قلبه لا ينبض.
حاول هنري بصعوبة استجماع أفكاره عندما سمع همس جوديث بصوت متقطع، يخترقه الارتعاش:
“هل أستدعي الطبيب؟ أم الشرطة؟ لا، أنا الشرطي هنا!”
بينما كان يُقلّب الأمر في ذهنه بإرباك، لمح يديها المرتجفتين تحاولان كشف الكفن الأبيض عن كامل الجسد.
“لحظة، سيدتي!”
رغم فوضى تفكيره، جاء صوته مشحونًا بالإلحاح:
“من فضلكِ، صوني كرامة إيرن!”
“عفوًا؟”
“إنه… عارٍ”
ارتخت يداها عن الكفن بسرعة، وحدقت للحظة قبل أن تقول:
“آه…”
وانساب الرداء على الأرض، بينما وقف هنري حارسًا على شرف صديقه.
—
“لماذا وُجدت جثة مدفونة في الغابة؟”
ظل هذا الجزء لغزًا محيّرًا، لكننا شرعنا
– هنري وأنا – في ترتيب أفكارنا.
نُقلت جثة إيرن إلى قصر راينلاند، قرار لم يُشعرني بالراحة؛ ترك الجثة في القصر كان خيارًا اضطراريًا.
قوانين الإمبراطورية تقتضي إذنًا من رئيس الشرطة لإيداع الجثة في المشرحة، لكن نفوذ هنري منحنا استثناءً مؤقتًا.
غير أن هذا الترتيب لم يكن ليصمد أكثر من يوم أو يومين.
“إذا أبلغنا الشرطة بأن موت إيرن يكتنفه الغموض، ستُحدث القضية ضجة كبرى”
أدركت أن جثة غير متحللة لابن غير شرعي لعائلة نبيلة ستُشعل النار في قلوب الشائعات.
ستنفضح علاقة الكونتيسة بهذه العائلة، وقد أُستدعى للاستجواب وربما الاعتقال.
وفي خضم هذا، هناك أمر آخر يقلقني:
“سأفقد فرصة تسليم الطلبية!”
سيُقال إن الشموع التي أصنعها في قصر راينلاند جلبت النحس، وسينهار عملي، وستتراكم الفوائد التي لن أستطيع سدادها.
وإذا حدث ذلك، سيجدني سميث ويسحبني إلى الجحيم الذي ينتظرني.
فكرت مليًا:
“هذا مستحيل!”
أقنعت هنري بنقل الجثة، ووافق.
لم يكن يرغب في أن يُشرَّح إيرن؛ إذ رأى أن التجارب على جسده ستكون إهانة.
“أعرف وسيطًا روحيًا جيدًا.
أريد أن أريح إيرن”
أخذت أُحدّق في هنري الذي بدا مؤمنًا بالخوارق.
“هل تمانعين التعامل مع الشارتين؟”
الشارتين… قبيلة صحراوية يمتهن أفرادها قراءة الطالع.
رغم أن الإمبراطورية ضمتهم منذ قرن، ما زال الناس ينظرون إليهم بازدراء.
أجبت بحذر:
“ليس لدي موقف معين تجاههم، لكن…”
ترددت قبل أن أقول:
“كم سيكلف الوسيط؟”
نظر إلي بدهشة، وأنا أرفع إصبعين وأهمس:
“عليّ دين قدره 200 مليون ذهب”
فقال بنبرة حازمة:
“سأدفع”
كان كريمًا بشكل غير متوقع.
—
في اليوم التالي، انطلق هنري بحثًا عن الوسيط الروحي، بينما بقيت أنا أمام إيرن الذي بدا حيًا رغم موته.
جسد لم يتحلل، ولا تصلب، ولاعيناه اصبحتا غائمة.
تملكني الذعر.
“لو كنت وحدي، لدفنته”
لكن بحضور هنري، لم أستطع.
وفي محاولة يائسة، أشعلت النار في الموقد.
“أنا آسفة، سيدي إيرن”
لكنني سأجعل هذه الجثة تتبع قوانين الطبيعة… لن أضحي بلقبي وثروتي لأجل رجل ميت.
في عالم لا يعرف الرحمة، المال واللقب هما سيفي وترسي.
توقفتُ فجأة وأنا على وشك أن أدير ظهري. شعرتُ بشعور ثقيل من الذنب وكأن قيودًا خفية أمسكت بكاحلي لتمنعني من الرحيل.
أي وصف قد يناسب هذا الإحساس؟ كأنني أترك مريضًا يحتضر دون أن أقدم له يد العون.
ترى، هل لأن هذا الجسد الراقد أمامي بدا نابضًا بالحياة أكثر مما يليق بجثة؟
“إن لم يكن هذا هو الموت المتجسد في الحياة، فما عساه يكون إذًا؟”
لم يكن ميتًا بالكامل، لكنه أيضًا لم يكن حيًا.
لو كان وعيه حاضرًا، لظننت أنه زومبي، أو جثة أعادتها الحياة، لكن الحقيقة كانت أغرب من أن تُصدّق.
وضعتُ إصبعي مجددًا تحت أنف إيرن، وكم شعرت بالارتباك حين لم أجد أثرًا لأنفاسه.
حينها لاحظتُ ما لم أره من قبل: آثار طين يابس التصقت بذقنه وخلف أذنيه وحتى كتفيه.
على الرغم من أنني لم أقم بأي جنازة من قبل، إلا أنني كنت على دراية بالطقوس التي تتطلب تنظيف الجسد قبل الدفن.
بدافع الشعور بالذنب والرغبة في التكفير، قررت أن أُطهّر جسده قبل مجيء الوسيط الروحي.
“معذرةً، سأقوم بهذا الآن”
أمسكتُ بمنشفة مبللة وبدأتُ بمسح وجهه وعنقه، واكتشفت أن الأوحال تغطي أجزاء أخرى من جسده العلوي.
“هل كنتَ تتدحرج في الوحل؟”
وجهت السؤال لجسد لا يجيب، حديثي كان أقرب إلى حوار مع نفسي.
“لماذا صدرك عريض بهذا الشكل؟”
سواء أكانت عظامه واسعة بالفطرة أم بفعل التمارين القاسية، فإن بناء جسده لم يكن أقل من تحفة نحتتها يد الخالق بدقة.
كتفاه الواسعتان، قفصه الصدري الممتلئ، وخصره النحيل المتماسك.
حتى عضلات بطنه كانت منحوتة بإتقان وكأنه تمثال اغريقي.
وأنا أواصل تنظيفه، راودني الفضول لأتفقد أي آثار لجروح حديثة.
لكن ما وجدته لم يكن سوى ندوب قديمة تحمل حكايات صامتة عن معارك مضت.
إحدى الندوب الممتدة قطريًا من أسفل بطنه إلى عظمة العانة دفعتني إلى التوقف فجأة عندما تابعت أثرها أكثر مما ينبغي.
شهقت خجلًا.
لم يكن مشهد رجل عارٍ مألوفًا لي في حياتي السابقة أو الحالية.
ومع ذلك، أدركتُ دون أدنى شك أن جسد إيرن كان… مهيبًا.
“آه… أعتذر”
وجنتاي احمرّتا بحرارة، وغطيت جسده سريعًا بقطعة قماش وكأنني بذلك أستعيد شيئًا من رباطة جأشي.
—
مرّ تسعة وأربعون يومًا على زفافي.
“روحه محبوسة داخل جسده… يا للمسكين”
حين ماتت نيران الموقد وتلاشت حرارة الليل، أطلّ علينا نهار جديد.
أحضر هنري وسيطًا روحيًا، رجلًا تتبع أثره طويلًا حتى وجده، إذ كان يعيش حياة متجولة بلا مأوى ثابت.
“لقد ظلّ مختنقًا بالحزن، متعطشًا للمغادرة، لكنه عاجز عن الرحيل”
توقعت أن يكون الوسيط امرأة عجوزًا تتدلى التجاعيد من وجهها، لكن بدلًا من ذلك، وقف أمامي شاب بملامح برونزية وعينين بلون الكهرمان.
ملامحه كانت تحمل بصمة قبيلة الشارتين، تمامًا كما وصفتها الحكايات القديمة.
“إذن، جسد إيرن لا يتحلل؟” سألتُ بقلق.
“نعم، روحه أسيرة جسده الذي صار سجنًا لها”
أجاب الوسيط بصوت مشحون بالوقار.
فكرة الجسد الذي يأبى أن يتحلل لأن الروح لم تجد منفذًا للخروج بدت معقولة رغم غرابتها.
“كيف يمكن تحريره؟”
“بفتح الأبواب”
“أبواب؟”
“نعم، في جسد الإنسان ثلاثة أبواب تفتح عند الموت لتصعد الروح.
لكن أبوابه بقيت موصدة”
“لماذا لم تنفتح؟”
“هذا شائع بين أولئك الذين بلغوا أقصى حدود التدريب البدني، مثل السير إيرن”
رغم غموض الشرح، وافق هنري بحماسة كما لو وجد في هذا التفسير ضالته.
الوسيط استرسل:
“علينا فتح الأبواب لتتمكن الروح من المغادرة والجسد من العودة إلى الأرض”
مد يديه بتواضع وقال:
“هل ستفتحون الباب معي؟”
هنري أمسك يديه وأومأ بعزم:
“نعم، بالطبع!”
“وكيف نفتح هذه الأبواب؟”
“بإقامة طقوس”
تنهّدت داخلي.
بالطبع، كان الأمر ينتهي دومًا عند هذه النقطة
-طقوس، صلاة، أو تضحية.
ما الجديد؟
السيناريو يسير كما توقعت تمامًا.
التعليقات لهذا الفصل " 5"