ظللت أحدق فيه بدهشة تامة، عاجزة عن الرد.
لم يكن بوسعي سوى أن أبتسم بانبهار، وفي تلك اللحظة ارتفعت زاوية فم إيرن قليلاً، مما أثار ضيقي بشكل غير متوقع.
كان يفعل ذلك عن قصد، يغيظني عمدًا.
كيف لإنسان أن يكون مزعجًا منذ لحظة موته وحتى عودته إلى الحياة؟
وبينما كنت أتمتم متذمرة، واصل إيرن حديثه مع تان كأنني غير موجودة تمامًا.
“لكن لا تنوي البقاء دون مقابل، صحيح؟”
“أوه، سأدفع ثمن الإقامة بطريقة ما.”
“لا، لدي المال.”
ثم أومأ برأسه مشيرًا إلى يد تان، وقال:
“دعني أستعير يدك.”
—
في تلك الليلة الممطرة، استغلت العرّابة ورفاقها ظلام الليل ودخلوا قصر راينلاند عبر طريق مهجور.
كان عددهم يقارب العشرين، بينهم ستة أطفال، أحدهم رضيع، وثلاثة مسنين.
نصفهم انشغل بتنظيف القصر، رغم تأخر الوقت، فلم يستطيعوا تجاهل اتساخه.
أما النصف الآخر، فقد كُلف بصنع البخور.
قال أحدهم:
“بهذا، يمكنني – أنا وهنري وشخص ثالث – إنجاز كميات مضاعفة من العمل بدلاً من قضاء الليل كله في صنع الشموع.”
وبالفعل، كان إيرن يرغب في أخذ قسط من الراحة من العمل الإضافي في صنع الشموع، كما أراد أن أرتاح أنا أيضًا.
كنت أظن أنني سأتمكن من الاسترخاء قليلًا بعد افتتاح المتجر، لكن ازدهار العمل أغراني بالطمع، فبدأت أصنع الشموع حتى أثناء القيلولة.
قال لي:
“لذا، خذي الأمور ببساطة الآن.”
فأجبته بابتسامة ماكرة:
“هل تعرف المقولة: ‘دعنا ننام حتى نموت’؟”
“…ماذا؟”
“لن أفوّت هذه الفرصة لتخزين البضاعة.”
“…بهذه الطريقة ستنامين إلى الأبد.”
“الناس لا يموتون بهذه السهولة.
هناك من مات وعاد إلى الحياة، أليس كذلك؟”
ورغم نية إيرن في منحنا راحة، كنت أنا مصممة على استغلال الوقت حتى آخر لحظة.
وهكذا، عملت حتى ساعة متأخرة من الليل، قبل أن أغرق في نوم عميق.
“أوه…”
وفي تلك الليلة، راودني حلم غريب جدًا.
رأيت سهولاً قاحلة لا أعرف من أين جاءت.
لا شيء سوى بضع أشجار يابسة متناثرة هنا وهناك، تبدو وكأنها تحاول الاختباء.
في وسط هذا المشهد الكئيب، كان هناك كومة من الحطب كأنهم يستعدون لإشعال نار.
وكان هناك شخص ذو شعر طويل يدور حولها.
رغم بعدي عنه، بدا شعره طويلًا جدًا حتى إنه يكاد يلامس الأرض.
لم أستطع تمييز جنسه، هل هو رجل أم امرأة، لكنه كان يرقص حول الحطب بجنون.
ثم دوّى ضحكه المزعج كأنه أظافر تخدش سبورة. اختبأت خلف شجرة متعرجة، واستيقظت على وقع ذلك الضحك المرعب.
“…هاه، لقد كنت على وشك فقدان عقلي.”
استيقظت وأنا أفرك كتفي المؤلم.
لقد كان حلمًا غريبًا بحق.
ظل المطر يهطل طوال الليل، ومعه زارني هذا الكائن المجهول.
كان أمامي يوم حافل.
عليّ نقل الشموع التي صنعناها بالأمس إلى المتجر، وشراء ما ينقصنا من مكونات…
“هل استيقظتِ، آنسة هارينغتون؟”
“هاه؟ آه…”
فتحت الباب بلا تفكير، فمرّ تان مرتديًا منامه وحيّاني بابتسامة.
“الأخت ميا أعدّت الإفطار.
تعالي بسرعة.”
رائحة الطعام الشهي اجتاحتني، وتبعتها نحو المطبخ، لأجد ميا مشغولة بإعداد الإفطار منذ الفجر.
“استيقظتِ، آنسة هارينغتون.
أعتذر لاستخدامي المطبخ دون إذن.”
كانت تضع قطع الخبز القاسي في صحن بعد أن رشّت عليه الجبن الذائب.
في قدر كبير يغلي فوق النار، كانت تطهو شيئًا لم نجرؤ، أنا وإيرن، على الاقتراب منه من قبل.
“استخدمتُ ما وجدته من مكونات كما هي، فالناس لم يتناولوا وجبة حقيقية منذ أيام.
أخي بيشي سيقوم بشراء ما استُهلك لاحقًا.”
“لا بأس، في الواقع…”
لم أقل صراحة إن المكونات كانت هدايا من ماركيز فيرني والبارون بريغز، ولم أشتريها بنفسي.
“لكن الكمية كانت قليلة، لذا حولتُها إلى حساء. عندما تقل المكونات، نصنع الحساء.”
ابتسمت ميا ودَفعتني نحو غرفة الطعام.
منذ اختفاء الحشرة الذهبية، لم نستخدم تلك الغرفة أبدًا.
كنا شخصين فقط، ولم يكن بالإمكان تنظيف صالة طعام ضخمة يوميًا.
ولكن بمجرد أن لمستها أيدي الآخرين، شعرت للمرة الأولى أنها حقًا قصر أحد النبلاء.
“هكذا كانت تبدو؟”
ويبدو أن إيرن، رغم أنه قضى طفولته هنا، فوجئ أيضًا.
“إيرن هنا أيضًا.”
“لقد أيقظني ليخبرني أن الإفطار جاهز.”
كان الأطفال هم من ذهبوا لإيقاظ إيرن.
وما إن جلسنا، حتى دخل تان وهو يمسك بذراع عرّابته.
“آنسة هارينغتون، سيدي إيرن، شكرًا لكم.
لقد نمت بعمق بفضلكما.
لن أزعجكما طويلًا.”
بعد أن أنهت العرّابة كلمتها، دخلت ميا وصبي بدا في السادسة عشرة ومعهما الطعام.
رغم بساطته – بضع حبات بطاطا، جزر، بصل طري، وقطعة لحم بحجم كف – إلا أنه كان لذيذًا.
أما الخبز المغطى بالجبن الذائب فكان قاسيًا بعض الشيء، لكنه صالح للأكل.
“هذه وجبة بحق.”
“مرّ وقت طويل منذ تناولت طعامًا حقيقيًا.”
كنا نحن من يبرر نفسه بالانشغال، مكتفين بفتات خبز في ماء ساخن، أما أولئك الجياع، فقد شاركونا الطعام، لكن من أكل أكثر كان أنا وإيرن.
—
في المساء، عدت من العمل وفتحت باب القصر، لأجد نفسي أمام مشهد مبهر.
“هل هذا قصرنا حقًا؟”
“ظننت أنني دخلت منزلًا مختلفًا.”
“هاها، لقد نظفنا قليلًا أثناء غيابكما.”
“العشاء سيكون جاهزًا حالًا.”
قصرٌ نظيف، وطعام مُعدّ، ولا حاجة حتى لغسل الصحون.
“سيدي إيرن، سقط زر من قميصك، فأعدته وخيطته وكويته.”
“آنسة هارينغتون، قلتِ إنك بحاجة إلى منديل للرأس؟ صنعت لكِ واحدًا من قماش فائض.
ما رأيك؟”
أن يغسل الآخرون ملابسك، يصنعون مناشفك، ينظفون حمامك…
“راحة تامة.”
“إنه شعور لا يوصف.”
أنا وإيرن اتفقنا أخيرًا على شيء.
كنا بالأمس فقط نؤجل التنظيف والغسيل ونسحب أجسادنا المنهكة.
ثم، بين ليلة وضحاها، انقلبت حياتنا.
“السيد سيا، أنت بارع للغاية.”
“أحببت الأعمال اليدوية منذ كنت صغيرًا.”
لو لم يكن للشارتين مظهر مميز – عيون كهرمانية – لكانوا تمكنوا من كسب لقمة العيش ببراعتهم، لكن قلة طاقتهم الروحية منعتهم من أن يكونوا وسطاء، فاضطروا للعمل في الإسطبلات.
“بالمقارنة، صنع الشموع سهل وممتع جدًا.”
بصراحة، كانت براعة سيا تفوقي.
إن كان هنري يُعدّ بمثابة جيش في التجارة، فإن سيا جيش في عالم الشموع.
موهبة لا يمكن الاستغناء عنها.
وبفضله، نِمت مبكرًا تلك الليلة.
“لننعم بنوم عميق الليلة.”
تمدّدت على السرير متأهبة للنوم، فما إن أغمضت عيني، حتى وجدت نفسي في نفس الحلم مجددًا.
نفس السهول المقفرة، كومة الحطب، الشخص طويل الشعر يدور حولها.
هذه المرة، كان عاريًا تمامًا، لا رجل ولا امرأة، طويلًا وغريبًا.
رفع ذراعيه، حرك كتفيه، وبدأ بالرقص بجنون.
تصاعد دخان خفيف من الحطب رغم أنه لم يُشعل.
ثم، ازداد حماسه فجأة، فقفز في الهواء ودار برأسه.
شهقت وأنا أختبئ خلف شجيرة قصيرة، خائفة من أن يلمحني.
لكنه استدار مجددًا وكأن شيئًا لم يكن.
—
في اليوم التالي.
“…هاه، أشعر وكأنني ركضت طوال الليل.”
استيقظت وأنا أتنهد، أكتافي متيبستين كأنني تحركت طوال الحلم.
“إنه نفس الحلم الذي رأيته البارحة.”
لكن هذه المرة، كنت أقرب إليه.
حلم واحد يتكرر يومين على التوالي؟ لم أعر الأمر كثير اهتمام، فهو لم يكن كابوسًا بقدر ما كان مزعجًا.
لكن عندما تكرر أربع مرات متتالية، أيقنت أن ثمة خطبًا ما.
“لا يمكن… ما زال الحلم مستمرًا حتى اليوم؟”
كنت بالكاد أختبئ خلف صخرة بالكاد تصل إلى ركبتي، أراقب الكائن الطويل يرقص مجددًا.
المسافة تزداد قربًا، وأي حركة خاطئة كانت ستفضح مكاني.
تصاعد بخار أبيض من الحطب، بدا أشبه بالبخار لا الدخان، وكلما ازداد، ازدادت حركاته هيجانًا.
“ذراعاه طويلتان جدًا.”
رفع ذراعيه الطويلتين، والتي وصلت إلى ركبتيه، وبدأ بالدوران.
ثم، انزلقت وسقطت جانبًا.
توقف عن الرقص.
أدار رأسه ببطء. بياض عينيه لمع من بين شعره الأسود الكثيف.
كم كان مرعبًا!
شعرت بالقشعريرة تسري في عمودي الفقري، أردت الركض، لكن قدماي كانتا مغلولتين بالأرض.
نظر إليّ بصمت.
كان عاريًا، عظامه بارزة، شعره يلامس الأرض، وذراعاه الطويلتان تتمايلان مثل أعشاب البحر.
ومن بين خصل شعره المتشابك، بدأ يتمتم بكلمات غير مفهومة.
“لستِ أنتِ… لستِ أنتِ… لستِ أنتِ… لستِ أنتِ… لستِ أنتِ…”
وظل يكررها مرارًا، بصوت رتيب غريب…
التعليقات لهذا الفصل " 55"