“أعطني كل شيء من هنا إلى هناك.”
“هل هذا صحيح، سيدتي؟”
لم ينسَ هنري أبدًا الخطأ الذي ارتكبه حين ناداها ذات مرة بـ”آنسة”.
رغم ذلك، فإن ابتسامته الآسرة، التي بإمكانها اجتذاب القلوب من شتى الطبقات والأعمار، لم تفارق ملامحه قط.
كان يبدو مبتهجًا بحق، حتى مع كونه قد حصل مؤخرًا فقط على إجازة من الشرطة ليعمل هنا.
“…في تلك اللحظة، كان من المفترض أن ترتسم على شفتيه ابتسامة ماكرة.”
إيرن، الذي لم يكن يملك موهبة التفاعل مع الزبائن، ولا حتى الرغبة في ذلك، رمق هنري بنظرة مشوبة بالاستغراب.
بدا له هذا المكان أنسب له من العمل في الشرطة… يا له من وغد.
“السيد هنري هو الأفضل.”
قالت جوديث وقد بدت عليها علامات الرضا، وهي تنظر إلى هنري بعينين التقتا بعينيه، فما كان منها إلا أن ابتسمت بعينيها، فتقوّست جفونها كأهِلّة ربيعية.
“تبتسمين بعينيكِ.”
هل من الطبيعي أن تفعل ذلك مع صديق زوجها، وزوجها يقف إلى جوارها؟
تلبّد ذهن إيرن بالدهشة للحظة، في حين ابتسم هنري بدفء تجاه جوديث.
هل هذه الابتسامة حقًا موجّهة لزوجة صديقه؟
وبينما كان هنري يقف بعيدًا، مدّ إيرن يده ليغطي عيني جوديث التي كانت تقف إلى جانبه.
“أنتِ تخونيني.”
“تبادل النظرات لا يُعد خيانة.”
ضحكت جوديث بمرح، وأمسكت بيده قائلة:
“وكيف يكون خيانة وأنا أرملة؟”
ثم أخرجت لسانها له على سبيل المزاح، ودلفت إلى داخل المتجر.
ما فعله إيرن بتغطية عينيها لم يكن سوى دعابة.
وكلمات جوديث، تلك التي ادعت فيها بأنها حرة لأنها أرملة، كانت على الأرجح مزحة أيضًا.
أنا أعلم… أعلم هذا جيدًا…
“…ولكنني أشعر.”
لماذا يبدو كل شيء بهذا الشكل القذر؟
—
“كيف تجرؤين على خداعي، أيتها اللعينة؟”
لم تمرّ سوى أيام على افتتاح متجر الشموع الخاص بجوديث، حتى أدرك كين أنه قد وقع ضحية احتيال داهية.
لو أن سميث قد استثمر فعليًا في المتجر، لكان من الطبيعي أن يزوره حتى منتصف الليل، لكن لا سميث ولا أتباعه أظهروا أنوفهم، بل حتى الأخوين لوهمان لم يأتيا!
وحين اتضحت له الحقيقة، هرع لمواجهة جوديث… لكن دون جدوى.
“لا خلل في العقد، فلماذا كل هذا الانفعال؟”
دفعته جوديث بالعقد الذي أجبرته على توقيعه، فيما كان الرجل المقنّع بجانبها يداعب سيفه بخفة مخيفة.
لم يكن أمام كين خيار سوى التراجع، لكن الغيظ كان ينهش صدره.
ولهذا، وجد نفسه اليوم يسكب غيضه في أذن صاحب الحانة.
وفجأة، جلس بجواره رجل غريب.
“أعطه كأسًا أخرى.
على حسابي.”
رغم وجهه المليء بالندوب، لم تكن ابتسامته شريرة.
“ومن أنت لتدفع لي؟…
حسنًا، لا بأس، سأشربها شاكرًا.”
“يبدو أنك تمرّ بيوم عصيب.
جئت لأواسيك.”
لم يعرف كين وجهه، لكن ذلك لم يمنعه من قبول الشراب المجاني.
“يبدو أنك تعرّضت لظلم ما.
طالما لديك وقت، لم لا نذهب معًا وننظر في الأمر عن كثب؟ لعلّي أستطيع مساعدتك.”
—
“شكرًا لك، نرجو أن تزورنا مجددًا.”
بعد عدة أيام، كان إيرن واقفًا في إحدى زوايا المتجر، يراقب هنري بصمت وهو يودّع الزبائن بوجه مشرق.
هنري، الذي بدا أن العمل التجاري يناسبه، حصل على إجازة مرضية من الشرطة وانضمّ إلى جوديث في متجرها.
كانت جوديث معجبة بكونه يتعامل مع الجميع بنفس القدر من الاهتمام، على عكس إيرن، الذي اضطر لإخفاء نصف وجهه بسبب افتقاره إلى مهارات التواصل.
ومع ذلك، لم يكن إيرن بلا فائدة.
كانت لديه موهبة مدهشة في كشف اللصوص.
بعض الزبائن كانوا يحاولون التسلل دون دفع، أو يخفون شموعًا في جيوبهم، وكان إيرن يلمحهم ببراعة.
لهذا السبب، وضعت جوديث إيرن في الزاوية للمراقبة.
شعر بالإهانة من هذا الدور.
لم يكن العمل صعبًا، لكنه رأى في ذلك تقليلًا من شأن قدراته.
كان لديه مهمة أخرى: تعقّب وسيط النبيذ الأحمر.
لم يتلقَّ أي رسالة من ماركيز موسلي، الذي وعده بأنه سيتصل به إن لجأ الوسيط إلى “سيريس”.
لذا، قرر الذهاب إليه بنفسه.
لكن… لم يستطع مغادرة متجر جوديث.
“هل أنتما متزوجان؟ أم أنكما تتواعدان؟”
“ها؟ آه، لا.
هو فقط يساعدني مؤقتًا.”
“أوه، ظننتكما زوجين، انسجامكما كان واضحًا.”
كانت هذه المواقف تتكرر كثيرًا، كما يحدث الآن.
ثلاث من كل عشر زبونات تقريبًا يظنّون أن جوديث وهنري مرتبطان عاطفيًا.
حتى تان أساء الفهم سابقًا.
والآن، بدأ الغرباء أيضًا يظنون ذلك.
ومع ذلك، لم يُبدِ هنري ولا جوديث أي انزعاج.
وحده إيرن، كان يشعر بضيق يتراكم داخله.
هل هناك شيء بينهما فعلًا…؟
حتى لو وُجد، فهو ليس من شأنه.
هكذا ظلّ يقنع نفسه، لكن مشاعرًا لزجة، مزعجة، لم تفارقه.
تناديني بـ”عزيزي” عندما تحتاجينني، ثم تخبرين الآخرين بأنكِ أرملة؟
كم هذا مستفز.
نعم، لأن جوديث مزعجة فحسب.
حين أُرسل إلى الحلبة، نادتني بـ”حبيبي”، والآن وقد تخلّت عني، تعلن أنها أرملة؟ كلما تذكّر، ازداد ضيقًا.
“في المرة القادمة، لن يكون هناك شخص يُدعى هنري…”
احمرّ وجه الزبونة التي سألت عن العلاقة بين هنري وجوديث، وتوقفت فجأة عن الحديث.
“ما الأمر؟”
حين لاحظت جوديث تردد الزبونة، أدارت رأسها باتجاه الزاوية التي كانت تحدّق فيها.
هناك، كان إيرن يحدّق بها بعينين متّقدتين.
“أوه، أعتقد أنني سأذهب الآن.
إلى اللقاء.”
“آه، تفضلي بزيارتنا مجددًا، رجاءً!”
ركضت الزبونة خارجة من المتجر في ارتباك.
“قلت لك أن تطرد اللصوص، لا الزبائن.”
هل يوجد تصرف أكثر عبثية من هذا؟ رمقته جوديث بغضب، بينما هو رفع ذقنه بتفاخر، كأن شيئًا لم يحدث.
“الزبائن هم زبائن.
لا يُطرد أحد.”
“إذن لماذا طردت الزبونة؟”
وفجأة، انفتح باب المتجر.
تش، تش.
كانت جوديث على وشك الترحيب، لكنها عبست على الفور، وحدّقت في إيرن بشفاه منقبضة.
“قلت لك، لا تطرد الزبائن.”
“هل هذا زبون؟”
كان الداخل هو كين، المالك السابق.
دخل مترنّحًا، ويداه في جيبيه.
وعندما رأى جوديث، سعل بعناد، وكأنه يقول: “اقتربي ورحّبي بي.”
“ما الذي تريده؟”
لم ترغب جوديث في إثارة أي مشكلات أمام الزبائن، فأمسكت بإيرن ومنعته من التحرك، وتقدّمت بنفسها.
“جئت إلى متجر الشموع لأشتري شموعًا، ماذا تظنين أنني أفعل؟”
كين، الذي كان يتصرف بلطف بوجود الأخوين لوهمان، عاد إلى فظاظته السابقة، وتجاهلها.
“إن أحدثتَ ضجة، سأبلغ الشرطة.”
“أوه، هكذا تتعاملين مع الزبائن؟ أعطني من هذا وذلك.”
أخرج يده وبدأ يطرق بإصبعه على الشموع المعروضة.
“هل تنوي حقًا الشراء؟”
سألت جوديث بشك.
“أفترض أنك لا تبيعين إلا الزائف!”
رفع صوته بتحدٍ.
هل ينوي الهرب دون أن يدفع؟ مدّت جوديث يدها لتناول الشمعة، لكن إيرن أمسك بمعصمها فجأة.
“لحظة واحدة.”
“ماذا؟”
“لقد أسقط شيئًا هنا على الرف.”
حدّق إيرن بكين بحدة، وابتلع كين ريقه بتوتر.
“ماذا، ماذا أسقطت؟”
نبرة كين الرسمية فجأة، تدل على أنه إما يعرف أن إيرن شخص لا يُستهان به، أو أن هناك أمرًا ما يزعجه.
“حسنًا، إن كنتَ متأكدًا، فتفقد المكان.”
هل يحاول الظهور بمظهر الواثق؟
حتى أنه تجرأ على تشجيعهم على التفتيش.
بدأ إيرن يبحث بين رفوف البخور، وتبعته عينا جوديث، لكنها لم تلحظ شيئًا.
ثم فجأة، رفع إيرن شمعة، وسقط منها شيء أسود، أصغر من حبة فول.
“حشـ…”
كادت جوديث تصرخ “حشرة!”
لكنها أمسكت فمها بسرعة.
لحسن الحظ، لم يلاحظ الزبائن الآخرون، وكان هنري يتظاهر باللامبالاة.
“لا بد أنها طارت إلى الداخل عندما تُرك الباب مفتوحًا.”
صرخ كين، كأنه يقول: “لا تمسكوها!” لكن في تلك اللحظة، صعدت الحشرة السوداء الشبيهة بالخنفساء إلى يد إيرن.
وبردة فعل غريزية، ضربها، لكنها اخترقت جلده فجأة.
“…!”
وقبل أن تصرخ جوديث، اندفع إيرن نحو الباب الخلفي.
“إيرن!”
تجاوزت جوديث كين، وركضت خلفه.
“انتظر، هل أنت بخير…؟”
لكنها شهقت حين رأته يسحب خنجرًا ويطعن به ذراعه بلا تردد.
ما الذي يحدث بحق الجحيم؟!
التعليقات لهذا الفصل " 50"