فركت إيميلين عينيها المتعبتين ونزعت نظارتها، مطلقة تنهيدة صغيرة من الإرهاق. حينها شعرت بنظرة موجهة نحوها من الجهة المقابلة للغرفة.
وبينما كانت تضع نظارتها في علبتها، رمقت زينون بنظرة جانبية.
“هل لديك ما تقوله؟”
لسبب ما، بدا نظره مختلفاً. لكنه ما إن التقت عيونهما حتى محا تعبيره بسرعة.
قال بلا مقدمات:
“فكرتُ بهذا سابقاً… تلك النظارة تليق بكِ جداً.”
نظرت إليه إيميلين بشك واضح.
“لا تقل أشياء لا تعنيها.”
“هل قضيتِ حياتك تتعرضين للخداع؟ قولي شكراً فقط، كما تقولينه لصديقاتك.”
“……”
“أنا جاد… تبدين لطيفة قليلاً حين تركزين.”
أطبقت إيميلين كتابها بقوة ووقفت. رمته بنظرة حادة لا تثق فيه.
“ما قصة هذا التصرف الغريب فجأة؟”
“ليست تمثيلاً… أنتِ دائماً تعاملينني كأنني لعوب. تلك الشائعات التي سمعتِها… مبالغ فيها.”
توقفت إيميلين وهي تجمع دفترها وأقلامها، تنظر إليه. كان هو أيضاً قد وقف.
“بما أنها مبالغ فيها… فهذا يعني أن فيها جزءاً من الحقيقة، صحيح؟”
بصراحة، لم تكن إيميلين تصدق تلك الإشاعات السخيفة التي تقول إنه يملك ثماني عشيقات.
لكن عددهن لا يهم. مغازلته لها رغم امتلاكه حبيبة واحدة على الأقل… يبقى سلوكاً مقرفاً. رمتْه بنظرة باردة وأعادت الكرسي إلى مكانه.
ولحقها زينون إلى الباب، يرغي ويثرثر كالعادة.
“خرجتُ مع بعضهن فقط، لكنهن بدأن يطلقن تهديدات سخيفة، فما كان بوسعي إلا…”
“……”
“بعد كم موقف من هذا النوع، صارت الشائعات تنتشر. واحدة منهن قالت إنها ستقفز في البحيرة وهي تصرخ بأسمي.. ماذا بإمكاني أن أفعل؟ أتجاهل هذه التهديدات الآن، لكن حينها كنت خائفاً. كنت في الخامسة عشرة.”
كانت إيميلين تتظاهر بتجاهل كلامه، لكنها اصبحت الان عاجزة عن الكلام.
لم تكن متأكدة إن كان يكذب… لكنها تعلم أن العالم مليء بما هو أغرب من ذلك.
“على أي حال… هذا ليس خداعاً. إنه مديح.”
“…مديح؟”
الكلمة الغريبة جعلتها تستدير نحوه. توقف هو خلفها، والتقت نظراتهما.
“هل تسمحين لي باستعارة مكانكِ مرة أخرى؟ كان مريحاً أكثر مما توقعت.”
“لا تتوقع أن هذا ممكن.”
“أعرف. لذلك أجاملك. بصراحة… هذا نوع الطلب الذي يحتاج إلى وقاحة، وكنت قلقاً بشأنه.”
قهقهت إيميلين باستهزاء وهي تنظر إليه ببرود.
“لقد رددتُ لك جميلك. ولا أنوي أن أعرّض نفسي للخطر بزيادة لطف غير ضروري.”
“الأصدقاء يمكنهم مشاركة المكان أحياناً. من باب الود، صحيح؟”
“أنت وأنا لسنا أصدقاء. ربما نسيت، لكن يستحيل أن نصبح كذلك. إن كنت تريد السبب… اسأل والدك.”
“……”
“وفوق كل ذلك… حتى لو كنا أصدقاء، ليس من المنطقي أن يدرس الأول والثاني في المكان ذاته.”
قبضت على الكتاب بيدها والتفتت عنه.
“أنا راحلة.”
وما إن خرجت من غرفة الدراسة، تاركة زينون خلفها، حتى أطلقت تنهيدة حادة.
مرة أخرى، شعرت بذلك الإحساس الغريب المزعج. أسرعت الخطى في الممر، وذيل تنورتها يتحرك بخفة.
زينون ترانسيوم… كان فعلاً رجلاً غريب الأطوار. أكل ما يقوله صحيح؟ هل شائعاته حقاً مبالغ فيها وهو مجرد ضحية؟
لا، وما حاجته ليخبرني أنا تحديداً؟
كما كان موقفها تجاهه خليطاً من الشك والكذب والتناقض… ربما هو أيضاً يخدعها. من المؤكد أنه يملك نوايا خفية.
من البداية، لا يعقل أن الماركيز ترانسيوم يسمح لزينون بالاقتراب مني هكذا.
عائلتها نصحتها بالابتعاد عنه، ومن شبه المؤكد أن عائلته أوصته بالشيء نفسه.
ومع ذلك، ظهر في مأدبة مزدحمة واقترب منها بكل وضوح. فهل كان للماركيز نية خفية منذ البداية لإيقاعها؟ كلما فكرت أكثر، ازداد وجهها عبوساً.
لو أنني لم أتعامل معه من البداية… لما عانيت نصف هذا الصداع.
هي بالكاد تحتمل ضغط الدراسة وقلق والدها… فما حاجتها للتفكير في زينون؟
رفعت عينيها نحو سماء العصر المتدرجة نحو الغروب.
رجاءً… توقف عن ملاحقتي يا زينون ترانسيوم.
—
في الصباح الباكر، ركبت إيميلين العربة المتجهة إلى هيلبرت، الواقعة على بُعد ساعات من العاصمة.
تغير المشهد تدريجياً خارج النافذة، حتى تحوّل إلى بلدة ساحلية هادئة كلما اقتربوا من هيلبرت قادمين من إلفارتو.
قلب هيلبرت كان مليئاً بنسيم البحر البارد وصرخات النوارس. توقفت عربة إيميلين أمام قصر بارز في وسط تلك البلدة المتواضعة.
نزلت من العربة، والباقة بين ذراعيها تصدر خشخشة خفيفة.
قالت بنبرة ملاحظة:
“يبدو أن الكثير قد تغيّر… أمي ما تزال تعشق الأزهار.”
فأجاب والدها، وهو يتفحص الحديقة:
“بالفعل… معالم الحديقة تغيّرت كثيراً منذ آخر زيارة لي.”
رفعت إيميلين شعرها المتطاير مع هبوب الهواء البارد ونظرت حولها.
على مدى السنوات الأخيرة، كانت والدتها، دوقة ديلزايير، تمضي فترة النقاهة في هذا الجناح في هيلبرت.
عام بعد عام، اعتادت إيميلين زيارة والدتها مرة أسبوعياً برفقة والدها. لكن في الأسبوع الماضي لم تستطع القدوم بسبب مأدبة عيد ميلاد الملك.
كان يمكن لوالدتها أن تبقى معها في منزل العاصمة، لكن الدوقة كانت تفضل الهدوء للعلاج.
ربت الدوق برنارد على كتف ابنته، وأخذ يتقدمها.
“لنسرع. لدينا أمسية موسيقية الليلة.”
“نعم.”
دخلوا القصر، فاقترب كبير الخدم وأخذ يقودهم إلى غرفة الدوقة.
أحياناً كانت تخرج للتنزه، لكن لحسن الحظ كانت هذا اليوم تستريح داخل غرفتها.
“سأُحضّر الشاي حالاً.” قال كبير الخدم وهو يفتح باب غرفة الدوقة بنفسه.
ناداها الدوق بحنان:
“ليلي..”
دخلت إيميلين خلف والدها… ورأت والدتها، الصغيرة القوام، وهي تستند إلى مسند السرير.
كانت الدوقة ليلي تشاهد أعشاش العصافير على الشرفة حين التفتت إلى مصدر الصوت. ارتسمت ابتسامة مضيئة على وجهها فور رؤية زوجها وابنتها.
“عزيزي… وإيميلين. جئتما.”
كانت دائماً تشع بذلك الشعور… كأنها تنتظر هذه اللحظة تحديداً.
اقتربت إيميلين من والدتها برفقة والدها، تحدق بملامحها بقلق.
كانت حالتها تتحسن… لكنها الآن تبدو أنحف من ذي قبل.
وجهها الذي كان مشرقاً كزهرة يافعة، أصبح باهتاً، وشعرها القمحي اللامع فقد بعض بريقه.
قيل لها دوماً إن والدتها ضعيفة منذ الولادة. وكانوا يكررون أن مجرد قدرتها على إنجاب طفلين من دون أخطار… كان معجزة.
لكن تلك المعجزة لم تمنع جسدها من الضعف مع الزمن.
قالت الدوقة بابتسامة لطيفة:
“لابد أنكما متعبان من الطريق. فلنشرب الشاي معاً.”
“نعم، لنجلس.” أجاب الدوق.
حين سلّمت إيميلين الباقة للخادمة، أمسكت ليلي بيد زوجها ونهضت من السرير بحذر.
رافقها الدوق بخوف واضح عليها، متوجهاً بها إلى طاولة الشاي.
كان البخار يتصاعد من أكواب الشاي العشبي الدافئ.
كانت إيميلين تحب اللحظات التي يجلسون فيها كعائلة.
نظرت ليلي لابنتها بنظرة حنان وقالت:
“إيميلين… تبدين أكثر نضجاً من آخر مرة رأيتك فيها.”
“أتعلم منكما كل يوم.”
ضحكت ليلي بخفة، توبيخاً لطيفاً:
“ومن أين حصلت على لسانك الجميل هذا؟ كلامك منمق أكثر من اللازم.”
ابتسمت إيميلين، تستمتع بلحظات المرح الصغيرة التي تشبه البيت.
التحدث مع أمها كان دائماً كأنه عودة للدفء.
رغم أن شخصيتها لطيفة وهادئة، إلا أن والدها لم يكن يستاء من هذا الاختلاف بينهما. مع أنها سمعت أن زواجهما كان مرتباً… لم تشك يوماً بأنهما يحبان بعضهما حقاً.
قالت ليلي وهي ترفع كوبها:
“والدتي زارتني قبل يومين.”
“جاءت بنفسها؟”
“نعم، قضت اليوم كله معي، وتمنت لي الشفاء بصدق. كنت ممتنة جداً.”
هزت إيميلين رأسها بهدوء وهي ترتشف الشاي.
كانت ليلي تتحدث عن جدة إيميلين… الملكة الأرملة السابقة.
هي التي جعلت تعليم النساء أمراً شائعاً بين النبيلات.
كانت إيميلين تحمل لها احتراماً كبيراً، لكن والدها كانت لديه علاقة مضطربة بالملكة الأرملة.
وبشكل غريب، كانت تلك الملكة قريبة جداً من ليلي… وكأن الروح تنجذب إلى الروح.
ولأنها أحبت ليلي كثيراً… فقد أغدقت حبها أيضاً على إيميلين منذ طفولتها. رغم أن إيميلين لم تعد تراها الآن، بسبب تدخل والدها.
كانت إيميلين تسترجع ذكرياتها حين قالت ليلي فجأة:
“بالمناسبة يا إيميلين… أليس الوقت مناسباً لتفكري في الزواج؟”
التعليقات لهذا الفصل " 16"