طوال الطريق نحو الميتم، كان قلب كارلايل يخفق بنبض متسارع، يغذّيه حماس لا مثيل له.
‘وأخيرًا..’
وجد من يرث عباءته دون أن يكون عبئًا عليه؛ مبتدئة لا تحتاج إلى شروحات طويلة ولا تدريب مرهق، بل يمكنه الزج بها في الميدان مباشرة!
«ولديها القدرة على رؤية نواة السحر الأسود!»
كانت ليلي لويل بالنسبة إليه الشعاع الوحيد الذي اخترق عتمته، وطوق النجاة الذي تشبّث به وسط بحر اللعنات.
وإن لم يتمسّك بها الآن، فما كان ليستحق هذه الفرصة من الأساس.
‘حتى إن لم تملك القدرة، فستظل في القسم ثلاث سنوات على الأقل’
وخلال تلك السنوات، سيبذل كل ما أوتي من بأس ليمزّق لعنة السحر الأسود التي فتكت بعائلته منذ أمد بعيد.
«سأقتلع من الجذور كل من غرس فينا هذه اللعنة.»
قبض كارلايل كفّيه بعزم، وصرخ في أعماقه، بينما العربة تهتزّ تحت وطأة الطريق الوعر.
لكن ما إن بلغوا بوابة الميتم الذي تقيم فيه ليلي، حتى تلاشى ذلك الحماس، وانطفأ وهجه.
قالت ليلي بنبرة هادئة:
“أرجوك، انتظر هنا للحظة. سأشرح لهم الوضع أولًا”
“همم…” تمتم كارلايل متفهّمًا، لكن الحقيقة أنه لم يكن بحاجة لشرحها.
‘بوسعي سماع كل شيء…’
عائلة لوبيسك، رغم لعنتها، تمتلك حواسًا تضاهي قدرات البشر أضعافًا مضاعفة.
وها هو كارلايل، دون قصد، يصغي لما يدور خلف جدران المبنى.
“أين كنتِ؟!
قلت لكِ أن تشرعي بمساعدة الأطفال على الاستحمام فور عودتكِ من العمل!”
[هَذا الي دَيسمعه كارلايل]
“لم يمضِ على عملي شهر حتى، ولا أعلم كم سأقبض”
“لا أعذار! إن حصلتِ على راتب، تعطيني حصتي بلا نقاش!”
خمدت جذوة الحماسة في صدره على الفور.
لم يخطر بباله مطلقًا نوع الحياة التي كانت ليلي تعيشها.
‘لويل لم ترغب بالانضمام لقسم مكافحة السحر الأسود أصلًا…’
تنهّد بخجل وهو يترجّل من العربة بخطوات ثقيلة.
‘مع ذلك، هي ستوضح كل شيء لاحقًا…’
لكن…
أليس من واجبه أن يتدخل الآن؟ أليس هو حاميها؟
وما إن رآه مدير الميتم، حتى شحب وجهه واتسعت عيناه بدهشة لم يُخفها.
“أعتذر لتأخري في تقديم نفسي، أنا كارلايل لوبيسك، وسأباشر عملي مع الآنسة لويل”
“آه، لا، لا، لست متأخرًا يا سيدي!
كيـ… كيف أحيي سموّكم؟!”
“لا حاجة للتكلّف”
ثم أومأ برأسه نحو ليلي، كما لو أنه يقول: “اجمعي أغراضك وتعالي”
وفهمت المبتدئة الإشارة سريعًا، فدخلت المبنى بخطى مترددة، بينما ظل المدير مشدوهًا أمام كارلايل.
“لكن، ما سبب زيارتك المفاجئة؟”
“جئت لأبلغك أن لويل ستنتقل للإقامة في القصر ابتداءً من اليوم”
“الـ… القصر؟!”
“نعم، لتتأقلم مع طبيعة العمل الجديد”
ارتسمت على وجه المدير ملامح ذهول أكبر.
لم يكن يعلم بوجود سكن مخصّص للموظفين داخل القصر، فأسقط استنتاجًا خاطئًا:
‘لا بد أنها لفتت انتباه أحد أصحاب النفوذ! فهي فتاة فاتنة بالفعل!’
وإن كان دوق لوبيسك الشاب قد قرر الإشراف على أمرها بنفسه، فلا شك في أن…
وقف المدير باستقامة، وحيّاه بوقار:
“أرجو أن تعتني بليلي من الآن فصاعدًا.
قد تكون قليلة الخبرة، لكنني على ثقة بإخلاصها”
“ليست قليلة الخبرة أبدًا، بل هي الأفضل مما رأيت”
فبحسّها اليقظ، وطاقتها الكامنة…
لم تمر على الدائرة موظفة مثلها منذ سنوات.
“سأتولى رعايتها بنفسي”
فبما أنه تمسّك بها بدافع طمعه، فعليه الآن أن يتحمل كامل مسؤوليته تجاهها، ثلاث سنوات كاملة.
ولأنه أدرك الآن طمع المدير، قرر أن يستخدمه لصالح ليلي:
“بما أنها ستغادر الميتم، فسأقدّم تعويضًا مناسبًا للمؤسسة، وسأرسل موظفين جدد عند الحاجة”
“يا للعجب!”
“ولا داعي للقلق بشأن التكاليف”
شبك المدير يديه مبتهجًا:
“لم أتوقع أبدًا أن تشق طريقها بهذا الشكل!
أرجوك، اعتنِ بها… لولا يتمها، لكانت زوجة مثالية…”
لم يرق لكارلايل هذا النوع من التعليقات، فغيّر مجرى الحديث:
“لكن… هل كانت هناك ظروف غير معتادة بشأن قدوم ليلي إلى الميتم؟”
ارتبك المدير فجأة وكأنه تذكّر شيئًا ما:
“آه، عذرًا… لا شيء غريب جدًا، ولكن…”
راح يبحث في ذاكرته القديمة:
“في إحدى الليالي، وُضعت أمام باب الميتم فجأة.
لم يكن هناك أحد”
“تقصد أنها ظهرت دون أي إشعار مسبق؟”
“للأسف، كثير من الأهالي يتخلّون عن أطفالهم بهذه الطريقة…”
“…”
“أنا من منحها اسم العائلة، أما اسمها فقد كُتب على ورقة”
“ليلي”، أي “سيدة الليل”.
اسم قديم وشائع بين عامة الناس.
“أليس من الأسماء المهجورة؟”
وقبل أن يسترسل أكثر، اقترب طفل صغير لا يتجاوز الرابعة، ذو شعر داكن وعينين زرقاوين، وعلامات الأسى تكسو وجهه.
“عمي، عمي!”
“…همم؟”
هل… ناداه للتو بـ”عمي”؟!
“هنري!” صاحت المديرة، غير أن الطفل كان قد سبقها بالكلام.
“أختي ليلي… ألن تعيش معنا بعد الآن؟”
“آه… نعم، ينبغي أن تذهب إلى القصر لبعض الوقت.”
“لكن! كيف ستلعب معنا بعد انتهاء الدوام؟”
“…”
“ألا يمكنها أن تبقى هنا معنا؟”
أمسك كارلايل يد الطفل بلطف.
كان في الماضي، حين كانت عائلته عامرة، يرى أطفالًا مثله في كل زاوية.
“آسف…”
“هممم…”
تنحنح وقال بهدوء:
“هلّا أرشدتني إلى غرفة أختك؟”
“يييس!”
ابتسم هنري على الفور، وقاد كارلايل إلى الطابق الثاني.
لكن ملامح الأخير تقلّبت أثناء الصعود:
«هناك شيء يثير الريبة…»
الميتم يفترض أن يكون ممولًا بتبرعات كافية، فلمَ يبدو مهملًا بهذا الشكل؟
«هل يتعمّدون إبقاء هذا التهالك لجذب المزيد من الدعم؟»
وأخيرًا وصلا.
كانت ليلي تحزم أغراضها والباب مشرع.
ألقى هنري نظرة ثم انسحب بهدوء.
أما كارلايل، فقد شعر بجفاف في حلقه.
خاصّة حين لمح كتفيها يرتجفان بصمت وهي تدير ظهرها له…
“لا يُعقل… هل تبكي؟”
اجتاحت كيانه صدمة مباغتة، كأن أحدهم لكمه في مؤخرة رأسه.
أدرك حينها ما كان عليه فعله منذ البداية.
‘كان عليّ أن أعتذر لها أولًا’
لقد انساق خلف طموحه بعين عمياء، غير آبه بمشاعرها.
فرض عليها العقد قسرًا، وهي بالكاد كانت تخفي استياءها.
[سيدي، أرجوك ساعدني…!]
[كارلايل!]
[آآآه!]
ومع ذلك، لم يكن بوسعه التراجع الآن.
حتى هذه اللحظة، ما زالت أصوات المستغيثين تتردّد في أذنه.
ولهذا… عليه على الأقل أن يعتذر.
“ليلي…”
“…”
“أعتذر، لأني أرغمتكِ على الانضمام إلى قسمنا دون رغبتك”
“…”
“كنا نعاني من نقص شديد، وكنت أبحث بشدة عن شخص كفؤ”
لكنها لم تلتفت إليه، ولم تنبس ببنت شفة.
كانت غاضبة، مرعوبة، إلى حدّ لم تسعفها الكلمات.
“لا، لا يكفي أن أقول آسف فقط”
آن الأوان لإثبات صدقه بالأفعال، لا بالأقوال.
“هل هذا هو المخرج الوحيد؟”
—
بعد أن صعدتُ إلى الغرفة:
“آرغ!”
كنت أحاول حزم أشيائي، لكن الغضب اشتعل في صدري، ولعنت… ربما أكثر مما ينبغي؟
“لم يكن لدي شيء يستحق الحزم أصلًا”
كل ما أملك…
بضع كتب درستها طمعًا في وظيفة مرموقة بالقصر، مراجع مبعثرة، ودفاتر لطّختها دماء نزيف أنفي.
آثار سعيٍ محموم نحو مستقبل كنت أطمح أن يكون هادئًا.
“ما خضتُ كل ذلك لأُقذف في قسمٍ خطرٍ كهذا!”
كنت فقط أبتغي حياة مستقرة، بسيطة…
لكنني ضممت نفسي بذراعيّ وهمست:
“ما ينتظرني أخطر، والاسترخاء ليس خيارًا بعد الآن”
حتى إن تلقيت أجرًا مجزيًا، فما جدوى المال إن انهار الجسد؟
لكن ماذا إن رغبت بالانسحاب ولم يُسمح لي؟
في النهاية… لم يتبقَ سوى حل واحد.
“…فيوه…
ذلك القسم ذاته…”
يمكن محوه من الوجود.
___
حسابي بالواتباد:
starboow@
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 13"