الفصل العاشر: أصدقاء أم عشاق
رفعت إيميلين رأسها فجأة من بين ذراعيه، مصدومة، لكنّ قوتها خانتها فوراً، فارتخت من جديد على صدره.
“هه… أثقل مما توقعت. هلّا بقيتِ ساكنة قليلاً؟”
“م… ماذا…؟”
يا لها من ملاحظة فظة تُقال لسيدة. اشتعل وجه إيميلين حمرة.
راقبها زينون يضحك ضحكة خفيفة، فأحسّت بأن الدم يصعد إلى رأسها. ارتجفت رموشها وهي تحاول كتم غضبها.
“سأتحرك. فقط دعني.”
“لا، انتظري. بالكاد تقفين على قدميك.”
“ماذا تعني بـ…”
وفجأة، وضع يده خلف رأسها وجذبها إلى صدره. ارتطم وجهها بصلابة صدره الواسع، فشهقت وقد أحسّت بأنها توشك على الإغماء.
مهما حاولت استيعاب الموقف… فهذا عناق بكل وضوح. كانت تسمع نبضات قلبه المتواترة تخترق قميصه.
اشتعلت رؤيتها بحرارة، فبدأت تتخبط بلا اهتمام بمظهرها.
“م… ماذا تظن أنك تفعل؟ دعني حالاً!”
“قلتِ ابقي ساكنة للحظة.”
“دع…”
وقبل أن تكمل، رفعهما بذراعه الأخرى، ونهض بالتدريج، ثم ترك ظهر رأسها.
“آه…”
تنفست إيميلين تنهيدة منخفضة وهي تحاول الابتعاد عنه قليلاً. أرادت النهوض فوراً، لكن جسدها ما يزال واهناً. عاد دوار خفيف يضرب رأسها، فعبست.
تجولت عيناها حتى وقعتا على كرسي مقلوب خلف زينون. كان الكرسي الذي كان يجلس عليه قبل لحظة.
“تُرى… هل كان ذلك الصوت العالي بسببه؟”
حدقت فيه قليلاً، لكن يد زينون الكبيرة هبطت على جبينها فجأة.
انتفضت إيميلين. لكنها لم تملك القوة لتقفز أو تُبعد زينون ترانسيوم عنها. وبالنظر للوضع… يبدو أنه أسرع ليمسك بها عندما انهارت.
مثير للسخرية أن حتى رجل مثله، بقوته تلك، لم يستطع تثبيتها، فانتهى الأمر بسقوطهما معاً.
عادت عبارته السابقة عن “ثقلها” إلى ذهنها، فتصلّبت ملامحها.
“هل يُعقل… قال إني ثقيلة، ولهذا سقط معي؟”
قال زينون، وهو يفحص جبينها بجدية:
“لديكِ حرارة. كنت أعلم أنّ هناك شيئاً غير طبيعي…”
“لا تلمسني.”
صفعت يده بعيداً. اختفت الحرارة التي كانت على جبينها، وحلّ محلها هواء بارد، فشعر زينون بالضيق من حدّتها.
“أتدرين أنّك حرفياً فوقي الآن؟ نحن متلاصقان تماماً، ثم تطلبين ألا ألمسك.”
“…سأبتعد. فقط لا تلمسني دون إذن.”
“وكأني مصاب بمرض معدٍ. تبالغين. هل تقولين إنني… قذر؟”
انقبض حاجباه الوسيمان بشيء يشبه الجرح.
رقّت ملامحها قليلاً رغم نفسها، ثم قالت بعد تردد:
“…أنا فقط لا أحب أن يلمسني أحد. خصوصاً بلا إذن.”
ابتسم بخفة:
“ها قد أصبحتِ تخاطبينني بلا رسمية. ألا يمكنك تعاميلنني بلطف مرة واحة؟ مجرد لُطف صديق؟ تمسكين بأيدي صديقاتك وتتشابكين معهن بكل أريحية.”
“…صديق؟ ولمَ تكون أنت صديقي؟”
تجمدت ملامحه بدهشة، فازدادت حيرتها. هل يتحدث بجدية؟
ضيّقت عينيها ورسمت حدّاً واضحاً بينهما:
“لن تبلغ حتى عتبة الصداقة.”
“آه… حقاً؟ إذن إن لم نكن أصدقاء… واقترابنا بهذا الشكل… يعني أننا عشاق، أليس كذلك؟”
اقترب منها بابتسامة. فاعتدلت إيميلين وابتعدت حتى وصلت حافّة قدرتها على الابتعاد.
توقف زينون أمامها مباشرة، تختلط أنفاسه بأنفاسها، فصُدمت من جرأته.
حدقت به بعينيها الزرقاوين الممتلئتين غضباً وارتباكاً:
“ما الذي تفعله؟”
“أتساءل ماذا نكون. أراك وأتحدث معك أكثر من ابنة البارون تلك الجديدة التي انضمّت إلى مجموعتك.”
كان صوته المنخفض يلامس بشرتها. تصلبت أطراف أصابعها.
عندما نظرت في عينيه الخضراوين الداكنتين، شعرت بشيء غريب… كطحلب كثيف يغشاهما. وجهه من قرب بدا كمنحوتة صنعها فنان بارع.
لو كان لوحة… أو تمثالاً… لاشترته فوراً يوم عرضت الأعمال مع والدها.
وكم تكره الاعتراف… لكنه تحفة من حيث المظهر.
“تحرك. الآن.” قالت بنبرة منخفضة، وقلبها يقرع بإيقاع غير منتظم.
“ولماذا؟” مال رأسه قليلاً، وصوته الناعم يخدش صدرها بشيء لا تفهمه.
توترت من دون وعي، ثم تمتمت بتهديد:
“لست صديقاً ولا شيئاً آخر. بل أقل. فتحرك الآن قبل أن أصفعك، زينون ترانسيوم.”
حدّق بها لحظة صامتة، ثم ابتسم وتراجع. راقبت إيميلين كل حركة بعين حذرة.
“إن كنت قد أزعجتك، فأعتذر.”
“أزعجتني.”
“حسناً، آسف. ربما تجاوزت الحد.”
استعادت بعض قوتها تدريجياً، فقامت من فوقه بتمايل خفيف.
ظل زينون جالساً على الأرض، يرفع رأسه إليها:
“دعيني أوصلك إلى العيادة.”
“لا حاجة.”
نهضت بسرعة، فعاد إليها الدوار، فتوقفت متشبثة بتوازنها. وما إن ثبتت حتى رفعت أغراضها.
نظر إليها زينون بدهشة وهو يقف:
“لماذا ترفُضين؟ تتمايلين أصلاً. هل لأنني أنا من عرض ذلك فقط؟”
“والدي قال لي ألا أقترب منك. وليس لدي وقت للعيادة.”
راقبها وهي تبتعد، قبل أن يدرك فجأة:
“انتظري… ستذهبين لقاعة الدراسة بهذا الحال…؟”
مد يده ليقبض على ذراعها، لكنه توقف قبل أن يلمسها. تردد.
ثم قال بصوت خافت:
“لماذا ترهقين نفسك هكذا؟”
توقفت إيميلين. التفتت نحوه، فوجدته ينظر إليها بجدية غريبة.
للحظة قصيرة، ارتبكت نظرتها. لم يسألها أحد هذا السؤال من قبل.
وكأنه… يرى ما خلفها.
أبعدت نظرها بسرعة.
“لا شأن لك. ولن تفهم.”
“…”
“شكراً على ما فعلته اليوم، لكن… ابتعد عن شؤوني مستقبلاً.”
خرجت من القاعة وأغلقت الباب خلفها بقوة. تردد صوت الارتطام عبر المكان، تاركة زينون وحيداً.
تنفست إيميلين بعمق وأغمضت عينيها، ثم فتحتهما مع تنهيدة خفيفة وهي تمشي. كان قلبها يخفق أسرع من المعتاد… ولا تعرف السبب.
أخبرت نفسها أنه مجرد إرهاق.
***
اهتزت العربة بقوة غير معتادة. عادة ما تكون سلسة، لكن اليوم بدت مزعجة أكثر من اللازم، مما زاد توتر إيميلين. عضّت شفتها وهي تسترجع أحداث اليوم.
“هل يمكن أن يكون أبي قد علم؟”
غير ممكن… إلا إذا ذهب زينون ترانسيوم للعيادة وأبلغهم.
كانت هناك أسباب كثيرة لرفضها الذهاب. لو ذهبت، لاتصلت الممرضة بعائلتها فوراً.
وهي تعرف أنها فقط مرهقة من الدراسة. لو علم والدها بأنها درست حتى الإنهاك، لانتزع منها كل شيء بلا تردد.
تنهدت.
“كان يجب أن أُسكت فمه قبل أن أخرج.”
المشاكل المحتملة كثيرة. لو ذهب زينون للعيادة… مشكلة. لو نشر ما حدث… مشكلة.
أمور كثيرة يجب ألا تصل لوالدها.
قبضت إيميلين على حاجبيها. زينون ترانسيوم يقلب حياتها رأساً على عقب.
عادت كلماته إلى ذهنها، فقهقهت بسخرية.
“أصدقاء؟”
يا لسخف الفكرة.
“لن تكون صديقي أبداً.”
ضيّقت عينيها وهي تحدّق من النافذة، ثم أغمضتهما.
اختفى المشهد المرتجف في الظلام، فخفّ صداعها قليلاً. لكن شيئاً ما داخلها بقي غير مستقر.
وأثناء إعادة استرجاع أحداث اليوم، أدركت ما يزعجها.
“…هل كان عليّ أن أشكره بهذا الشكل؟”
زفرت بضيق، وعادت تعبث بثيابها بتوتر.
ربما لصقت مشاعر غريبة بداخلها بسبب قربه منها طوال اليوم. شعور مبهم بأنها كانت قاسية.
رغم وقاحته… إلا أنه ساعدها.
“لا، كان يحاول التلاعب بي بشيء ما.”
استحضار ذلك أعاد إليها غضبها. لكن الشعور المزعج لم يختفِ.
لا سبب يجعلها تهتم برجل مثله. عليها فقط اتباع نصيحة والدها وتجاهله تماماً…
قطعت أفكارها، وحدقت بصمت عبر النافذة، هاربة من مشاعرها التي ترفض مواجهتها.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 10"