قالت كارولين بصوت خافت، رغم أن الغرفة كانت خالية تمامًا:
“أود أن أطلب منك معروفًا.”
“مني؟”
سألتها بدهشة.
“نعم، هذا صحيح.”
تابعت كلامها وهي تُخفض بصرها:
“أرجوكِ، سلّمي رسالة إلى أخي.
سيصل إلى الإمبراطورية قريبًا، وأرغب منك أن توصلي إليه رسالتي.
سأكافئك بسخاء.”
كانت عينا كارولين ترتجفان وهي تتكلم، تكشفان اضطرابها الداخلي بوضوح.
“ليس بالأمر الصعب، ولكن… لماذا تطلبين ذلك مني أنا تحديدًا؟”
كان غريبًا أن تعهد إليّ بهذه المهمة، رغم كثرة الخدم في قصر ماركيز فيرني.
“لا يمكنني الوثوق بأحد هنا… لا الخدم، ولا حتى زوجي.
قد يعترض طريقي، أو يسرق الرسائل ويطّلع عليها، بل ربما لا يُوصلها إلى أخي من الأصل.”
راحت كارولين تقضم أظافرها بتوتر حتى سال الدم من أطراف أصابعها، مما دلّ على مدى الاضطراب الذي تعيشه.
سألتها بسخرية، أُبطن فيها شكوكي:
“سيدة هارينغتون، هل تظنين أنني فقدت صوابي؟”
“لا، لا يا سيدتي! لم يخطر لي هذا مطلقًا!”
“الجميع هنا يتصرف وكأنني مجنونة.”
قالت ذلك والدم يسيل من إصبعها، بعدما غرست فيه أسنانها بقوة.
“زوجي يخونني، وأرى أشباحًا، لكنهم يزعمون أنني أتخيل كل شيء… أقسم لكِ، أنا لست مجنونة.”
فقلت بهدوء:
“اهدئي، سيدتي.
هل أفهم من كلامك أن الماركيز على علاقة بامرأة أخرى؟”
ارتشفت كارولين الشاي البارد كأنها تبتلع مرارة الغدر، واشتعلت عيناها الحمراوان بالغضب المكتوم.
“نعم، لديه امرأة أخرى.
طلبت منه الطلاق، فاشترط أن أقدم له دليلًا.”
كان ثمة ما يشي بخيانته، لكن لا يوجد دليل قاطع.
“تُلغى بعض الولائم في قصرنا من حين إلى آخر. أتعلمين السبب؟ ليُنقل الطعام والمشروبات إلى تلك المرأة.”
فعندما تُلغى الوليمة، يدعو الماركيز أصدقاءه للصيد، مدّعيًا أنهم سيستفيدون من الطعام المُعد.
لكن كارولين لم تقتنع بهذه الذريعة، وقالت بحدّة:
“لدينا ثلاث فيلات.”
واحدة قرب البحر، واثنتان في العاصمة. تُدعى إحداهما ‘فيلا الصيف’، والثانية ‘فيلا الشتاء’.
“فيلا الصيف تقع وسط غابة خفيفة، وبجوارها بركة ماء صغيرة.
لا أزورها بعد الخريف، لأن الطرق تغدو موحلة بحيث تغوص عجلات العربات فيها.”
لذا، كان الماركيز يستخدم عادة فيلا الشتاء خلال الخريف والشتاء، لأنها تقع فوق تل، وهو يُفضّل الصيد هناك.
“لكنني رأيت الطين على طرف سرواله حين عاد من الصيد…”
كان باردًا لا يُبدي اهتمامًا بكلامها، يبيت خارج المنزل كثيرًا، وقد بدا جليًا أن مشاعره نحوها قد خمدت منذ زمن.
ومنذ أن لاحظت الطين على ملابسه، بدأت كارولين تتقصّى تحركاته خلسة.
“صرت أراقبه عندما يعود من الصيد.
أخرج كأنني أستقبله، بينما أفتش العربة والحصان… في كل مرة أجد الطين على العجلات وأرجل الحصان.”
“إنه يخفي تلك المرأة في فيلا الصيف!
يقدّم لها الطعام المُعدّ للولائم! إنه يخدعني عمدًا!”
قالت ذلك بنبرة مهانة، وعيناها ترتجفان بفعل القهر.
“لكن، سيدتي، هذا لا يكفي لإثبات خيانته.”
“وهنا تكمن المشكلة!
الشك واضح، لكن لا يوجد ما يثبت ذلك قطعًا!
وزوجي يدّعي أنني أتوهم المرض!”
“هل فكرتِ في الذهاب إلى فيلا الصيف بنفسك؟”
“حاولت.
قلت إنني أرغب في رؤية البركة وقت المطر، لكن كبير الخدم اعترض بشدة، حتى إنه أرسل رسولًا إلى جناح زوجي ليُعجّله بالعودة.”
نشب شجار حاد بينهما، لكنه لم يكن العقبة الوحيدة.
“يا آنسة هارينغتون، لا أحد لي هنا.
جلبتُ معي أربع خادمات من المملكة بعد زواجي، اثنتان عدن بسبب الحنين، واثنتان تعرضتا لحوادث مروّعة.”
حتى إن أرادت الذهاب بالقوة، فهي لا تملك من يعينها.
السائق، كبير الخدم، الجميع في صفّ الماركيز.
“لا أستطيع مغادرة هذا المكان دون إذنه.
حين يصل أخي، سأطلب الطلاق فورًا وأعود معه إلى المملكة.”
لكن كيف لها أن تتأكد من أن رسائلها تصل أصلًا؟
“أرسل لي أخي رسالة يخبرني فيها بنيته القدوم، فأخبرته بشأن الطلاق.
ثم كتبت مجددًا إلى والديّ، لكنني لم أتلقَّ أي رد.”
ربما أخوها قد أبحر بالفعل، وربما لم تصل الرسائل قط.
فسألتها:
“وماذا عن الشبح الذي رأيتِه؟”
ترددت كارولين، كأنها خشيت أن أعتبرها مجنونة كما يفعل الجميع.
فقلتُ مطمئنة:
“لا تقلقي، سيدتي.
لقد مررتُ بتجارب كفيلة بجعل أي إنسان يظن أنني فقدت صوابي.”
زوجي الميت عاد حيًا دون أن يتحلل، انتشرت في المتجر روائح نتنة، وعشتُ مع حشرة جلبت لي المجد والثروة.
عندما التقت عيناها بنظرتي المطمئنة، بدأت تتكلم بصعوبة:
“أرى صديق زوجي المتوفى.”
“صديقه؟ تعنين أنك ترين شبحه؟ أخبريني كل شيء.”
“رأيته لأول مرة قبل شهر تقريبًا.
كنت في المكتبة بعد منتصف الليل، ولم أستطع النوم، فنظرت من النافذة…
كان واقفًا عند الباب الخلفي للقصر، صامتًا، لا يفعل شيئًا.”
لم تعتقد أنه شبح حينها، ربما ظنّت أنه شخص يشبهه.
لكن بعدما قررت الطلاق وبدأ البرود يسود بينهما، رأته مجددًا.
“في تلك المرة، رأيت وجهه بوضوح.
كان هو، بلا ريب.
وعندما أخبرت زوجي والآخرين، رمقوني جميعًا بنظرات تتهمني بالجنون.”
استدعى الماركيز طبيبًا نفسيًا، زاعمًا أنها تهلوس، وتتوهم الخيانة، بل وترى أشباحًا.
“هل رأيتِه وحدك؟”
“نعم.
كنت في مزاج سيئ، وخرجت وحدي… تمنيت لو أنني اصطحبت مايا.
لا زلت أندم على ذلك.”
“وماذا كان يفعل؟”
“بدا وكأنه ينتظر أحدًا… كان واقفًا يلتفت حوله، كأنه شخص حي.”
قالت إنها ركضت فور رؤيته.
وبينما كنت أستمع إليها، تسللت فكرة غريبة إلى رأسي:
“أتظنين أنه ليس شبحًا، بل رجل حي؟”
هل يُعقل أن يكون الماركيز، الرافض للطلاق، دبّر خدعة لإقناع زوجته بأنها جنّت، كي يمنعها من مغادرته؟
“ربما كذب بشأن موته…
أو اتفق معه على أن تخترع كارولين قصصًا عن الأشباح ليُتهم عقلها بالخلل.”
لكنها هزّت رأسها بعنف.
“لا، لقد مات فعلًا.
أُعدم بتهمة الخيانة.
أعتقد أنكِ سمعتِ باسم روام ستابيل.
كان قائد الفرقة الثالثة من فرسان الإمبراطورية.”
ارتعشت عيناي كما لو ضربني زلزال.
روام؟ كيف يكون حيًا؟
مررت كفيّ على وجهي، محاولًة إخفاء ارتباكي.
من المؤكد أن كارولين كانت واثقة من موته، فقد تم إعدامه علنًا.
لكن بدأت الخيوط تتشابك في ذهني:
ماركيز فيرني كان صديقًا لروام، وروام لا يزال يظهر في محيط القصر…
روام متورط مع السحرة، مما يرجّح أن الماركيز أيضًا أحدهم.
هل علموه تعويذة لإفساد عقل زوجته، أو دفعها إلى الخيانة، حتى لا يُستخدم هو كذريعة للطلاق؟
وبالنظر إلى منعه لها من التواصل مع أخيها، من الواضح أنه يرفض الطلاق بكل صرامة.
من النادر أن يجد امرأة ثرية مثلها…
لكن ظهور روام أمامها في وقت كانت تعاني فيه من الأرق والإرهاق بسبب تأثير السحر جعلها تظنه شبحًا.
عقلها المنهك، المُثقل بالخيانة والقلق، أفقدها القدرة على التمييز.
وهكذا، استُخدم كل شيء لإقناعها بأنها مجنونة داخل هذا القصر القاتم.
لكن… لا يمكنهم منع أخيها من القدوم.
ماذا لو انهارت حالتها النفسية قبل وصوله؟ ماذا لو ظنّ هو أيضًا أنها فقدت عقلها؟
حينها، سيبقى الماركيز زوجًا لامرأة مسلوبة الإرادة.
“آنسة هارينغتون… أنت تعرفين شيئًا، أليس كذلك؟”
قالتها كارولين وهي تحدق في وجهي، ثم مدت ذراعيها فجأة وأمسكت بكتفيّ بقوة.
التعليقات لهذا الفصل " 60"