي، فكيف ظلّ يحتفظ بروحه الحرّة حتى وسط تلك القيود القاسية؟
وعلى عكس عزلتها العاجزة، لماذا كان يحمل تمرّده صورة الحرية؟
وجدت إميلين نفسها تحسده، فهو يبدو كطائر ذي جناحين، لا يُقيَّد حتى وهو يعصي.
وبعد صمت طويل، قالت أخيراً:
“…أنا لستُ جانحة مثلك.”
عيناها، اللتان بدتا شاردتين قبل لحظة، عاد إليهما ذلك الحدّ من الحِدّة الذي تعرفه جيداً.
“طبعاً لستِ كذلك.”
“أنا لا أرهق والدي، ولا أتصرف بطيش.”
“هذا… مؤلم قليلاً.”
ضيّق زينون عينيه بسبب انتقاداتها المتواصلة، لكن كعادته، لم يظهر أي انزعاج. فما كان من إميلين إلا أن تردّ ببرود أشد تجاه ردّته المتراخية.
“ومع ذلك تقول إننا متشابهان؟ يا لها من سخافة.”
لم يكن ممكناً لإميلين دلزاير أن تشبه زينون ترانسيوم.
قد يكون كلاهما خاضعاً لقمع الأب نفسه، لكن بينهما جداراً هائلاً من المستحيل تجاوزه.
ولن تستطيع إميلين يوماً عبور ذلك الجدار.
ربما حتى اللحظة التي يذبل فيها حلمها تماماً، سيبقى الأمر كذلك.
انتزعت يدها منه.
“إن كان ما تسميه سرك الكبير صحيحاً، فلماذا توقفت فجأة عن الحضور إلى المدرسة؟ ثم تقول إنك اقتربت مني للتمرّد… قصتك غير مترابطة.”
“لم أتوقع أنك ستنتبهين لذلك… أنتِ حادّة الذكاء. لكن تعلمين ماذا؟”
ارتسمت على شفتيه ابتسامة خافتة مرهقة، لم ترها إميلين من قبل.
“هناك أمور لا يمكنكِ التمرّد عليها بمجرد العصيان. خصوصاً عندما يكون شيء ثمين على المحك.”
“……”
شعرت إميلين بأن قلبها يهبط. إذ بدت كلماته عارية من كل تزييف، حتى أنها بدت أشبه بما كانت تخبر به نفسها.
فحين تكونين خائفة من فقدان حلمك للأبد، فلن تستطيعي التحرّك بتهوّر، مهما كان التمرّد يغرّيك.
نهض زينون واقفاً، لا تزال تلك الابتسامة الشاحبة على وجهه.
“شكراً لأنكِ أعرْتِني مكانكِ، وساعدتِني في وضع الدواء. يجب أن أذهب الآن.”
“……”
“ولا ترهقي نفسك بالدراسة. أنتِ كافية بالفعل، إميلين دلزاير. لا أعرف ما هدفك، لكن إن أحرقْتِ نفسك لأجله، أشك أن السعادة تنتظرك في نهايته.”
بقيت إميلين عاجزة عن الكلام، وكأن شوكة انغرست في قلبها.
كان يمكنها أن توبّخه على تطفّله، لكن لسبب ما لم تستطع حتى فتح فمها.
شعرت وكأن شيئاً ما أصابها بقوة في مؤخرة رأسها.
راقبته برهبة وهو يغادر.
أُغلِق الباب، وعاد الصمت، وبعد وقت طويل، عادت أصوات الزيز إلى عالمها.
استنشقت إميلين نفساً طويلاً، محاولة استعادة تماسكها.
“لا تقتل نفسك في سبيل هدفك.”
تذكرت جملة من كتاب ترك أثراً عميقاً فيها.
وكأن زينون ترانسيوم قال تلك الكلمات للتو بنفسه.
حدّقت إميلين إلى الأسفل.
كان الدهان على أطراف أصابعها لزجاً، ساخناً، كأنّه يحمل بقايا تلك اللحظة.
—
“أوه، آنسة دلزاير، مبارك! لقد استعدتِ المركز الأول!”
صاحت أنجل، التي كانت تراجع جدول النتائج بجوارها، وكأنّها هي من نال هذا الإنجاز.
أما إميلين، صاحبة المركز الأول، فقد حدّقت في القائمة بذهول.
المركز الأول: إميلين دلزاير.
وتحتها مباشرة…
المركز الثاني: زينون ترانسيوم.
جرفتها موجة من المشاعر الغريبة.
لم تكن فرحاً تماماً، ولا صدمة تماماً.
ربما كان إحساساً باللاواقعية؛ خليطاً من الرضا وعدم التصديق.
ومن بين كل تلك المشاعر، بدا ذلك الإحساس هو الأكثر منطقية.
وكأنها تطفو، شاردة قليلاً، خرجت من المدرسة بعد انتهاء الدوام.
وكعادتها، بقيت حتى الغروب للدراسة في غرفة المطالعة، وحين خرجت كان لون السماء يزداد احمراراً قاتماً، كأنه يوشك أن يبتلع الأرض.
“هل أخبرهم أنني تدربت على البيانو اليوم بعد المدرسة؟”
كانت إميلين تمكث غالباً بعد انتهاء الدروس، متذرعة بإعادة دراسة مقررات الثقافة.
وبمجرد أن تُظهر نتائج مرضية في المنزل، لم يجد والدها سبباً للشك.
وهكذا كانت تنتزع وقتها للدراسة الذاتية.
بعد أن حدّقت طويلاً في لون السماء الغامر، خفّضت رأسها.
“في الفترة الأخيرة… لم أعد أرى زينون ترانسيوم.”
قطعاً، ما زال يحضر للمدرسة، فلم تُنشر أي إشعارات عن تغيّبه كما في الماضي حين كان يتغيب لفترات طويلة.
لكن رغم ذلك، لم تلمحه حقاً.
في دروسهما المشتركة القليلة، كان يجلس في المقدمة تماماً، بعكس إميلين التي تجلس في الخلف.
“غريب.”
لو كان زينون ترانسيوم الذي تعرفه، لكان أتى إلى مقعدها، أزعجها بحديث غير مرغوب، أو تفاخر بشيء لا تودّ سماعه.
لكن الآن… لا يقترب منها. لا يحيّيها.
هل يمكن أنه انزعج حقاً من كلماتها في لقائهما الأخير؟
“لو أنه ضاق أخيراً من طريقتي…”
شدّت قبضتها على حقيبتها بلا وعي.
كان قلبها أكثر هدوءاً من المعتاد.
وحتى مع احتمال كان يفترض أن يسعدها، بقي قلبها ساكناً، لا يتحرك.
ورغم إنجازها الكبير باستعادة المركز الأول، ظلت تشعر بقلق خفي طوال اليوم.
وبينما هي تخفض نظرتها الهادئة وتقطع الطريق المرصوف بالحجارة، بدا وقع خطواتها قاسياً كقسوة قلبها.
عندها فقط، ظهرت أمامها حذاءان كبيران في مجال رؤيتها.
حذاء جلدي بني داكن، يقف بثبات.
رفعت إميلين رأسها.
عيناها مرّتا على ملابس مرتبة، وجسد طويل البنية… حتى وصلت إلى وجهه.
“مرحباً.”
اتسعت عيناها لوهلة.
صوت ناعم، كنسيم يحرّك ورود الحديقة:
“مرّ وقت طويل، أليس كذلك؟”
“…نعم، مر بالفعل.”
“هذا قاسٍ قليلاً. كان يفترض أن تتظاهري على الأقل بأنكِ سعيدة برؤيتي.”
شاكا من ردّها الهادئ، اقترب خطوة.
رفعت إميلين رأسها أكثر كي تنظر إليه.
من الصعب تصديق أنه كان بعيداً عنها طوال الفترة الماضية، فقد بدا كالسابق تماماً. الفرق الوحيد هو أن جراح وجهه التأمت كلياً.
وحين تتبعت نظراتها تفاصيل وجهه، ابتسم زينون واتخذ خطوة أقرب.
“استغرق الأمر وقتاً كي يلتئم كل شيء. لهذا تجنبت رؤيتك لبعض الوقت.”
“…تجنبت رؤيتي لهذا السبب؟”
اعترف بوضوح، مما أربكها قليلاً.
“ولِم من أجل هذا؟”
“لأنني أريدكِ أن تريني بأفضل هيئة طبعاً. فنحن صديقان مقرّبان الآن.”
“هل سمعتك جيداً؟ لسنا صديقين…”
“لسنا مجرد صديقين عاديين، نحن صديقان نتشارك الأسرار.”
ارتفع حاجباها بسخرية طفيفة.
وربما لأن فترة من الزمن مرّت دون سماع وقاحته المألوفة، كان الأمر أقرب للظرافة من الإزعاج.
ضحكت بخفة، ثم رفعت نظرتها إليه من جديد.
كان وجهها أكثر حدة من قبل، لكن في عينيها أثراً خفيفاً من التسلية.
“يبدو أنك تسيء الفهم. ليس لدي أي أسرار.”
“هذا يعني أنك وحدك تعرفين سري. وهذا مقلق… قد تستغلينه. لذا يبدو أنه لا خيار أمامي سوى ملازمتك.”
“ماذا؟”
“فكّري فيها. يكفيني أنني من دم مختلط ويحتقرني البعض لأجل ذلك، فكيف سيكون الحال إن انتشرت شائعات عن أسرتي أيضاً؟”
“كنتَ أنت من قال ذلك أولاً.”
ابتسم زينون حين عبست إميلين.
“تعلمين، أنتِ لا تصنعين هذا الوجه إلا معي.”
“أي وجه؟”
“وجه العبوس الحاد. ذاك الذي يبدو متجهماً، يقظاً، كأنك مستعدة للاعتراض على كل شيء.”
توقفت إميلين لحظة وخفّفت ملامحها.
ربما كانت تعبس كثيراً بالفعل.
لكن دون شك، لم يكن ذلك الوجه نفسه الذي كانت ترتديه حين قابلت زينون لأول مرة. فهي اليوم لا تمرّ بجانبه بصمت… ولا تتجاهله، حتى في طريق العودة.
لسبب ما، لم ترغب في تجاوزه هكذا فقط.
عندما رآها تهدّئ تعابيرها، ضحك زينون بخفّة وقال:
“لكن تعلمين؟ أنتِ تبتسمين بالطريقة نفسها للجميع. حتى لأبيك الذي قابلته من قبل.”
“قلتَ لستَ مطارداً، لكن هل كنت تراقبني؟” نظرت إليه بشبهة واضحة.
هز كتفيه بلا مبالاة:
“سأعترف. لا أتبعك قصداً، لكنني أراقبك. في الآونة الأخيرة… كنتُ فضولياً بشأنك كل يوم.”
نظرت إليه باستغراب هادئ.
ومرّت نسمة لطيفة بينهما، تحرّك معها شعرها الأسود بخفة.
وحتى لو لم يكن ينبغي لهما الاقتراب… وحتى لو لم يكن في ذلك منفعة… فلا يعني ذلك انعدام الانجذاب.
ولعله لهذا، كان الجواب لذلك السؤال في ذلك اليوم:
الخيار الأول: زينون مهتم بإميلين دلزاير.
ابتسم زينون، وانحنت عيناه كال هلال.
“مبارك حصولك على المركز الأول، إميلين.”
ومع كلماته، هبّت بينهما نسمة خفيفة، كأنها تبشّر بفصل جديد من صيفهما المتوتر.
لأن ابتسامته تلك، الصادقة والواضحة، ثبتت في ذهن إميلين بوضوح.
وبسبب ذلك، حدث أمر غريب…
أصبحت عيناها تنجذبان إليه رغماً عنها.
م.م:إيملين الثگيلة وگعتتتت
التعليقات لهذا الفصل " 21"