“هذا مقزز حقًا…
لحظة، ما الذي يحتويه؟”
“لماذا؟ هل تعرف شيئًا ما؟”
“أظنني رأيت شيئًا مشابهًا من قبل.”
كان لدى إيلوور ذاكرة قوية.
فما إن سمع أن مستحضرات التجميل تُصنع من جثث بشرية، حتى استعاد قصة قديمة كانت ترويها له والدته الروحية وهو طفل.
قصة مروعة كما كان يصفها.
“كانت تقول إن أهل الصحراء، قديمًا، لم يكونوا يتخلصون من الجثث، بل كانوا يستخدمونها كدواء.”
“آه، أذكر تلك الحكاية أيضًا.
جدتي كانت تقول إنها سمعتها من جدّها.”
أومأ بييتشي بحماسة، وكأن الذكرى قد ارتسمت في ذهنه بوضوح، بينما واصل إيلوور التنقيب في ذاكرة الطفولة:
“كان هناك مجنون يعيش في الصحراء، في عصر بعيد، قبل قيام الإمبراطوريات.”
ذاك الرجل المجنون كان يعتقد أنه لا ينبغي هدر أي شيء في بيئة شحيحة كالصحراء، حتى الموتى.
لذا، بدأ في أخذ الجثث خلسة وتجربة طرق شتى للاستفادة منها.
وعندما انكشف أمره، نبذه الناس ونفوه إلى أعماق الصحراء.
لكن سجلات أبحاثه ظلت باقية، وتناقلها الناس شفهيًا، إذ شاع أن من يحضّر دواءً حسب وصفه سيحصل على نتائج مذهلة.
“يُقال إن دهنه على الجروح يُنبت اللحم مجددًا، وإن وضعه على العظام المكسورة يشفيها تمامًا.”
ادعاء عجيب بحق.
ومع ذلك، استمرت تلك الوصفات بالتوارث سرًا، حتى انتقل الشارتينيون إلى الإمبراطورية، ثم اختفت بعدها تمامًا.
“لكن، أليست هذه مجرد أسطورة؟”
“نعم، لكنها تتقاطع مع ما يحدث الآن، أليس كذلك؟ علينا أن نضع كل احتمال بعين الاعتبار.”
في مثل هذه الظروف، لا بد من التمسك حتى بأوهى الخيوط.
“بييتشي، هل يمكنك إيجاد رابط بين تلك القصة والترياق؟ حاول أن تتذكر كيف تنتهي الرواية.”
“نهايتها؟”
هز بييتشي رأسه نافيًا، فتابع إيلوور:
“يُقال إن المجنون كتب في الصفحة الأخيرة من سجلاته قبل نفيه: حين تتعفن الأجساد بروح الموتى، غطها بروح الحياة.”
“روح الحياة؟”
بدت العبارة محيرة، مما زاد من حيرة بييتشي.
“نعم، روح الحياة.”
كانت جوديث تستمع بصمت في ركن الغرفة، وبدأت تفكر بدورها.
“إذا كانت روح الحياة…
فهل يُقصد بها دم شخص حي؟”
“…ربما.”
ساد الصمت في غرفة بييتشي، ولم يُسمع سوى أنفاس متقطعة تحمل حيرة وقلقًا.
“ذلك المجنون عاش في الصحراء…
فما الذي يمكن أن يُعد روح الحياة في مكان كهذا؟”
تمتم إيلوور وكأنه يُحدّث نفسه.
“أليس الماء هو روح الحياة في الصحراء، أخي؟”
“لكن ليس أي ماء… لا بد أن يكون ماء واحة، لأنها نادرة للغاية هناك.”
تدخل إيرن، الذي كان يستمع بهدوء طوال الوقت، ليشارك رأيه:
“وربما المقصود ليس الماء فحسب… بل ما يرمز للحياة في الصحراء؟”
بدأت جوديث تقبض على يديها وتبسطهما، وكأن فكرة ما تلوح في ذهنها.
ما الذي كان يُعد رمزًا للحياة في أعين سكان الصحراء؟ شيء ينمو رغم المناخ القاسي، ولا يفقد خضرته رغم الهواء الجاف والعواصف الرملية… شيء يصمد في أرض عطشى بلا ماء…
“…الصبّار!”
همست جوديث بذلك، ثم التفتت إلى بييتشي:
“أليس هو الصبّار، يا سيد بييتشي؟”
—
رغم ندرة الصبّار في الإمبراطورية، تمكن بييتشي وجوديث من جمع كل نوع متاح منه.
انكبّ بييتشي على دراسته مباشرة، بينما توجهت جوديث وإيرن إلى غرفة هنري.
“سيدي هنري.”
ذاك الرجل، الذي اعتادوا رؤيته مبتسمًا دائمًا، كان ممدّدًا على السرير، وجهه غائر في الوسادة، لا يتحرك.
“هنري.”
وقف إيرن إلى جانب السرير، يحدق بالشخص الوحيد الذي اعتبره صديقًا حقيقيًا، غارقًا في يأسه.
“وجدنا أولئك الذين خدعوك.”
ارتجفت كتفا هنري عند سماعه ذلك.
“كما وجدنا وصفة مستحضرات التجميل… والصيدلي يعمل على إعداد الترياق الآن.”
التفت هنري قليلًا، وظهر على وجهه تعبير أكثر جدية مما رأوه في آخر لقاء.
“الترياق… سيصل قريبًا.”
قالها إيرن كنوع من المواساة، رغم أنه لم يكن بارعًا في ذلك، فظلت الكلمات عالقة في حلقه.
ومع ذلك، جمع شتات صوته ليتحدث، حتى وإن لم يستطع قول عبارة تشجيعية صريحة.
“سيدي هنري… لا يمكنك الاستسلام.
السيد بييتشي قال إنك لا تأكل جيدًا.”
كان هنري قد كفّ عن الطعام من شدة الإحباط، مكتفيًا بما يقدّمه له بييتشي من أدوية ممزوجة بمكملات غذائية.
“لا تفعل ذلك، حالتك الجسدية ضرورية للعلاج. أرجوك، حاول أن تأكل.”
لمست جوديث ساعد هنري برقة، فردّ عليها بلمسة ضعيفة بأصابعه المتشققة المغطاة بالصديد والدم.
فهمت قصده، فنهضت.
لم ينتهِ يومهم بعد.
أرسلت رسولًا إلى سميث لإبلاغه بنتائج التحقيق، ثم غادرت مع إيرن لمقابلة الماركيز موسلي.
—
كان الماركيز موسلي منشغلًا بمهمة طارئة مع القوات الأمنية، بعيدًا عن قصره.
“أرجوك يا ماركيز، أرجوك، حفيدتي…
ستموت إن بقي الوضع على حاله!”
“سأبذل أقصى جهدي، سيدتي.”
قالها بلطف لسيدة مسنة كانت تبكي بحرقة، مستندة إلى كاين، تكاد تنهار من شدة الألم.
كان كاين يحدق في السماء بعينين خاليتين من الحياة، يراقبها وهي تغادر في عربة واقفة أمام مركز الشرطة.
“أنا مرهق حتى الموت…”
“…إيرن؟”
كان صوته واهنًا، مرهقًا إلى أقصى حد.
“هذا يتكرر أكثر من اثنتي عشرة مرة يوميًا.
لا وقت لدي للتحقيق، فأنا غارق في شكاوى الأهالي.”
مسح وجهه بكفّيه، ثم صافح جوديث دون مجاملة.
“لقد وجدناهم.”
“ماذا؟!”
اتّسعت عينا كاين المُحمّرتان من التعب.
“لكن هناك شريكًا لهم.
اشتروا طريقة صنع المستحضرات مقابل المال.”
“أين هم؟
سأقبض عليهم بنفسي، وألقي بهم في السجن ليذوقوا العفن فيه!”
كان كاين غاضبًا أكثر من المعتاد عند مطاردة منتهكي القوانين المحرّمة.
لكن جوديث هدأته قبل أن يندفع.
“تمهّل، ماركيز.
لم نحدد بعد هوية من باع الوصفة.
نعرف فقط طريقة الاتصال… لا تتم مبادلة الأموال مباشرة.”
“بل يُدفنون المال تحت الأرض، ويُتركون غصن شجرة كإشارة.”
قطّب كاين حاجبيه بقلق.
“هذه طريقة يستخدمها أتباع العقيدة الحمراء.
إنها طريقة سيريس في التواصل.”
“أوه، رأيت شيئًا كهذا من قبل…”
قالتها جوديث وإيرن، وقد أخرجتهما الوصفة من صدمة اللحظة.
“لكن هؤلاء المحتالين لا يشبهون أتباع سيريس… على الأقل ليس الذين التقيناهم.”
“ربما من علّمهم الوصفة كان منهم؟”
نظر كاين إلى جوديث وقال:
“سيريس لم تكن من الأتباع، لكنها نفذت ما طُلب منها.
لذا، من الطبيعي أن يُكرر الآخرون ما فعلته.
ووفقًا لشهادة روام، تلك الجماعة تمرّ بضائقة مالية، وقد فعلوا ذلك لأجل المال.”
بدت فرضيته منطقية تمامًا.
“أرسلوا الجنود سرًا.”
ورغم أن تحركهم جاء متأخرًا قليلًا عن إيرن، إلا أن الوقت لم يُفُت بعد.
المحتالون خططوا للاختباء في الغابة لصنع المستحضرات، ومن ثم الانتقال إلى الشمال لخداع الناس هناك.
لذا، لن يغادروا قبل الانتهاء من التصنيع.
“سأنتظر لحظة الاتصال، وأقبض على من باع الوصفة دفعة واحدة.”
كان كاين مصممًا على الإطاحة بالجميع.
“هل تظنان أنني عاجز عن القبض عليهم؟ لا تقلقا، ارتاحا الآن أنتما.”
—
عدتُ أنا وإيرن أولًا إلى قصر راينلاند.
وما إن وصلنا، حتى أسرعت إلى الحمام.
أخذت حمامًا مطولًا، غسلت كل شبر من جسدي. رغم أنني مسحت وجهي ويدَيّ بمنديل إيرن فور خروجي من الخيمة، وغسلت جسدي في النزل أثناء عودتنا من الشمال، إلا أن فكرة زحفي على أرض ملطخة بالدم والتراب لم تفارقني.
غسلت وجهي ثلاث مرات، وشعري مرتين.
أي عذاب هذا الذي جرّه علينا هؤلاء المجانين؟ حتى الآن، حين أغمض عيني، أرى الجثث المطمورة تحت الحجارة.
“رحمة الله على الموتى…”
أرسلت دعائي شمالًا، محاولةً طرد الصورة من رأسي.
خرجت من الحمام، منتفخة من طول الغسل، لأجد إيرني في الردهة مرتديًا رداء الحمام.
“ظننتكِ قد غرقتِ، آنسة هارينغتون.
ما الذي أخّركِ كل هذا في الحمام؟”
كان قد انتظر طويلًا، وحين ضاق صبره، ذهب إلى حمام آخر واستحم.
“أشعر بالقشعريرة.
أنت لا تعلم ما كان في تلك الخيمة.”
“وهل تفخرين بذلك الآن؟”
“ومن قال إنني أفتخر؟ أنا فقط أروي ما جرى.”
“لا يبدو عليك الندم.”
بدأنا نتجادل مجددًا، أنا وإيرن.
“عذرًا…”
كان تان قد جاء ليحدثني، لكن إيرني قاطعه.
“إن لم يكن الأمر طارئًا، فلاحقًا.
أظن أن الآنسة جوديث هارينغتون بحاجة لتوبيخ صغير.”
“هل تعتقد أن روحي ما زالت تحتمل شيئًا؟”
ثم دخلنا معًا إلى غرفة إيرني.
وتمتم تان بصوت منخفض وهو يراقبنا نغلق الباب خلفنا:
“أعتقد أنكما تستطيعان النوم منفصلين الآن… لكن من الواضح أنكما لا تنويان ذلك.”
التعليقات لهذا الفصل " 83"