الفصل 15: رجل الحقود
في اليوم التالي، تناولت إيميلين الإفطار مع والدها.
ضحك الدوق برنارد وهو يروي ما جرى في مأدبة الليلة الماضية.
“أحسنتِ يا إيميلين. لم أتوقع من ذلك الشقي أن يقترب منكِ أثناء غيابي. سمعتُ أنكِ لقّنتِه درساً.”
“…لقد حاول أن يهين اسمي، فرددتُ عليه بالمثل.” أجابت إيميلين بنبرة هادئة وهي تحرّك أدوات الطعام ببطء.
ولطالما ظلّ رضا والدها عن الحادثة يعيد إلى ذهنها ما تريد نسيانه.
طعنت حبّة طماطم صغيرة بالشوكة وهي تفكر:
الآن بعدما حذّرتُ زينون ترانسيوم جيداً، لن يحاول الاقتراب مني بعد الآن.
بقاؤها بقربه سيجلب الأقاويل. وهذا أفضل. ومن يدري؟ قد تُصنّف ضمن قائمة عشيقاته الكثيرة، سواء كنّ ثمانٍ أو ثماني عشرة. والأسوأ من ذلك… لا يليق بسيدة نبيلة متحضّرة مثلها أن ترتبط بأي شكل مع فتى جانح مثله.
“…لقد انتهيت.”
وهي بلا شهية، تركت معظم طعامها كما هو.
ثم استقلت العربة متوجهة إلى المدرسة، محاولة دفن ملامحه التي كانت تتسلل إلى ذهنها تحت حرّ الصيف.
وعند وصولها، تحققت توقعاتها. لم يكن زينون ترانسيوم موجوداً خلال دروس الصباح.
لا حصص تجمعنا اليوم، لكنه عادة كان سيظهر لمضايقتي بحلول الآن.
وربما سيظهر بعد الظهر. أياً كان الأمر، غيابه التام يعني أنه أخذ تحذيرها على محمل الجد وابتعد.
…حسنٌ، إلى الجحيم .
رنّ الجرس، وعادت إيميلين إلى الساحة برفقة صديقاتها، مطمئنة نفسها.
قالت أنجل فجأة:
“ليدي ديلزايير، قلتِ إن لديكِ دراسة ذاتية بعد الظهر، صحيح؟”
“نعم، أنوي التطريز وحدي.”
كانت تكذب. لكن ولا واحدة منهن أدركت ذلك.
“من السيئ أنكِ لم تُعيَّني في صف الغناء ذاته… كنا سنذهب معاً. لا أفهم لماذا يوزعوننا عشوائياً حتى لو اخترنا المادة نفسها.”
“أتفق معكِ. من الواضح أن هذا النظام لا يفيد أحداً.”
أبدت إيميلين تعاطفاً مع شكواهما. لكنها وحدها كان عليها التوجّه إلى مبنى مختلف للدراسة الذاتية. ودّعتهن ومضت.
كانت قد استخدمت اسم عائلتها لتحصل من المعلمة على غرفة دراسة خاصة، أكثر هدوءاً وانعزالاً.
دخلت الممر الخارجي الذي يصل بين المباني في الطابق الأول. رغم وجود سقف، إلا أن الجانبين كانا مفتوحين، ينساب منهما ضوء الظهيرة الحارق.
واصلت السير في ذلك الهدوء الكسول… إلى أن لمحت شيئاً.
أهذا… زينون ترانسيوم؟
ظهر ظل مألوف عند أطراف بصرها.
كان ذلك في طرف مبنى مهجور مروراً، يقف زينون هناك مواجهاً امرأة. ظهر المرأة إلى إيميلين فلم ترَ وجهها.
ما الذي أشاهده؟
زينون، الذي لم يطأ المدرسة طوال الصباح، يقف الآن في ركن مهجور مع امرأة؟ تجعّد وجه إيميلين فوراً.
بالطبع… هكذا هو.
تذكرت سمعته السيئة، فرمتهم بنظرة ازدراء.
كانت على وشك متابعة طريقها حين شعرت بعدم ارتياح غريب فتوقفت. التفتت مجدداً، وبتركيز أدقّ لاحظت شيئاً لم تلحظه قبل لحظة.
كانت هناك رسالة حب ممدودة نحوه. زفر زينون بضيق، تغيرت ملامحه، انعقد حاجباه بامتعاض…
ثم قال شيئاً لها وزفر ثانية، ومرر يده بعصبية بين شعره. لم تره يوماً بهذا الشكل. بدا غريباً… حتى إنها كادت لا تتعرف عليه.
أنا لا أفعل هذا مع أي أحد آخر.
بينما كانت تربط أجزاء المشهد في ذهنها، عاد صوته المنخفض من الأمس ليتردد في ذاكرتها. وفي اللحظة ذاتها، انزلقت نظراته المتضجرة نحوها.
شهقت إيميلين، واستدارت بسرعة. تابعت السير متظاهرة بأنها لم تر شيئاً. وعندما وصلت إلى غرفة الدراسة، شعرت وكأنها هربت ركضاً.
لماذا توقفت؟ ولماذا راقبتهم؟ لماذا هربت؟
ازدادت حيرتها من نفسها.
على الأرجح لأنني رأيت شيئاً لا ينبغي لي رؤيته…
مدّت يدها لتفتح الباب.
عندها سمعته.
“إيميلين!”
استدارت، مأخوذة بالدهشة. الرجل الذي كان قبل لحظات على وشك تلقّي اعتراف حب… أصبح الآن أمامها مباشرة.
كان يلهث، وكأنه أسرع ركضاً. التقط أنفاسه وقال:
“كنت في طريقي للبحث عنك.”
حدّقت فيه إيميلين بعيون متسائلة. هل رفض الاعتراف حقاً؟ والأهم… ألم يتذكر تحذيرها أمس؟ ما الذي يدفعه إلى الظهور أمامها ثانية؟
شعر بنظرتها فسخر بابتسامته المعتادة.
رمقته إيميلين طويلاً قبل أن تتمتم:
“أ… ما الذي تفعله هنا؟ ألم تتذكر تحذيري؟”
أمال رأسه قليلاً، ثم قال بابتسامة ماكرة:
“تقصدين قولكِ ألا أضيّع وقتي بالاقتراب منكِ… رغم أنني ساعدتكِ؟”
“…تتذكر جيداً. إذن لماذا أنت هنا؟”
بدت محرجة، لكنها تمسكت بحدتها.
أما هو فلم يكترث، بل حرّك يديه قليلاً وهو يتكلم:
“أشعر ببعض الظلم. ألا تشعرين أنكِ مدينة لي بشيء؟”
“ماذا؟”
“لقد ساعدتكِ. أمسكتكِ قبل أن ترتطمي بالأرض، وطردتُ ذلك الأحمق عنكِ البارحة.”
“……”
“لذا أشعر أنكِ مدينة لي. ما دام هذا الشعور موجوداً، سأواصل ملاحقتكِ. أنا رجل حقود جداً.”
حدّقت به إيميلين غير مصدقة، وفغر فمها:
“هل تلقيت ضربة على رأسك؟ هل ذاكرتك تالفة؟”
“أبداً. أتذكر كل شيء… حتى عدد المرّات التي تنهدتِ فيها وأنتِ تعنفينني أمس. آلمني ذلك كثيراً.”
ورغم كلماته، كانت ابتسامته واسعة.
وبإرهاق ظاهر، قالت بإيجاز:
“ما الذي تريده؟”
“أستوفي طلباً فقط؟”
“قل.”
“لستِ متحمسة جداً.”
“قل ما تريد، وسأقضي دينك المزعوم هذا.” قالت بنفاد صبر.
هذا الممر عادة خالٍ. لكن إن رآهما أحد في هذا المكان المنعزل، ستكون مصيبة. والأسوأ أن يظل زينون يطاردها بحجة الدين. الأفضل إنهاء الأمر بسرعة.
“أي شيء أريده؟” اقترب خطوة، حتى بقيت مسافة كف واحدة بينهما.
عبست:
“قلتُ لك قل.”
“قسوة… على من ساعدك.”
“لم أطلب مساعدتك.”
“أهذا يعني… أنكِ غير ممتنة؟”
فوجئَت بالسؤال، وترددت. لم تكن ناكرة للجميل، لكن بما أنه هو زينون… يمكنها أن تكون بلا رحمة.
غير أنها قالت بدلاً من ذلك:
“قل طلبك، كي أنفذه أو أرفضه. وأبقِ مسافة بيننا.”
تراجع بخفة ضاحكاً.
“أريد استعارة غرفة دراستك.”
تجمدت لوهلة. طلب منطقي… لكنه ما يزال يزعجها.
الطالبة الأولى والثاني يجتمعان في غرفة واحدة؟ والأدهى أنه هو من سرق منها المرتبة الأولى، وأثار إحباطها وغضبها… وأكثر من ذلك يلاحقها ويعطل دراستها.
من يدري؟ ربما سيكرر ذلك في غرفة الدراسة.
“تريد غرفة دراستي؟ هل أنت جاد؟”
“هذا كل شيء. وإن رفضتِ، فسأظل ألاحقكِ إلى أن يهدأ قلبي.”
“أي قلب…”
لكنها قطعت كلامها فجأة حين سمعت أصواتاً قادمة من الدرج.
ترددت لحظة، ثم دفعت الباب، وأدخلت زينون معها. نعم، كان يمكنها الدخول وحدها، لكنه من صنف الذين يطرقون ويثرثرون حتى تفتح لهم.
دخل الرجل، ونظر حوله مبتسماً بانشراح:
“إذن هذا يعني أنني أستطيع استخدام الغرفة، صحيح؟”
تزامناً مع كلماته، تذكرت إيميلين “الدين” الذي ذكره. وبصراحة… السماح له باستخدامها أفضل من مطاردته لها طوال اليوم.
“…افعل ما تشاء.” قالت ببرود.
ثم أضافت:
“لا أنكر أنك ساعدتني، لذا سأسمح لك باستخدامها هذه المرة فقط.”
جلست وأخرجت أدواتها بهدوء. لحسن الحظ، اختار مقعداً مائلاً أمامها لا يحدق بها مباشرة.
“كانت بقية الغرف مزدحمة… حقاً شكراً للسماح لي باستخدام هذه.”
بدا الامتنان في صوته صادقاً.
ارتبكت إيميلين. هددها بالملاحقة، لكنه يشكرها الآن؟ كيف يستطيع إظهار الامتنان بهذه البساطة… لها تحديداً؟
غمرها شعور غريب. ربما لأنها لم تشكره في الأمس كما ينبغي… والآن تندم.
ضغطت شفتيها وبدأت بالكتابة.
ولم تجبه.
خشيت أنه لو ردّت، فستعترف بذلك الشعور الغريب… شعور أنها لم تعد قادرة حتى على توجيه شكر بسيط له…
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 15"