بينما كان كاين وإيرن يتشاجران، كانت جوديث تتجول في أرجاء القصر.
لم تكن تتصور أنها ستحظى بفرصة التجول داخل القصر بعد أن استحوذت على جسد جوديث، فشخصيتها، في الأصل، لم تكن جزءًا من العمل الأصلي.
“واو.”
في طريقها إلى قصر الشمس، حيث يدير الإمبراطور شؤون الدولة، راحت جوديث تنظر حولها بإعجاب متواصل.
لقد سبق لها زيارة منازل العديد من النبلاء ذوي المكانة الرفيعة في العاصمة أثناء توصيل البخور، وآنذاك اعتقدت أنها رأت كل ما يمكن أن يكون مدهشًا.
لكن القصر كان شيئًا مختلفًا تمامًا.
حتى العشب الذي يكسو أرضه بدا وكأنه نبت من تربة الفخامة ذاتها.
“سيدتي، هل هذه أول مرة تزورين فيها القصر؟”
“نعم، إنها المرة الأولى.”
وربما تكون الأخيرة أيضًا.
فهي جاءت هذه المرة للإمساك بعصابة الخونة، ولا يبدو أنها ستحظى بفرصة أخرى للزيارة.
“وهنا يتفرع الطريق؟”
“إذا تابعتِ السير مباشرة، ستصلين إلى قصر الشمس، مقر جلالة الإمبراطور.
أما إذا اتجهتِ إلى اليمين، فستجدين قاعة الاحتفالات والدفيئة المخصصة للولائم الإمبراطورية.
الطريق إلى اليسار يقود إلى قصر الورود، مقر الإمبراطورة، وإلى مبنى فرسان الهيكل.”
“أظن أن قصر الورود يزخر بالزهور فعلًا.”
“ويحمل اسمه عن استحقاق.
زهرة ليزابيل – وهي نوع هجين من الورد البري والبنفسجي الناعم – لا تنبت إلا في قصر الورود، ولا توجد في أي مكان آخر في القارة بأسرها.”
شهقت جوديث من فرط الدهشة، فزاد ذلك من حماس كاين، وشرع يشرح لها بحيوية أكبر عن معالم القصر، ومرافقه، وما تحتويه من برك مائية، والأساطير التي تدور حوله.
ووعدها، بحماسة لا تقل عن حماستها، بأن يأخذها في جولة شاملة داخل القصر بعد أن يأذن لهما الإمبراطور بذلك.
وعد؟ لكن لماذا؟
كان إيرن يضيق ذرعًا بحماسة كاين، ولم يرق له أيضًا إعجاب جوديث الظاهر به.
لكن أكثر ما أثار امتعاضه هو تموضعهم، إذ أصبح كاين يقف بينه وبين جوديث.
حين ترجلوا من العربة في البداية، كان إيرن في المنتصف.
غير أنه، وفي لحظة ما، أصبح كاين هو من يفصل بينه وبينها، يقترب منها، ويشرح لها كل زاوية من زوايا القصر وكأنه أحد سكانه.
هذا القصر لا يخصه أصلًا، فما الذي يجعله يتصرف كمرشد سياحي رسمي؟
ولو أن أحدًا نظر إليهم من بعيد، لظن أنهم في نزهة خاصة داخل القصر، بينما بدا إيرن كمرافق طارئ انضم إليهم دون دعوة.
“هل يمكنني الحصول على وردة؟”
“نعم، فالإمبراطورة تمنح الورود أحيانًا كهدية.
وبما أنكم ساهمتم في القبض على عصابة روام، فإن جلالتها ستمنحكِ ما تشائين من الزهور.”
تلألأت عينا جوديث ببريق من الطمع الذكي، وظن كاين أنها مهتمة فعلًا بالزهور وتعشقها.
لكن الحقيقة؟ لا.
ما فكرت فيه جوديث فقط هو: كم سيكون ثمن هذه الزهور النادرة لو صنعت منها شموعًا عطرية؟
يا له من ساذج، يتباهى بأنه سيهديها وردة، دون أن يدرك نواياها الحقيقية.
وفي اللحظة التي كان فيها إيرن يراقب بصمت، وقد ارتسمت على وجهه نظرة احتقار داخلية، قال كاين:
“إذا رغبتِ في صنع شمعة، فزهرة ليزابيل اختيار مثالي.
بتلاتها متينة وتظل جميلة حتى بعد أن تجف.”
“…؟”
تجمد إيرن ونظر إلى كاين بدهشة.
هل يعرف؟ هل يستطيع قراءة الأفكار؟
“هل ترغبين بصنع شمعة عطرية من زهرة ليزابيل وتقديمها كهدية لجلالة الإمبراطورة؟”
“هاه؟ كيف علمت بذلك؟”
“هاها، لو كنت مكانك، لتمنيت أن أُزوّد العائلة الإمبراطورية بمنتجاتي.”
هل كان الأمر بهذه البساطة؟ إيرن لم يفكر بهذه الطريقة إطلاقًا.
“سأحرص على أن تحصلي على بعض الزهور لتصنعي منها ما تشائين، سيدتي.”
“شكرًا جزيلًا، ماركيز.”
حقًا، أنتما ثنائي متجانس كأنكما منسوجان من نفس الخيط.
لم يكن إيرن بحاجة لمن يخبره بذلك.
منذ متى أصبحا بهذا القرب؟
كان دائمًا معهما، ولم يسبق أن اجتمعا بمفردهما، ومع ذلك بدوا وكأنهما يعرفان بعضهما منذ زمن بعيد.
نظر إليهما بإحساس متضارب، وملأ قلبه شعور حاد بعدم الارتياح.
شعورٌ صار واضحًا أكثر من أي وقت مضى، وسببه جلي.
“انتبهي، سيدتي.
أمسكي بذراعي.”
وفي اللحظة التي كانت جوديث على وشك أن تتعثر بحجر صغير، همّ كاين بمدّ ذراعه لإنقاذها، لكن إيرن أمسكه من مؤخرة عنقه ورماه جانبًا.
“أهخ!”
“يا صاحب السمو!”
تمايل كاين للحظة، لكنه استعاد توازنه بصعوبة. حدّقت جوديث به بذهول.
“هل أنت بخير؟”
“هاها، لا تقلقي.
هذا أمر معتاد حين أكون برفقة إيرن.”
“يا إلهي…”
يبدو أن الأمور ستتطور لتصبح مشاعر حقيقية عمّا قريب.
وقف إيرن بين كاين وجوديث، يزداد وجهه برودة وامتعاضًا كلما طال تفاعلهما.
كان على وشك اتخاذ خطوة حاسمة، لولا أن صوتًا جافًا متهكمًا قاطعه فجأة:
“ما كل هذا الصخب في حضرة جلالة الإمبراطور؟ تِسك تِسك تِسك.”
—
“تِسك تِسك تِسك، يا سير إيرن، ما الذي يدفعك لإثارة الفوضى بمجرد وصولك؟”
ذلك المساعد…
هو ذاته الذي وصفه العمل الأصلي بـ”الكلب المجنون”.
لأول مرة، خلافًا لوصف الرواية، حدّقت فيه بعين الفضول.
“كم مرة أخبرتك أن العنف محظور داخل القصر؟”
“قلتَها حتى طنينت أذناي.”
“تظاهر على الأقل بأنك تنصت، تِسك تِسك.”
جسد نحيل، عينان غائرتان، عروق ظاهرة في بياض العين، نظرات قاسية، ونظارة أحادية…
تمامًا كما وُصف في الرواية.
في الحقيقة، حين رأيت إيرن لأول مرة، لم أشعر بشيء مشابه، نظرًا لطبيعة الموقف حينها.
لكن رؤية هذا الرجل الآن، في محيط هادئ وساكن، بعثت في نفسي دهشة غريبة، وكأنني أرغب بلمسه لأتأكد من واقعيته.
“أرجوك، لا تفتعل المشاكل أمام جلالة الإمبراطور. انتبه لكلماتك وتصرفاتك.”
“ومتى كنتُ متهورًا؟”
“نعم!
لم تكن حذرًا يومًا في حياتك!
هل تذكر مرة واحدة كنت فيها كذلك؟!”
بدا أن المساعد على وشك الانفجار.
“ولِمَ تصرخ بهذه الطريقة؟ من الذي علمك عدم إثارة الفوضى في القصر؟”
رفع إيرن يده إلى أذنه بتأفف، وكأن صراخه يزعجه، مما جعل المساعد يزداد غضبًا حتى احمرّ عنقه بالكامل.
“ينبغي أن تكون قدوة.
أنت الآن من أتباع جلالة الإمبراطور، أليس كذلك؟”
“أن أسمع هذا الكلام من إيرن؟ إنه أكثر الأمور المذلة التي مرّت بي.
بل وصمة عار على عائلتي!”
“وما علاقة العائلة بالأمر؟”
تصاعد غضب المساعد حتى أصبحت ردوده أكثر حدة.
أما أنا، فكنت بالكاد أصدق أن لهذا الرجل لسانًا أصلًا.
وبدأت أتساءل إن كان لا يزال عاقلًا.
غير أنني، في نهاية المطاف، فهمت شعوره.
في الرواية الأصلية، عانى هذا الرجل كثيرًا، جسديًا ونفسيًا، بسبب إيرن.
كان ولي العهد – الذي أصبح لاحقًا الإمبراطور – واقعًا في حب البطلة، ويرغب في قضاء الوقت معها.
لكن إيرن، الذي كان حارسها، لم يكن يبتعد عنها أكثر من عشر خطوات.
ولم يكن يحرسها كما يفعل الفرسان الآخرون، بل كان يتكاسل، يجلس أو يستلقي أو يتظاهر بالنوم.
وحين يظن الحبيبان أنه استغرق في النوم، ويذهبان إلى مكان آخر، يظهر إيرن فجأة، وكأنه لم يغب عنهما طرفة عين.
حينها أمر ولي العهد مساعده بإلهاء إيرن، فحاول جذبه بالكحول وألعاب الورق، لكنه بدلًا من ذلك أرسله في مهام شاقة، وتبعه وهو يحمل زجاجة خمر فقط.
وفي النهاية، تلقى المساعد توبيخًا شديدًا لأنه أخفق في مهمته.
تحمّل الغضب غير المباشر أشد وطأة من العتاب المباشر.
شعرت بتعاطف عميق مع هذا الرجل العالق بين شخصيتين متسلطتين.
كل من عمل تحت إدارة رؤساء صعبي المراس سيفهم هذا الإحساس جيدًا.
نظرت إليه بعين التفهم، لكن المساعد – الذي رآني لأول مرة اليوم – شعر بانزعاج…
لا، بل بثقل غريب من نظراتي.
“لماذا تنظرين إليّ هكذا؟
لقد تزوجتِ من كلب مجنون، ويبدو أنكِ…”
تنهد المساعد داخليًا، ولم يكن قد أتمّ أفكاره، حتى توقف إيرن فجأة عن السير.
“هذا الطريق لا يؤدي إلى قاعة الاستقبال.”
“جلالة الإمبراطور أمر باستقبالك في غرفة الضيافة، تِسك تِسك.”
“ولِمَ تتنهّد وتقرقع لسانك وأنت تذكر الإمبراطور؟ هل تقصد أن الأمر مزعج؟ يبدو وكأنها شتيمة!”
استمر الجدال بينهما حتى وصلا إلى غرفة الضيافة.
ولحظة دخولهم، بدا وكأن المساعد على وشك الانهيار، لكن لحسن الحظ، وصلوا قبل أن يفقد أعصابه تمامًا.
“صاحبَي السمو، الكونت والكونتيسة راينلاند!”
دوّى صوت المساعد عاليًا وهو يعلن دخولنا.
لم أشعر بالتوتر طوال جولتي، لكنني الآن، وأنا على وشك لقاء الإمبراطور، بدأ القلق يتسلل إليّ دون سبب واضح.
“ما الذي يجعلكِ متوترة هكذا؟”
سخر إيرن وهو يرمقني بنظرة ساخرة.
“لا داعي للتوتر، سيدتي.
جلالة الإمبراطور رجل جيد.”
التعليقات لهذا الفصل " 73"